قراءة في القصة القصيرة
نخزة
فريال موسي
الأردن
هذا شخص مميز في لحظة مميزة .. لو أنه كان
شخصاً عادياً لارتبك أداؤه. ولأفلحت
حيلة الواشي في إخراجه من المشهد.. فأي شخص
هذا, وما الذي جعله مميزاً بحيث
يمكنه تحويل المناخ السلبي إلى نتيجة إيجابية؟
في مناخ مختلف, ومع شخص مختلف كانت الأمور تأخذ
منحنى خطراً, فهذه أحداث تمهد لجريمة, أو على الأقل لعاصفة يترتب عليها خراب بيت,
وتشويه سمعة امرأة.
ماذا يريد النص أن يقول؟ .. هل هو رسالة لكل زوج كي
يتعقل. ويفند الوشاية قبل الإقدام على تصرف أحمق؟ .. هذا أبسط معطيات النص.
فالخطاب للإنسان على وجه العموم, وليس للأزواج, والنص يطرح تجربة إنسانية تتعلق
بالثقة في النفس.. يمر الإنسان بعشرات التجارب المماثلة في مجال الأسرة, والعمل,
والعلاقات بشكل عام. ولعل القارىء يلاحظ الملمح الذي ضمنته الكاتبة بذكاء عن أعراض
الفصام. وهو واحد من أكثر أمراض النفس فداحة وإضراراً بصاحبه. ويبدو هذا العرض فى
انتباه الموظف لحديث الزميلان عن خيانة الزوجات . ولولا الوشاية بما أحدثته من
ارتباك مؤقت وعارض, ما انتبه الرجل لهذا الحديث. الشكوك والريب إذن قد تحولان
الشخص قليل الثقافة, والثقة بالنفس إلى شخص عصابي .
والمكالمة الهاتفية مجهولة المصدر في ظني مجرد حيلة فنية
تشير إلى كل مايمكن أن يشكل تهديداً للسلامة النفسية للأشخاص. هي نموذج لعشرات
المؤثرات الخارجية التى تستهدف الاتزان النفسى للإنسان في كل حظة, سواء عمداً, أو
بشكل عارض, على اعتبار أن الإنسان يحيا في بيئة معادية, وهذا شأن الإنسان منذ كان
بدائياً يسكن الأشجار , ولا أظن أن الحال قد تغير في ظل الحضارة الحديثة إلا إلى
الأسوأ.
والسلامة النفسية للإنسان تعتمد على اكتسابه اللياقة
للتعامل مع المؤثرات الخارجية بشكل يجنبه الفوضى. فالرجل كما لاحظنا في القصة
استطاع أن يحيد المؤثر الخارجي بأسلوب عبرت عنه الكاتبة بالجملة .. " والبعض
الآخر منه عقد جلسة مع عقله " أي أن الرجل لم يتشتت ذهنه بالكامل. بل نحي
التهديد إلى خلفية دماغه يناقشه ببعض ذهنه , بينما كرس مايكفي من الانتباه لإنجاز
العمل ولو بشكل أقل كفاءة. فقد اضطر لمراجعة الحسابات مