الأربعاء، 30 نوفمبر 2016

خيالات النداهة.. سليمان جمعة / عصام سعد

قراءة للأديب الناقد اللبناني/ سليمان جمعة

في القصة القصيرة

سليمان جمعة
خيالات النداهة

 عصام سعد / مصر
 

وجودها يتطلب وجود من تكون قد استلبته...هنا هو الكاتب ...الكبير ..وما ن الكتاب يبتدع خرافات على حد تعبير أرسطو ..أي عالم خيالي افتراضي ..إذن يتآلف والنداهة في حضورها بأطياف مختلفة ..وفي أصواتها وأصدائها.
هل يكون هو قد جرد من ذاته نداهة ؟ فتكون القفلة "ها أنا بينكم أقضيها"
أي سنوات الحكم ...أي ان الحياة هي السجن ..الكبير ..بين هاتين الافتراضين نعيد قراءة النص ..
المقدمة تكاد تكون خطبة عن الكتابة وأنها تبدع ولا تكرر ذاتها..وتحكي بعمقها عن غرور ما وهو وهم ..أدبي أصلا ..هذا التقريظ للذات ..خيال ..لذا هو.مهد لشخصية تعيس وهم أو تضخم في الذات ..أي قابلة لقبول الوهم...
وقد أكد ذلك في قراءة نظرة عامية للناس غير مؤكدة ..فيها مغالطة .. المرأة التي تتكلم عن العفة تكون لابسة قناعاً ..فهي خائنة ..لامنطق..التأويل كانه امتداد لغرور الشخصية .أو هي انغماس في غوغائية الرأي الاشاعاتي الثابت بلا دليل ..كانما يقول أن كل هذا العالم مصاب بجنون الشخصية المضخمة ....أراد أن يجرب ..فكتب القصة ..راقب المرأة التي تعيش معه ..وهذه العبارة مبهمة ...كيف تعيش معه بأي صفة ؟ زوجة أو مساكنة أو عشيقة أو ..هذا وهم وضعنا فيه ..ليبرر أو هنا قد تواطأ مع النهاية ..التي يعرفها مسبقاً ..إذ اعتقاده أنها تلبس قناع التقوى وهي خائنة ...ووضعنا مرة أخرى في تعماية .."اكتشفت"..ماذا اكتشف ؟
هل اكتشف صدق تصوره وتصور الناس الموروث الشفاهي..أي ثقافة الجمهور...
بقيت النهاية .. قتل ...
كصدمة تبين له أنه قتل زوجها...وهو العشيق ..إذن المعلومات كلها أقنعة ..وما عليه الناس كلها متهم ...
الوهم نعيشه لا بد من صدمة لتنهار أوهامنا ..وما نعتقد أنه خطأ هناك يجب أن نفتش عنه فينا ..
إذن النداهة تعيش فينا ...نخلقها ..بعبقرية ..
من نحن ؟
طبقة الكتاب ...المسؤولون عن أفكار المجتمع...كيف ننخرط فنعيد لهم ما هو فيهم ..نزينه ..بهذا الادعاء أننا كتاب..عباقرة ..
والاتهام متبادل كذلك ..المجتمع مستقر جامد ..فمن يحرك من ؟.....

سليمان جمعة


النص

 خيالات النداهة

 
عصام سعد



أرجو عدم مقاطعتي.....لأنني لن أكرر هذا الكلام. فالتكرار يضعف العمل الأدبي أولا:ً أنا معترف. ثانيا: أنا بريء. والعلي القدير بما أقول عليم وشهيد. فأنا أديب متمكن وقصاص بارع. الجميع يعترفون بمقدرتي الأدبية وعبقريتي القصصية. لدرجة أن أحد كبار النقاد كتب عني قائلاً :ـ إن كل نقطة حبر فى العالم تتمنى أن توضع فى سن قلمي لأنسج بها ومنها قصة يخلدها التاريخ. كلماتي لا تكال بالقراض. بل يتعامل معها الجميع على أنها صيغت من عروق الذهب الخام, هذا ما أتفق عليه النقاد.
بينما أنا فى تأملي المعتاد. تراءت أمام عينى العبارة القائلة ( كلما تحدثت المرأة عن الشرف. فاعلم أنها ساقطة ), طرأ لى خاطر الكتابة عن خيانة المرأة.
حدثتني نفسي بأن كل النساء خائنات, لعل تلك المرأة التى تعيش معي...... والعياذ بالله. بالرغم من تقواها وورعها الذي تظهره دائما ًعن قصد, بدون مبرر. إذا ً فلا بد أن فى الأمر شيئا . فعزمت على مراقبتها وألا تغيب عن نظري أبدا ً. وإن كانت........ والعياذ بالله. سأضع أعصابي في ثلاجة حتى أتمكن من معايشة التجربة والأنغماس فيها لأبدع قصة لا مثيل لها, قمت بالمراقبة , أكتشفت ........ 
كتبت القصة, للأسف لم أجد لها نهاية. الفعل يتم تكراره ثم لا شيء. هذا التكرار يؤدي لتوتر القارىء ويصيبه بالملل. أخذت مسدسي, صنعت الحدث الأخي,
دونت ذلك بالقصة......... , أكتشفت من التحقيقات. أنني قتلت زوجها. فأنا الذى كنت عشيقها, كانت الأدانة مصيري, خمسة عشر عاما ً فى إنتظاري 
ها أنا بينكم أقضيها .......





عصام سعد

التسميات:

ربيع بلا أزهار .. أيهاب بديوي

ربيع بلا أزهار

قصة قصيرة
إيهاب بديوي
مصر




اصطدم بحائط زجاجي غليظ، اختنق وهو يلملم بقايا كرامته من على الأرض بعد أن لاحظ نظرات السخرية وابتسامات مكتومة في عيون كل من شاهد الموقف، نفض الغبار عن ملابسه وأسرع يغادر المكان، تذكر أنه لابد أن يدخل المحل لشراء شيء ما، دخل مترددا مترقبا متلفتا، كان المشترون لاهون في عوالمهم، هدأ أخيرا، اختار ركنا منعزلا ووقف للحظات يتمالك بنفسه، لم يستطع مقاومة دمعة حارقة اخترقت مقاومته.
خرج دون أن يشتري شيئا، غائب عن الوعي يجر أحلامه، ترتعد أطرافه وتتجمد ملامحه، وصل إلى منزله منهارا، جلس على المكتب الخشبي العتيق وتأمل في لوحة جدارية رسمها في مرحلة ما من حياته، يعتز بها كأنها أحد أبنائه الأربعة، هي خامستهم في الحقيقة، ثلاثون عاما تزيد قليلا حين رسمها قبل أن يلتحق بالجامعة، أخذ نفسا عميقا ودار عدة مرات بالمقعد المتحرك، لم يلبث أن طلب من الخادمة أن تعد له قهوة سوداء، أدركت أنه حزين، طلبت أن تحدثه، طلب منها أن تجلس أمامه..
- ماالذي حدث يا سيد آدم، تبدو حزينا.
- لا شيء جديد يا وردة، ضغط في العمل.
- خمسة أعوام في منزلكم سيدي، أعرفك جيدا.
- سأضطر إلى الاستغناء عنك يا سيدتي، سأبيع السيارة، سأخرج الأولاد من المدارس الراقية، وربما أبيع هذا المنزل، تبدلت الأحوال قليلا.
ألجمت الصدمة وردة عن الرد، فقد كانت سعيدة بالعلاوة التي تلقتها منذ شهرين ورتبت حياتها عليها.
نظر لها قليلا ثم التفت إلى النافذة المفتوحة أمامه وأكمل حديثه:
- العالم يسير من سيء إلى أسوأ، خيروني بين التقاعد أووظيفة حقيرة، كانت صدمتي كبيرة لدرجة أنني لم أستطع الحديث، كان يجب أن أثور عليهم، لا لا، كان يجب أن أثور منذ وقت طويل، أنا الذي أهدرت حقي وتركت لهم الفرصة ليتحكموا في مصيري، والكلب الذي أدخلته مكتبي وأطعمته معي، عقرني بعنف، تخيلي أنه كان يعرف من بداية العام، بل وعرف من سيتولى منصبي ولم يحذرني، الخونة يحكمون العالم.
تعلمين يا وردة أني أحبك وكنت أتمنى أن تبقي معنا، لكن الغلاء الفاحش الذي نعيشه لن أستطيع مواجهته بمعاشي المتواضع، ومكافأة نهاية الخدمة لن تكفي شيئا، ولا أعتقد أنني سأجد عملا مناسبا، ربما أرضخ في النهاية وأتفرغ لممارسة هواياتي، الأولاد سيتأقلمون على الوضع الجديد، أعتقد، ماذا أستطيع أن أفعل، أرجو أن تسامحيني، بالتأكيد من يملك مهاراتك سيجد عملا سريعا، المشكلة كبيرة جدا، لكن أعتقد أني سأحلها، لابد أن نضحي جميعا، لا تقلقي، سأعطيك راتب شهرين إضافيين حتى يمكنك إيجاد عمل جديد، هل أنت راضية الآن يا...
التفت فلم يجدها، كانت القهوة على مكتبه قد بردت منذ وقت طويل.
إيهاب بديوي

التسميات:

الاثنين، 21 نوفمبر 2016

إنهم يعبرون الشمس.. أمنية الجنابي

إنهم يعبرون الشمس

قصة قصيرة


أمنية الجنابي
العراق

في صيفٍ قائظ تهدهدُني أمي التي ما انفككتُ أسألها حين رؤيتي القمر: ماما، هل لي أن أصل إليه؟ ألمسه؟ إنه صغير.
_حرام ابني، نم نم.
_ طيب والشمس؟
_ابني هذا كفر، الشمس ملكُ الله وتسكنُ السماء.
أحلامي تروادني كلّ يوم، تعطيني القمر..تسكنني السماء مع الشمس.
_هل لي أن أحكي لك حلمي اليوم؟
_لا تقل لي أنك أمسكت بال.. وسكنت السماء مع ال..! حفظتها ابني، تتبعها بضحكة حنانٍ. تضمني. أمي لاتصدقني
جاؤوا بتابوت أبي، يبكون..ينوحون وأنا أختبىء خلف الباب أنظر للبواكي. أمي تقبل وجههُ وتخاطب الجمع: انظروا إلى وجهه، هو كالقمر، بل كالشمس، إنه يبتسم ابتسامة شهيد... تعاود البكاء.
بعد أسبوع، هدأت قليلا فسألتها: أين أخذه الرجال؟
ردت: إلى السماء..نم بني، نم.
نمت وقد رأيته خلف الشمس، ذهبتُ إليه بالقمر؛ فاحتضنني..حلقنا سوية من سماءٍ إلى سماء.
صرتُ أخجل أن أروي لها أحلامي؛ إلاّ مرة أفلتت مني طائرتي الورقية واختفت؛ قالت لي أن طائرتك ستحطُ على بيت خالك بعد كم يوم ولن تصل السماء كما وصفتها في أحلامك.
_ماذا يعني حلمٌ ماما؟
_الحلم أن نعيش سوية بلا بابا،ننام ونأكل..ننام ونأكل.. وحين نكبر نلحق به.
_حلمي ليس هكذا ماما! فقد طرنا أنا وأبي وحلقنا بعيداً جداً.
_نم ولدي، نم
كل يوم أنام فيه.. أفيق وهما تلازمان غفوتي ويقظتي.
لم أعد أحبُ اليقظة، فكل يقظةٍ تعني وجهاً آخر مبتسماً. صرتُ أحب النوم أكثر من ذي قبل، ففيه مصاحبة السماء بلا وجوهٍ مدمّاةٍ ونساءٍ نائحات.
تمنعني أمي من الخروج في زمن الإبتسامات؛ ولكنّ طائرتي الورقية الجديدة تسحرني..تشدني إلى الشمس هربتُ ظهراً وهي قائلة.
اعتليتُ جناحيها، فطرنا سويةً.
أمسكتُ بالقمر؛ أهديته لأبي، عندها اختفينا خلف الشمس.
 الشمس ليست حارقةً أمي كما قلت لي...القمر صغيرٌ كما أخبرتك.

أمنية الجنابي

التسميات:

هافانا .. اسماعيل مسعد

هافانا 
اسماعيل مسعد

قصة قصيرة 
اسماعيل مسعد
مصر
تناولَت سيجارة من علبة التبغ النسائية الطويله نسبيا، إقتبستْ نارا لسيجارتها من شمعة حمراء، كانت تبدد القليل من عتمة المكان وسط المنضدة، نفثت عباب سحابة دخان كثيفه غازلت بها ضوء الشمعة، تراقص الدخان متحلقا حول الضوء الذي كاد ينطفيء لولا نفاذ دخانها المحمل برائحة التفاح، بدت السيجاره رفيعة بلون الشيكولاته بين إصبعيها الشمعيتين ذات الأظافر الملونه، كسيجار هافانا الفخم بين إصبعي كاسترو المتمرد، لاحظت أثرا لحمرة شفتيها الأرجوانيه عند نهاية الفلتر، حين تخلت عن سيجارتها علي حافة المطفأه، تناولَت هاتفها ذو التفاحة المقضومه والمتاخم لعلبة التبغ، ثم فتحت الكاميرا الأماميه واقتربت من ضوء الشمعه، هذبت الكحل الأسود حول عينيها بطرف منديل ورقي، كرمشته قبل أن تتخلي عنه للمطفأه وتستعيد سيجارتها، بدت قلقه من ارتعاشة خفيفه لطرف سيجارتها الطويله، وهي في طريقها للمثول بين شفتيها الدقيقتين، نظرتْ نحو القمر الوليد الذي لم يقدم عونا يذكر لشمعتنا الوحيده، ثم قالت، الحرية لدينا كلمة مستنسخه كجنين مخبري، أتي بعيوب خلقيه، اختلف فريقه الطبي بين إمكانية مواصلته للحياة، أو الخلاص منه رفقا به من رحلة آلام متوقعه، طرحت سؤالا وظلت أتابع إجابتها باهتمام، فضحكت وهي تقول( من قال أن سيجارتي هذه جزء من الحريه )؟، تلك ترهات بيزنطيه لرجل شرقي مثلك، ما الفائدة المنتظره للمجتمع لو أنني تخليت عن سيجارتي الآن، وما يضيره لو تمسكت بها حتي تقضي علي ذلك الجسد المتعب، فلا أحد يتحدث عن سيجارتي طالما أعانقها في المكان المخصص لذلك، ولا أحد غيري يعلم بشأن حذائي صاحب الكعب المدبب الذي يؤلم قدمي الآن، لذا تخلوا عن التدخين كما يحلو لكم، ودعوا رئتي تستزيد من النيكوتين بإرادتها الكامله ومطلق الحريه، ولتهتم أنت ومنظمة الصحة العالمية بمشكلاتكم وفشلكم الذريع حيال ضحايا الفقر والتشرد حول هذا العالم المتواطيء،.
ماذا لو قرر الرب إرسالي إلي الجحيم، شأن من هذا غيري ؟
السيجارة التي أتعبتكم تلك هي الوحيده التي تحترق لأجلي، فهي تمنحني التشفي وأنا أنفث دخانها نحو هوة الأوذون السحيقه، كي ينال هذا الكوكب البالي نهايته الوشيكه، طلقني زوجي منذ أسابيع مضت، ذهب كل منا نحو عوالمه بهدوء حثيث، واستنادا لنصيحة صادفتني في كتاب ما، إبتعت ثلاثة حيوانات أليفه، ليتانوبوا علي مهام الزوج، كلب ينبح كلما اقترب غريب من المنزل، وببغاء يصرخ طيلة النهار بعبارات مكرره، وقط أفتح له الباب عند الفجر بعد عودته من نوبة التسكع اليوميه، سكتت وهي تُسند ظهرها للمقعد ثم أرسلت بقايا السيجارة بأطراف أصابعها لعمق النهر، مُدت يدي لعلبة تبغها فأشعلت لها سيجارة من الشمعه، أودعتها الفراغ بين إصبعيها، واتخذت لنفسي سيجارة، نظرت لسيجارتي البكر بسخريه ثم قالت عبارتها الأخيره، خيرا فعلت، دعنا ندخن في هدوء ...

التسميات:

الخميس، 17 نوفمبر 2016


نبقة وحيدة .. وفرعٌ عال .. محمد عبد الحكم .. مصر

نبقة وحيدة .. وفرعٌ عال 

قصة قصيرة




محمد عبد الحكم

 مصر


قطِّّعي تلك الدجاجة واطعميني ... فالغائب حتماً لن يأتي، وشمس النهار تدحرجت خلف التلال، وتي جِمالُ الليل تدوس بقايا الضوء بأخفاف ثقال.
منذ الصباح يا بنت العم والهموم تسوقني، أمضي كجمل محمل بالمواجع، تدحرجني الرياح وتحتويني المصاطب وبقع الطمي وأعشاب الجسور وتعرجات خطوط الأفاعي على التراب اللدن.
أنكفيء على همي وصرة من نبق تحبينه، له طعم الحياة وهياج النخيل للطلع، تحاصرني أيادي الصبية، أزيحهم بجسدي المتعب، وألعق بقايا دم ينبثق من غزات شوك أدمتني وأنا أنتقي الصوابح من النبق، صفراوات كالزبد ، متحجرات كأثداء بنات العنب.
هناك في أعلا الشجرة واحدة لم يصبها حجر أو تطولها يد.
أتمدد كثعبان، أنسلخ من بين الفروع والأشواك، غزغزات توجعني وأمل يدفعني، سأحتويها بيد متلهفة، أتحسس دفأها وحياة تتفجر فيها، تلك التي تنزلق في فمك، أعبئها بالحكايا وشوقي إليك، كي تبثها عبر دمائك، وأترقب نقاة تنطلق من جمرتي فمك، تحط على التراب، تحمل دفء أنفاسك وشيئاً منك، سأتبعها، حتى لو كنسوا البيت ألف مرة، ألتقطها ويحتويها فمي، عبق هو طعم التراب وكناسة البيت وحلاوة لعابك، سأحتفظ بها في صُرة خبأتها بين سباط النخيل، أصعد إليها حين تلوذين بحجرتك والمواويل، وتسحقني الوحدة والبرد وقهقهات العابرين وشارات الأصابع، أتحسسها، تلك التي استحالت صلبة وثقوبها تحوي الحكايا، خشونة ملمسها تدغدغ الروح وتشعل البهجة في صدري المنقبض.
نقاة صغيرة تملأ الفم والروح، ألوكها وذكريات عائلة حملتُ همَّها وأجسادها على النعش، أنفض يدي من لحدهم لأحتضن الأرض والبيت وميراث الجدود، أعض عليها بالنواجذ وأدثرها بروحي، ذكريات أعيدها على مسامع الجدة المتناسية.
- أقعُد وإحك.
- أمرك يا جدة.
فتسمع وتنسى وتنام، وأحكي لليل وفضاء البيت الوسيع وجريد نخيل يتدلى على
أسطح البيوت، وطيور تمرق شارخة ستارة الليل وتغيب عبر السواد إلى مكان تعرفه وإلفٍ تألفه.
وأنا والحكي والبيت وجدة نائمة.
وحين يحط عليَّ النوم .. أفتح عينيَّ كالذئب، أترصد الجدران الواطئة خوفاًً من أقدام اللصوص وأفواه تريد افتراسك.
يا الجدة قومي ولو نصف نائمة، هدهديني بالأحجيات، ثقيل هو الليل الراقد فوق الدنيا ، يعتليني كمارد، يكر عليّّ تلال المواجع.
إسمعي يا جدة ، أتذكرين يوم الحصاد وفرك السنابل، حكايا الهلالي والبدوي وصلاح الدين والشاطر حسن، وجرناً حملته على ظهري وأنا أبدر المواويل، فتنبت الضحكات في وجهك الطفولي ملء الحقول.
...... أ وووهـــ .. نمتِ يا جدة ..
سأظل أحكي حتى تصافح وجهي شمس الصباح وظهر بنت العم وهي تعدو صوب مكان بعيد.
وها أنا أتدلى من أعلى الشجرة
، أعض على ثوب ملأته بالنبق، أهيل العيال وأقسم أن لا أحد يذوق النبق قبلك، كي أتمدد ملء الكون وتندلق دلاء الفرحة في قلبي، ألف ألف فم، لكل فم ألف ألف لسان لا يحكون فرحتي، نوارس وأحصنة وجمال وهوادج، دقات دفوف وطيور تغرد، كلي لا يحتويني وأنا أرى أسنانك تجز وفمك يلوك وعينيك سارحتين في المدى البعيد.
وحين لا تعود عيناك إليّّ ... أنكمش ، وتضربني الحسرة بآلاف السياط.
وأود لو ان البدوي يحملني على فرسه هناك ... حيث تتلفت عيناك على شبح غريب لن يأتي.
وأنتظر نقاة ستقذفينها الآن من فمك، تحط على التراب وتدحرجها مكنسة الجدة ويحتضنها فمي.
وأهم لأنهض من بقعة الظل محملاً بالحصاد. تحاصرني الأيادي وعصي البوص وأفواه تريد أن تلتهم الفرحة من قلبي، تنفتح وتنغلق كخشب المشانق، وأسنان تدهس كأحجار الطواحين، حناجر رنانة وأفواه تصرخ بعشرات الألسنة :
ــ هات نبقة يا علي يا عبيط، هات نبقة يا علي يا عبيط.
ويتنامى الضحك بين الغيطان، وتميل النسوة على بعضهن حول الأفران بألسنة كالمطارح، يحكين عن ولدٍ مغرم، يحمل عبء عائلة وميراث الكرامة وعبق الجدود وخرائط الحدود وصبر الجمال، تطير الحكايات عبر دخان الأفران ورائحة الخبز وخبطات الأكف فوق العجين وتطوحات ألسنة اللهب ومصمصات الشفاه.
وأجري ..... يخونني جسدي الذي دشدشته الهموم وعصي الأعادي وحش السنابل وطلع النخيل ورفس البهائم وثقل أجولة القمح فوق الظهر المتعب.
وها أنا قادم يا بنت العم، يسبقني لهاثي ويتبعني صياح الصبية، أتخطى القنوات، وأهيل التراب، أنكفئ وأعتدل، وأنت ما زلت طفلة تتربعين على عرش قلبي، يهدهدني صياحك ونحن ندور بين النخيل، نعبئ ملء حجرينا ونضحك متسع الدنيا، أفرغ ملء حجري بلحاً في حجرك، وأتشمم من قرب أنفاسك الدافئة ورذاذ يتطاير في وجهي، يمرق النسيم لعوباً فيكشط الحزن عن وجهينا ويرشنا بالبهجة.
وتنطلقين هناك إلى ولد يتكئ على كومة خوص، يشكل بالسعف عروساً، كان بارعاً حد الدهشة، يرصص عالماً من ناس صنعهم من سعف النخيل، ربما كان يتسمع إلى حديثهم ، حين يقترب منهم حبواً ، يثبت ما انكفأ ويغير من أوضاعهم وشارات أذرعهم، ويجعل بعضهم يقف على ساق واحدة متهيئاً للرحيل، ويحكي عن هؤلاء الذين سيرحل بهم إلى مدن بعيدة.
كنا نضحك ونكبر ويتناثر على وجوهنا زغبٌ أصفر.
وحين تفرغين حجرك المملوء بلحاً في حجره، يتشمم عن قرب أنفاسك، وهج أسنانك ، لهفة عينيك، انسدال ضفائرك ورشح العرق على وجهك الخجل ونمنمات الحواجب وارتعاش اللسان.
وكان كل مرة يرحل بين النخيل والجسور وبحر الخلاء الممتد إلى ما لا نهاية، يحمل سلته الخوص معبأة بناسه، يتطوحون في عبط، ويبصون علينا من وراء ظهره المنحني بأجساد متلاصقة وأذرع رخوة ووجوه بلا ملامح.
كان يعود في الصباح لا نعرف من أين أتى، ولماذا تخيَّر نخيلنا بالذات، وارتكن على كومة الخوص ليصنع ناسه، ويعبئ سلته ببلحنا، ويمضي آخذاً معه عينيك، وقلبك ، وسخطي.
إيــ يــ يــــــه يا بنت العم.
إفرشي ضحكتك على وجه المزارع وترفقي .. كي أستظل بشعر طويل وعينين واسعتين بحجم الدنيا ووجه تفجر حمرة.
وتأملي وجهي ..
أني لك الدم والسكن، وضمة الحضن حين تقشر رياح الخماسين بهجة الأشجار .
تي عيوني ملء الكون بهجتها، وذا ظهري يسند الباب ساعة عواء الذئاب بين التلال واندلاع السيول، ورنين السيوف ودحرجة القنابل بين الكهوف.
طوال العام، أروح، أجئ، ملأت البيت بفيض الغلال فهام الحمام وهلل فوق المآذن، وتحدث الناس عن زرعتنا التي فاقت كل الزروع، فمالت علىَّ عيون البنات العائدات من الموارد، يتكبكب الماء من جرارهن، وتطوقني ضفائرهن وغمزات الحواجب.
وما في القلب إلاكِ.
سندتُ العجوز حتى استراحت لصق الجدار، تجتر ذكرياتها، تتحسس بحنوٍ بطة رقدت بجوارها ونعست تحت يدها اللينة، تتأمل ببقايا نور في عينيها ظهري المنحني.
من أخبرها بلهفى عليك فأطلقت تنهيدة من وراء السنين  ورددت مقاطع من سيرة الهلالية، واحتضنت في طرحتها حفنة من تراب البيت الناعم.
هل للعشق رائحة تتشممها الجدة، أم أنها رأت انحناءة ظهري وتوق عيني إليكِ وحجري الممتلئ بالنبق، وراكية النار التي أشعلتُها فعبأت رائحة الشواء فراغات الشوارع.
قطعي تلك الدجاجة وأطعميني، فالليل يدهن المدى بالسواد، وجسدي الضعيف يحتاج لقمة.
وأنت ما زلت تحدقين في بحر الخلاء، تنتظرين ولداً ملأ سلته ببلحناً وولانا ظهره، فسخر منا ناسه الخوص، وتمايلوا ودلدلوا أجساداً متهدلة، ومضى ... بعيداً.
فلا القوافل أخبرت بقدومه، ولا ضاربات الودع، ولا اسمه مدرج في حريق القطار.
ما لك إلاي والليل وحكاياتي، زمان الصبا وتطوحات النخيل، وملء الحجور بالنبق والبلح، وأرجوحة البرتقال، وهيل الماء على وجوهنا الضاحكة، بيوت التراب ومختبأ بين السيسبان، عد قروش الظل تحت شجرة الكافور، تتبع النمل حتى الجحور، حضن الجدة الشاردة وأحجيات لا تنقطع، شمس الضحى، وأغنيات الحصاد، ومواويلي التي تتدحرج على طرف اللسان، محبوسة، لن يطلق سراحها سوى ابتسامتك وأسنانك حين تجز في ضحك على نبقات كالزبد.
وحكايات سأظل أقولها حتى تنعس الجدة والبطة وتنعسين والمدى، ليسند ظهري الباب وترتفع عصاي في وجه الليل وعواء الذئاب.


عرض مزيد من التفاعلات

التسميات:

الأحد، 6 نوفمبر 2016

سكن فوق الذهب .. أسماء أحمد

سكن فوق الذهب

قصة قصيرة

أسماء أحمد

سوريا


كان لابد من انتقال العائلة من بيتها الدمشقي الكبير في الحي القديم، بعد تنفيذ المخطط التنظيمي للمدينة الذي أحاله إلى ركام من الأتربة والرمال والحجارة، محاط بأوتاد على أحدها لوحة مائلة كتب عليها "ممنوع الاقتراب!" 
على طرفه الشرقي شيد نفق للمشاة يصل سوق الخضار والجامع الكبير ومعظم الشطر القديم من الحي بالشطر الحديث يفصل بينهما "الاوتستراد" الجديد.
ركن سيارته في أول الشارع أمام عمارة حجرية حديثة البناء.
سالم في الأربعين من عمره طبيب ناجح وأب لأربعة أطفال أنتجهم في سنوات زواجه الست. يقول دائماً: " إنهم أجمل أخطائه، وأنه لاذنب له فزوجته خصبة، وإن هو مشى على السطح يفاجأ بحملها".. تلمع عينا أمه الحاجة بخبث محبب، وتطول رقبتها فخراً، إنه وحيدها على سبع بنات.
دفعه الطفل الذي فيه ليعبر الحارات والأزقة التي لعب فيها وركض مع الأولاد خلف كرة قماشية صنعتها الأم، أمام إلحاح صغيرها البارع في تسديد الأهداف، بين شجرتي الكينا اللتين زرعتهما يدان مجهولتان على حافة ساقية للري تعبر الساحة وقد ردمت من زمن بعيد بعد تحول الحقول إلى كتل اسمنتية.
جمع ظل الكينا نساء الحي في جلسات تبصير لفناجين القهوة التي شربنها بينما الأولاد يلعبون وسالم يسدد الأهداف ويصرخ عاش "بيليه".
سار واضعا ًيديه في جيبي سرواله يتفحص كل زاوية بذكرياتها الحلوة والمرة.
كان "للقضامة" طعم مميز تلك الأيام مازال تحت أسنانه، جعله يقصد دكان " أبي مروان " الذي بات سمعه ضعيفاً ودكانه على حالها، إنهما من علائم الحي!. رفع رأسه المدفون في دفتر الحسابات المهترئ، لاشتباهه أن أحدهم ألقى التحية عليه، بلع ريقه وشهق كعادته، وبصوت عجوز رحّب: دكتور سالم، يامرحبا.. كيف الحال.. والله زمان.. كيف الوالد؟. مازال نظره جيداً!، فكر سالم بينما تابع أبو مروان: يارجل كنتم ترقدون فوق الذهب ولاتعلمون!؟.. أقسم أنني رأيت بأم عيني رجالاً يخرجون صندوقاً مليئاً بالليرات الذهبية العثمانية.. إنه كنز يابني، كنز كان معكم (تحتكم) كل هذا العمر!. 
لم يستوعب سالم ماسمع في البدء، فغر فاه واحمرٌ وجهه بعد غليان الدم في عروقه، غرق في الصمت.. نسي طعم القضامة الحلوة.
اندفع يسير بخطىً يسابق فيها سيل الأفكار الذي جرفه حد الموت، وتلك العبارة اللازمة التي احتلت عقله " كنا نسكن قوق الذهب" ثم يضحك بصوت مسموع يقمعه كي لايوصم بالجنون من قبل من يراه.
" كنا نسكن فوق الذهب ".. !
رأى نفسه طفلاً في طريقه إلى المدرسة بمريوله القديم وحذائه المكشر عن إصبعين! 
" كنا نسكن فوق الذهب"... !
أخته الصغيرة المريضة أخرجت من البيت لفافة بيضاء ، لأن الدواء اللازم تأخر... 
" كنا نسكن فوق الذهب ".. ! 
عيد بلا ملابس جديدة، كلها أحلام ملونة كقطع الحلوى التي تأملها طويلاً خلف زجاج المخبز.. 
وجه والده المغضن يهده العمل والهموم... جحيم سهر ليالي الشتاء عندما لبس كل ثيابه ليتقي برد ليلة امتحان لأن شبه المدفأة بالكاد تكفي نفسها..
لم يدرك الوقت الذي أمضاه وهو يسير بحالة هستيرية لايلوي على شيء.. أمام أطلال البيت الكبير الذي يعامل كموقع أثري، توقف.. 
هنا دفن أحدهم ذهباً كان ليحيل حياته إلى الثراء ويقبر الفقر إلى أبد الآبدين.. 
" ماكان والدي ليحتفظ بالذهب، كان ليسلمه إلى الجهات المختصة لتحفظه في مكان مجهول..؟؟؟ أمين...!!! 
تذكر يوم دفق دلوا ًمن الماء في حفرة كانت خلف باب غرفته تحت العتبة، أوحت إليه بشيء لم يفهمه عندما غلٌ الماء إلى عمق كبير فقال لأمه:" الله يخلصنا من هالبيت إنه آيل للسقوط لامحالة لابد أن الجرذان تقوم بالمهمة..." 
" كنا نسكن فوق الذهب ".. ! 
على الجدار في فسحة الدار.. يدان طفلتان رسمتا وجه صبي ولونته بالطباشير، شعر أسود وعينان خضراوان وفم أحمر.. بقي الجدار واقفاً بين الركام ، يحمل وجهاً موشوماً يبهت شيئاً فشيئاً. 
للحظة رأى الوجه يبتسم ويسأله بخضر عينيه المغسول بدمعة بريئة ويسأله لمَ تركتني هنا؟؟
أسماء أحمد 
31/5/2008

التسميات:

السبت، 5 نوفمبر 2016

نخزة.. قصة قصيرة.. فريال موسى

قراءة في القصة القصيرة


نخزة





فريال موسي


الأردن



هذا شخص مميز في لحظة مميزة .. لو أنه كان شخصاً عادياً لارتبك أداؤه. ولأفلحت

 حيلة الواشي في إخراجه من المشهد.. فأي شخص هذا, وما الذي جعله مميزاً بحيث

 يمكنه تحويل المناخ السلبي إلى نتيجة إيجابية؟

في مناخ مختلف, ومع شخص مختلف كانت الأمور تأخذ منحنى خطراً, فهذه أحداث تمهد لجريمة, أو على الأقل لعاصفة يترتب عليها خراب بيت, وتشويه سمعة امرأة.  
ماذا يريد النص أن يقول؟ .. هل هو رسالة لكل زوج كي يتعقل. ويفند الوشاية قبل الإقدام على تصرف أحمق؟ .. هذا أبسط معطيات النص. فالخطاب للإنسان على وجه العموم, وليس للأزواج, والنص يطرح تجربة إنسانية تتعلق بالثقة في النفس.. يمر الإنسان بعشرات التجارب المماثلة في مجال الأسرة, والعمل, والعلاقات بشكل عام. ولعل القارىء يلاحظ الملمح الذي ضمنته الكاتبة بذكاء عن أعراض الفصام. وهو واحد من أكثر أمراض النفس فداحة وإضراراً بصاحبه. ويبدو هذا العرض فى انتباه الموظف لحديث الزميلان عن خيانة الزوجات . ولولا الوشاية بما أحدثته من ارتباك مؤقت وعارض, ما انتبه الرجل لهذا الحديث. الشكوك والريب إذن قد تحولان الشخص قليل الثقافة, والثقة بالنفس إلى شخص عصابي .
والمكالمة الهاتفية مجهولة المصدر في ظني مجرد حيلة فنية تشير إلى كل مايمكن أن يشكل تهديداً للسلامة النفسية للأشخاص. هي نموذج لعشرات المؤثرات الخارجية التى تستهدف الاتزان النفسى للإنسان في كل حظة, سواء عمداً, أو بشكل عارض, على اعتبار أن الإنسان يحيا في بيئة معادية, وهذا شأن الإنسان منذ كان بدائياً يسكن الأشجار , ولا أظن أن الحال قد تغير في ظل الحضارة الحديثة إلا إلى الأسوأ. 
والسلامة النفسية للإنسان تعتمد على اكتسابه اللياقة للتعامل مع المؤثرات الخارجية بشكل يجنبه الفوضى. فالرجل كما لاحظنا في القصة استطاع أن يحيد المؤثر الخارجي بأسلوب عبرت عنه الكاتبة بالجملة .. " والبعض الآخر منه عقد جلسة مع عقله " أي أن الرجل لم يتشتت ذهنه بالكامل. بل نحي التهديد إلى خلفية دماغه يناقشه ببعض ذهنه , بينما كرس مايكفي من الانتباه لإنجاز العمل ولو بشكل أقل كفاءة. فقد اضطر لمراجعة الحسابات مرة بعد مرة. 
وكما أصاب التهديد عقله ببعض الارتباك, فقد أيقظ فيه اعتبارات لم يكن يوليها العناية.متى كانت آخر مرة قدم لامرأته باقة ورد, أو هدية بسيطة؟. جرفته أعباء العمل, وروتينية الحياة, وشاشة التلفاز, حتى تآكلت حواف المقاعد, وتآكل حواف المقاعد واضح الدلالة على تآكل الحوار, والانسجام, وعلى رتابة الحياة الزوجية, وخلوها من البهجة. 
وقرار الرجل بالدخول على زوجته خاملا – خلافاً للعادة – باقة من الورد يوحي بدلالاتين: أولاهما يقظة الإنسان في داخله, وانتباهه إلى نواحي القصور في علاقته بالزوجة . أما الدلالة الثانية فبالحنكة التى وسمت سلوك الزوج. فهو بداية وتحت وطأة الوشاية قمع الخاطر الذي راوده للإتصال بزوجته, ولا أظن القارىء قد صدق ادعاءات الراوي بأن ما منعه من الاتصال هو اعتداده بنفسه, أو ثقته بالعلاقة الطيبة التى تجمعه بامرأته, ولا حتى ضيق وقته وانغماسه في عمله, ( ولنا عودة لتلك النقطة ) .. فالأكثر مدعاة للقبول هو أنه قرر أن يكتشف بنفسه حقيقة الأمر من خلال مراقبته لسلوك الزوجة إزاء بادرة عاطفية غير معتادة كتقديم باقة من الورد, ومن خلال المشهد الختامي يتأكد الزوج من كذب الوشاية. فلغة الجسد أكثر صدقاً من لغة اللسان. 
أما ماأحببت أن أعود إليه بالمراجعة فهو التقرير في سرد الراوي لدوافع الزوج. فالسرد جاء على لسان راو عليم مساو في علمه للشخصية القصصية. يقوم بوصف أفعاله , وما يدور في ذهنه. لكن الفقرة المشار إليها مثلت في رأيي تجاوزاً لهذا الدور, إذ أدلي فيها الراوي برأيه الشخصي. وفي مثل تلك الحالات يمكن للقارىء أن يلحظ الكاتب بوجوده غير المرغوب فيه فنياً. ولعلها الهنة الوحيدة في نص قصصي مصنوع بعناية, وبلغة سليمة عدا خطأ واحد شائع : ( العمل الغير معتاد عليه / غير المعتاد ).
تحياتي لإبداعك صديقتي فريال موسى

محسن الطوخي
_________ 


 نص القصة

نخـــزة
من بين أوراقه المتناثرة، ومن تحت لجة الأفكار التي تتقاذفه، استفاق على صوت هاتفه الذي ما كف عن الرنين والارتفاع حتى لبث صراخا ينخرُ مخه دون أن يجد له متسعا في محيط انزعاجه ، هب يلتقطه، بحركة آلية ضغط زر التواصل، بلا وعي: "نعم!" الطرف الآخر: "زوجتك تخونك" ... "نــــعم!! ... مَن المتكلم؟... الوو الوو" ... توت توت توت ... أُقفل الخط.
تجمدت أطرافه للحظة.. للحظة فقط.. عجلة الأعمال المتأخرة المتراكمة لم تتوقف عن الجريان به، عاد بعضه إلى الأوراق، والبعض الآخر منه عقد جلسة مع عقله.. "زوجتي تخونني؟!" ... يداه تقلبان الأوراق، عيناه تجريان فوق سطورها، أصابعه تضغط فوق أزرار الحاسبة، لا يعرف ماذا يقرأ أو يدوّن، ارتاب من النتيجة فاضطر لمراجعة الحسابات.. الجلسة المنعقدة مع عقله وأغلب بعضه ما زالت مستمرة ..يدرس الموقف بحذر، "لا يمكن!.. كلام محض كذب المراد به إشعال فتيل فتنة، إنها ادعاءات المنافسين لتشتيت فكري وإشغالي عن عملي".
أحاديث جانبية بين زميليه في المكتب تلتقطها أذنيه، يتحدثان عن خيانة الزوجات، يوعزان السبب لانشغال أزواجهم عنهن، وطول أوقات عملهم، رفع إليهما نظرة متشككة.. هل يقصدان أن يُسمعاه هذا الكلام؟ هل يعرفان شيئا؟ هل صدفة أن ينشغلا بهذا الأمر تزامنا مع المكالمة التي تلقاها؟ رجع لهاتفه يتفقده، لا يظهر رقم على الشاشة، لم يبدُ أن زميليه يتغامزان عليه ، بل فعلا منغمسان بهذا الحديث، خطر له أن يتصل بزوجته، لكن اعتداده الشديد بنفسه منعه، ثقته بعلاقته الطيبة مع نصفه الثاني رجح امتناعه، من جهة أخرى ضيق وقته بسبب التزامه بوقت تسليم دراسته للعطاء، ومع هذا لم يقدر على فض جلسة عقله مع نفسه أو يشارك زميليه النقاش أو يصرخ بهما ليخرسا.
انتهى الدوام.. أستطاع أن ينجز العمل الموكل إليه في وقته، قفل راجعا لبيته.. لا يدري لمَ خطر له أن يبتاع لزوجته باقة ورد، لم يرَ موجبا لهذا العمل الغير معتاد عليه ، لكنه فعل.
تلقت الزوجة الباقة بابتهاج شديد و.. استغراب، وجد نفسه غريبا عن نفسه تلك الليلة ، كان بمنتهى اللطف مع شريكته، دعاها بعد العشاء الى الشرفة في جلسة حميمية بعيدا عن شاشة التلفاز ومقاعدها التي أكلت جنبيهما طوال سبع سنوات، لم تمانع زوجته ابدأ بل رحبت باقتراحه واستأذنته لتعد الشاي ، مكث ينتظرها، شغل وقته بعّد النجوم، يتنفس نسيما ليليا رطبا، يطرد افكاراً تغث باله وتنغص امسيتهما،عادت بعد برهة تحمل الشاي على صينية لا تخرج إلا في المناسبات، يسبقها عطرها، لفته اهتمامها بملبسها وتصفيفة شعرها، أسعده أنها وضعت ورداته في مزهرية توسطت منضدة الشرفة، وقف لاستقبالها، أخذها من يدها، قبّلها وأجلسها بقربه، كادت تسأله عن سبب تغيره؟ وهو يعاتب نفسه لأنه لم يقدم من قبل على هذا الفعل البسيط الذي يدخل البهجة إلى قلبيهما ويقربهما من بعض، سارت بهما الأمسية إلى افضل مما تصورا.
رنّ هاتفه ليقطع عليهما انسجامهما، مكالمة بدون رقم، غلى الدم في عروقه، بدأ صدره يرتفع ويهبط، كادت نجوم السماء أن تسقط فوق رأسه، رمق زوجته وهي في نشوة كطفلة منحها بابا نويل الهدية التي طالما تمنتها، عيناها تشعان فرحا وهي تريح رأسها على صدره، عندها أعلن انفضاض الجلسة الجانبية لبعضه مع عقله، أطفأ هاتفه، أحاط زوجته بذراعيه وهمس لها .. أحبك.
فريال موسى


التسميات:

مكامن ... كوامن .. عبد الصاحب محمد .. العراق

قراءة في القصة القصيرة


مكامن ... كوامن


 عبد الصاحب محمد

العراق



عبد الصاحب محمد



المدخل إلى عالم القصة هو الإحاطة بالآليات التي تتعامل بها النفس الإنسانية مع المحبطات. والأحداث ذات التأثير السلبي التى تعترضها, والتى غالباً ماتحدث في فترة الطفولة قبل اكتساب الخبرة, ونمو الوعي.
والكبت واحدة من تلك الآليات غير الشعورية, تستبعد الأنا بموجبها المثيرات السلبية من مستوى الوعي إلى مستوى اللاوعي , وتمنعها من الظهور حماية للنفس مما يؤلمها ويحقرها.
والعنوان ( مكامن ... كوامن ) يؤهل المتلقي لاستقبال التجربة القصصية في هذا الإطار النفسي التحليلي.

المكامن صيغة الجمع من الاسم "مَكْمَن". وهو موضعُ يُخْتَفى فيه ولا يُفْطَن له.
والكوامن هي صيغة الجمع من الاسم "كامِن". وهو ما ينطوي عليه الشىء بصفة دائمة.

يشير الشق الأول من العنوان إلى اللاوعي لدي الإنسان حيث تطمر الذكريات المؤلمة وأشباهها من المحبطات التي يشير إليها الشق الثاني منه. وتظل ثاوية لا يمكن استعادتها في الظروف الطبيعية, ولا يمكن اكتشاف تأثيرها على سلوك الشخص إلا بمعرفة متخصص. 
والكاتب يضع الراوي في هيئة أقرب إلى جلسات العلاج بالتحليل النفسي, فالمكان الضيق, والباب الموصد, والكرسي الهزاز . وتكاد تلحظ في هيئة الجلوس تناقضاً بين الجلوس على كرسي هزاز, وبين الاتكاء على منضدة الكتابة. بما يوحي بوجود شخصين ماديين. في ذات الوقت الذي يصر الراوي على كسر الإيهام بهذا الوجود المادي في عبارات تتخلل السرد :
" يقلّبُ خيالُه الصفحاتَ بشغفٍ وتأملٍ " .
" أجيبه على عجلٍ كما لو انه حاضر " 
" أخاله يسألني : ما هذه ؟ " 
بدوت كما لو أنني أقولُ " 
فيما كنت أتصوره يرفع رأسه إلى الأعلى " 
وليست مصادفة أن يكون الراوي أستاذاً متخصصاً في علم النفس, بل يوحي هذا المسار التخصصي يمدى قوة تأثير " الكوامن " في توجيه سلوك الشخص. فالحادث البسيط الذى نتجت عنه عواقب وخيمة أعاقت نمو الأخ التوأم, أو الأصغر, هي التى دفعت الراوي إلى اتخاذ ذلك المسار المهني, أو هذا ما يود الكاتب أن يوقعه في روع القارىء. 
وعلينا أن نتوقف برهة لتأمل ذلك الحادث الذي ترتبت عليه رغم بساطته أحداث القصة: 
يعتقد الراوي أن ما أقدم عليه في " تلك الليلة " مدفوعاً بالغيرة من تفوق شقيقه هو ما تسبب في نوبة الرعب التي أصابته. والتي يستنتج من السرد أنها خلفت لديه حالة نفسية أو عصبية رافقت نموه, وأثرت على مسيرة حياته بالسلب. 
والمشهد الذي يقرن فيه الراوي/ الطفل بين شقيقه وبين الحشرة دال بشدة على الدافع لإيذاء الأخ . فتفوق أخيه واستئثاره بالإعجاب يخزه كما تخز الحشرة مصاصةالدماء. 
ينتهز الروي/ الطفل الظلمة والسكون, ويتسلل الى حيث يرقد أخوه, تتردد في ذهنه مقولته عن نفسه من أنه المقداد, البطل المغوار الذي هزم المياسة, ويجذب خصلةمن شعره قاصداً محو صورة البطل بزرع الخوف في نفسه. 
لكن الحدث البسيط يترتب عليه مالم يكن في الحسبان . والراوي يتجنب ذكر التفاصيل المؤلمة صراحة. فلا يزال العبء النفسي ثقيلا أكثر مما يمكن مواجهته. لكن الساق يكشف الحقيقية المضمرة.
" لم يعد لأبي سوى التأمل في الحالةِ " 
كما يراود الأم شك في أن للأخ دور فيما أصاب شقيقه, وإن لم تفصح.
" لكني أبكي من أجله حزناً " 
" ينحسرُ المنتصرون في بؤرةِ وهميةٍ" .. والمنتصرون في النص إشارة إلى الجوقة التى راحت تهلل له انتصاره في الانتقام من أخيه. 
وأخيراً تلك الجملة التى ينطق بها الراوي إذ كلل البياض شعره : " بيد أنني لمّا أزل ذلك الملتاعُ " 
مرهقة هي تلك اللحظات التي تطل فيها الكوامن من مكامنها فتمسك بخناقنا, لكن اللحظة القصصية تطرح نموذجاً إنسانياً في لحظة مواجهة يسعى فيها إلى التطهر. 
استخدم الكاتب اسلوب الانتقال في الزمن, في مراوحة مابين الحاضر, وبين الليلة 
المحورية. وبرع في توظيف تلك التقنية في يسط العَرَض, ثم كشف أسراره, وهو مامنح القص مسحة من الإثارة والتشويق, وتجنب رتابة السرد الحكائي طبقاً لتسلسل الأحداث.
وبرع في التدرج بالحالة النفسية للراوي, حيث نلمس الحيادية, والقدرة على ضبط النفس لدى بدء الدخول في التجربة القصصية, ثم يتدرج النص في أيراد ما يطرأ على الشخصية من تحولات بالتوازي مع مراحل كشف تفاصيل التجربة .
كما نلمس التدج في استقبال صورة الأخ المستدعاة من مكمنها طبقاً لمراحل الدخول في التجربة.
" ويضيف ضيفي الذي هو في مكمني " 
" وفي الطرف الآخر ينام صاحبي " 
" يخزني أخي كما تخزُ تلك الحشرة " 
قصة قصيرة تصحبك في جولة داخل تعقيدات النفس الإنسانية, بقلم رشيق فاهم لحدود التجربة. 

محسن الطوخي



نص القصة


كوامن ... مكامن



أجلسُ على كرسي هزّازٍ وشعرُ رأسي أبيض بلونِ البراءةِ، أتكيء على منضدة الكتابة، تطوفُ صورتُه خلايا الذهنِ ـ تطفو على السطحِ وها هو يواجهني مسترخياً على كرسيه ذي الأرجلِ والأذرعِ العاليةِ، كنا قد افترقنا لأعوامٍ وأعوامٍ، اختلفت بنا المشاربُ، وها أنا أراه أخيراً شبحاً ماثلاً أمامي، نأنسُ لمجلسنا: استراحةٌ، ابتسامةٌ ،حديثٌ طريٌ طراوةَ ذهنِ طفلٍ، تتراقصُ العينُ تسبرُ غورَ المكانِ الضيقِ ذي البابِ الموصدة خشيةَ أطفالي المترصدين بخبث. الحديثُ مُستطابٌ وفي الغرفة مكتبةٌ تضمُّ كتباً منوعةً  وضعتُ أمامه سبعةَ كتبٍ تدورُ حولَ علمِ النفسِ، كتبتها بأزمان متباعدة . يقلّبُ خيالُه الصفحاتَ بشغفٍ وتأملٍ، يحدّقُ بوجهي بعد أن ترتسمَ على محياه ابتسامةٌ ثريّةٌ بالمعاني، أحدّقُ بوجهه ، ثم أنسحبُ مسرعاً صوب دواخلي وهي تعجُّ بأسئلةٍ متداخلةٍ 
أخاله يسألني: ما هذه ؟
وبهمسٍ أجيبه على عجلٍ كما لو انه حاضرٌ : 
حصيلةُ العمر.
يخاطبني وهو يتصفح الكتابَ الأول انه بالأمس حيّاهُ شخصٌ بحرارةٍ أول الأمر، سأله ذلك الشخصُ في حينه: أتتذكر ذلك اليوم الذي كنا نجلس فيه في مقهى المعالي وأشرت إلى ما كنتَ تكتبُ. .؟
ويضيف ضيفي الذي هو في مكمني :أنا لم أجلس يوما بمقهى بهذا الاسم، ولم اكتب ما كان يتحدث عنه. كان يشير إليك، هذا مؤكد، إذ سرعان ما ودّعني بريبةٍ والدهشة ترتسم على ملامحه.
أعتدلُ في جلستي بكل جديةٍ، بدوت كما لو أنني أقولُ:
وأنا قبل ذلك التقيتُ برجلٍ تحدّثَ بحرارةٍ عن أمورٍ كثيرةٍ لا تخصني، سألني في حينه :
أتتذكر يوم كنا نجلس في مقهى الأماني. .؟ كان يشير إليك إذ خاطبني باسمك .
*
كانت ثمة فترة صمتٍ فيما كنت أتصوره يرفع رأسه إلى الأعلى، يطيل ُ النظرَ في صورة امرأة مؤطرةٍ تركن في نقطة التقاء جدارين من الغرفة، ينظر نحوي ثم نحوها يشير إليها,. يقول:
صورة أمي 
وأرددٌ قوله : 
-
انها صورة أمي. صورة أمنا تبتسم ، لما تزل ابتسامتها طرية ، تطلُّ علينا بنظرةٍ حانيةٍ كما لو كنا نعيش تلك الليلة . . . أعود بذهني إلى تلك الليلة 
*
قبل أعوام وأعوام, ليلة يختفي فيها القمر، تغيب النجوم المضيئة، ليس منها سوى ومضات باهتة في الأفق الأعلى. الظلامُ طارقٌ ثقيلٌ، وأنا أنام في باحةِ المنزلِ وفي الطرف الآخر ينام صاحبي، أبوانا في الوسط. في منتصف الليل، أو هكذا أتخيل، يخزني شيءٌ كما الإبرة، أنكمشُ، ألعنُ، إنها حشرةٌ جائعةٌ، الآن شيءٌ من دمي في معدتها دون شكٍ، يخزني أخي كما تخزُ تلك الحشرة، ألعنه، أحبه، لا أطيقه فهو يفوقني في سرعةِ حفظِ سبعةِ أبياتٍ من الشعر المقفى. يقول عنه أقراننا بأنه مُقدّمٌ علينا بالقراءة وبحفظ ما يقرأ، وعن نفسه يقول انه المقداد *.
*
ها أنا أردد :
حسنٌ أيها المقداد !""
بيد أنني لمّا أزل ذلك الملتاعُ !
على الرغم من أنني كنت قد حسبت ان الذكرى قد انحدرت نحو غورِ النسيان.
*.
أعود إلى صورته، أحدّقُ في وجهه، يحدّقُ في وجهي، أقوم ،أتحرك صوب المكتبة، أعيد تلك الكتب التي كنت قد وضعتها على المنضدة. أرفع رأسي، أتطلع إلى صورة أمه ، إلى صورة أمي، هي تبتسمُ راضيةً وهو يخاطبني معبّراً عن رأيه فيما يخص كتبي :
حصيلةٌ رائعةٌ .
*
عاد إلى تلك الليلة، إلى ظلامها البهيم حين وخزتني تلك الحشرة.
لعنتُ أخي الصغير وتساءلتً هل هو حقا ذلك المقداد، لأنهض وأنجز الأمرَ.
لكنني تريثتُ، جلستُ أحدقُ في العتمة. انكشف ضوءٌ يمتد في الأفق، رأيت المقداد يصارع المياسة، مرة بالسيف، مرة أخرى بالرمح، صدى صهيل الخيل يجوب خلايا الذهن، استعطفتُ المياسة أن تمنحني السيف أو الرمح أو كليهما، لكنها قالت :
إني اخاتله من أجل أن أصرعه ، 
إذن لأنهض وأعابثه .
تحركتُ، احدودبتُ صوبه ، تقرفصتُ قربه، وجهُ ملاكٍ، لكنه كان قد أنجز عمله أسرع مما عملته. انهمرت مياهٌ ساخنةٌ من ينبوعٍ يفورُ من جوفِ جبلٍ أجرد احترقت أصابعي، مددتها بين خصلات شعره، شددت على خصلة منها، اختلج جسده، أرخيت الشدَّ، سحبت يدي، تململَ ثم عادَ إلى نومه.
أسمعُ ظلي يهمسُ :
إفعلها ، إفعلها مرةً أخرى .
كن نقيضه على نحوٍ رائعٍ . .
أفعلُ .
أزرعُ الخوفَ في قلبه، 
ها هو ينكمشُ ،
فتصمتُ الحركةُ ويهمدُ الجسدُ.
*
أعودُ إلى مكمني وأنا غاية في السعادة، أحاول أن أستعيدَ كوامن ما حفظته من الشعر المقفى الذي نسيته. بعد هنيهة ، يمزّق الصمتَ عويلٌ مفاجئ لصغير سرعان ما تحتضنه أمه، تطمئنه وتبتسمُ لكنه يظل يهمهم : 
"
جاء من الظلام، من خلف تلك الشجيرة ،من عالم الجان، أولُ ما فكرت به هو أنك أنتِ يا أمي الذي شدَّ شعري. . لكن لم تكن تلك طريقتك بالشدِّ، أناملك تعبثُ بشعري برفقٍ ، تقربيني إليك وأغفو على أنفاسك . " 
وفيما هو يولولُ أحدّقُ في السماءِ العاليةِ وفي نجومِها الخافتةِ. أنا الآن مرتاحٌ، تغمرُ صدري مياهٌ باردةٌ، أستكينُ على الوسادةِ بثقةٍ طفوليةٍ مطلقةٍ ، أسمعُ كلَّ المنتصرين يضحكون في آنٍ واحدٍ، أرى أشباحَهم تتقدمُ نحوي، راياتُهم تخفقُ ـ يتصايحون بانتشاءٍ :
ها هو البطلُ .
تقتربُ الجموعُ المستبشرةُ، تحكمُ الطوقَ :
أنت البطلُ . ""
أقتنعُ ،أرددُ مع نفسي تعويذتي :
"
نعم ، أنا البطلُ، لِمَ لا أكون كذلك وأنا لمّا أزل أسمعُ نشيجَه الذي يؤلمني ثم فحيحَ صوتِه المتخاذلِ وأنينَه ! "
لكنني أبكي من أجلِه حزناً 
رباه، مَن أنا ؟ 
آه , لو لم أكن في ذلك المكمنِ ! لو أنتُزِعَ مني ذلك الكامنُ ! لو كان أبي مستيقظاً ! 
ينحسرُ المنتصرون في بؤرةِ وهميةٍ . . يخفتُ الصخبُ . 
*
يضحكُ صوتي ضحكةً مكتومةً غير مألوفةٍ ، أقولُ :
المقداد لا يخشى الظلامَ وحتى عالم الجان ! ""
يضحكُ الصوتُ . . . يضحكُ . . . يضحكُ
لم يعد لأبي سوى التأمل في الحالةِ ! 
لم يعد لدى أمي الآن أيُّ شكٍ بأنني أخفيتُ سعارَ لعبتي بإتقان
تبتسمُ ابتسامةً مريرةً ( ليس مثل ما هي الآن في الصورةِ ) ،تنظرُ إلينا بحنانٍ
تضمه إلى صدرهِا .
وظلي يسألُ: وماذا بعد؟ 
في صباح اليوم التالي تتشابكُ يدانا ونسيرُ، معاً، إلى المدرسة.
----------------------------------------------------------------------
"
المياسة والمقداد " حكاية عربية قديمة . ، أقسمت المياسة أن لا يتزوجها إلا من يهزمها في المنازلةوساحة الحرب ، فلم يتمكن أحد من الانتصار عليها إلا ابن عمها المقداد بن الأسود الكندي .


التسميات:

الخميس، 3 نوفمبر 2016

في بيتنا ضابط.. أمنية الجنابي

قراءة في القصة القصيرة
في بيتنا ضابط
 أمنية الجنابي
العراق




نص جميل. تبدو الحرفية والبراعة في الترابط بين الجزئيات, وفي التطور الرأسي للأحداث, والسرد بضمير المتكلم جاء مناسباً تماماً لطبيعة التجربة القصصية, إذ مكن الكاتبة من كشف خبيئة الشخصية ورصد خصائصها النفسية.
مظاهر براعة الحبكة, والتضمين: . 
" " وأنا أؤدي تلك الرياضة الليلية على سريره " ..
عبارة موحية تكشف موقف الزوجة إجمالا من علاقة افتقدت التجانس والمودة. وهي بمثابة تتمة, وتتويجاً للجملة الاستهلالية التى تبدأ بوصف الراوية ذاتها بالجندية, وتنتهي مساء في براثن الزوج.
ووصف الجندية يحيل إلى صورة المقاتل الذي يضطلع بمهام جسيمة لا تنتهي, ومسؤوليات لا فكاك منها ولا سبيل إلى التنصل منها إلا بالتعرض للعقاب. 
تنتهي الجملة الاستهلالية بحضن الزوج على سبيل الإجمال والتمهيد, ثم تأتي الجملة المعنية لتؤهل القارىء لطبيعة التجربة القصصية الصادمة. فالجندي الذي ينفق النهار في الأعمال الشاقة المجهدة, قد يجد السلوي في ضروب التسلية والترفيه إذا جن المساء. فتأمل الراوية في عبارتها الموحية. " وأنا أؤدي تلك الرياضة الليلية على سريره " .. ثلاث عناصر لفظية حشدتها الكاتبة البارعة في العبارة الدالة الموجزة.. 
- " " أؤدي " .. فالأداء هو القيام بالواجب, وإنجازه .. وهو تسديد أو دفع ماهو واجب ومستحق. 
فالفعل في العبارة يوحي بطبيعة العلاقة الغفل من العاطفة, وطبيعة الرجل الذي يمارس العلاقة الحميمة كنوع من استيفاء حق مشروع , وتوحي بأن العلاقة ذاتها تؤديها الراوية باعتبارها أحد الأعباء المتعددة التى يشملها وصف الجندية. وهو ما سوف يتأكد في بقية لعناصر اللفظية . 
" الرياضة الليلية " .. والرياضة هي المصدر من الفعل " راضَ " , وهي النشاط البدني المحكوم بقواعد, وهي تطويع النفس لتقبل الفروض. فوصف الأداء الليلي بالرياضة يحصره في النشاط العضلي دون النفسي الوجداني. وهو مايفسر قبول الراوية لاستمرار العلاقة في ظل افتقاد المشاركة, وغياب المتعة, فالرياضة هنا ألى جانب وسمها للأمر بالمشقة, تؤكد على ممارسة الراوية لنوع من تطويع النفس على تقبل الأمر الواقع, وخو ماسوف نلمسه في تفاصيل السرد . 
" سريره " .. يأتي ضمير الملكية في اللفظ مؤكداً صفة انتفاء المشاركة, فهو ليس سريرها, وليس سريرهما. بل هو سريره, يمارس فيه متعته الخاصة , ويتقاضي حق معلوم يعتقد بعقلية الرجل الأحمق أن لديه صكاً يتيح له أن يقضي وطره كحاجة بيولوجية, دون اعتبار لقيمة المشاركة, والتفاعل. 
والعبارة بقوة التضمين التى وفرتها الألفاظ الدالة جاءت كافية, ومانعة, تجعل من الجملة اللاحقة غير ذات جدوى أو منفعة, اللهم إلا إفساد الأثر الفني الممتع للعبارة الدالة. ربما سعت صديقتي أمنية إلى تأكيد ما تصورت أنه لن يرسخ في ذهن المتلقي, وأنا أقول أن العبارة كانت من القوة والبراعة بحيث لم تكن في حاجة إلى تأكيد.

" يخرج ضارباً الباب ولقمته في فمه وهو يتوعد ويهلهل، أتبعه ب: أوووف، سيارة الدائرة عند الباب ومعدتي خاوية" ...
. انظر إلى المقابلة في المعني بين " ولقمته في فمه " , وبين " معدتي خاوية
فالزوج إلى جانب خشونة طباعه وقسوته, لا بأبه إلا لاحتياجاته الخاصة . دون النظر إلى مطالب سواه, والمقابلة السابقة برعت في تأصيل المعنى إيحاء وإضماراً دون الخوض في تفصيلات ترهق السرد .
الجملة الختامية التي صيغت على هيئة سؤال , أراها بدورها دالة على براعة التضمين , فهي في ظاهرها تأكيد لوجود الأهل والعائلة, بينما في جوهرها نفي لذلك الوجود . فهو من ناحية تساؤل ينطوي على الدهشة, وكأن علم الأهل وتواصلهم لا يعد من الأمور المتوقعة, والمحسوية , وهو يدلل من ناحية أخرى على أن الراوية لم تقم بالاتصال بالأهل, أو لم يكن في نيتها. وهو مايؤكد ماساقته الكاتبة في مداخلاتها من غياب الدور الفاعل للأهل في تقويم المعوج من أمور العلاقة الزوجية. بل وسلبية هذا الدور في تبني ثقافة تفرض على المرأة أن تتحمل مالا يطيقه بشر من أجل المحافظة على البيت والأبناء.
نص جميل , يكشف براعة ومهارة صديقتي أمنية في تطويع النص القصير لطرح تجربة إنسانية بحنكة, ومهارة, وقدرتها على منح شخصياتها القصصية حياة متدفقة, وحيوية. 
محسن الطوخي

النص 



في بيتنا ضابط



جنديةٌ أنا منذُ أن أفيق صباحاً؛ حتى حضن زوجي عند المساء.
"هل يُعقل هذا؟ ألم تكوني تلك القطة الوديعة وماما تُمسد لك على شعرك حتى تحلمي بالورد والطيور؟"... أحدث نفسي كلّ يوم بهذا وأنا أؤدي تلك الرياضة الليلية على سريره.."
"لن أقول سريرنا، إنه سريره هو..هو"..أؤكد لنفسي دائما.
الجندية تفيق مبكراً، فالواجبات كثيرة؛ إبتداءً من الحمّام إلى تحضير الفطور والهرولة سريعاً بالأولاد إلى مدارسهم.
"الرتبة" تأمر: تأخرت عن عملي، ألا تفهمين؟ ألا تعين؟ متى تُصبحين نشيطةً أكثر من هذا؟! 
"تباً لك، كم أنت مُخزٍ ومروّع،انهمدت ثمان ساعات متواصلةً تشخرُ وأنا حتى في ساعاتي الخمس كوابيس الواجبات تلاحقني.. كم أكرهك"...هذا في سرّي.
يخرج ضارباً الباب ولقمته في فمه وهو يتوعد ويهلهل، أتبعه ب: أوووف، سيارة الدائرة عند الباب ومعدتي خاوية.
لم توافق المديرة على منحي ساعة زمنية حتى أطبخ قبل رجوعه؛ أمسُ كان قاسياً جداً فيما أخذت فروض الأولاد جلّ وقتي.
أحضرتٌ دجاجةً مشويةً بيدي؛ وجدته يجلسُ وقد احمرّت عيناه: ماهذا؟ تعرفين أني لا أحب طعام السوق...!
طارت الدجاجة فوق حاوية النفايات واستقرت فيها؛ فيداه جعلت لها أكثر من جناحين.
كنتُ أطبخُ مرغمةً وهو يشخُر، بعدما ضبط هاتفه وألصقه بأذنه.
_مقبول، خمسة من عشرة.
_كثر خيرك.
قال لي" لم اشبع"..
"الأولاد؟ أين اذهب بهم؟!..
" هذا شغلك وليست مسؤوليتي"..
"أنا لن أوصد الباب، صاروا يفهمون".
زمجر: وأين أذهب أنا؟ هه؟ ردي...طيب، سأبحث عن... وأخبري أهلك، حسناً؟؟
أخرجتهم إلى الشارع بعد أن ناولتهم بعض الفكة.
"الجنديّ يحتاج إلى راحةٍ سيدي، دعني أستلقي قليلا وابق أنت مع الأولاد".
"ماذا تقولين؟ لديّ موعدٌ مهم ويجب أن أخرج الآن، لا أريد رؤية أحدهم لدى رجوعي.. الكل نيام، مفهوم؟
رجع وقد كنتُ أغطُ في نومٍ عميق..منهكةٌ أنا. الأولاد يتعاركون والبيت فوضى؛ لم أنتبه حتى لدخوله.
أفقتُ وانتبهتُ عندما رمى بنا كلنا خارجاً، أوصد الباب جيداً ورفع مكبس الجرس... من أخبر أهلي أننا في الشارع؟
أمنية الجنابي

التسميات: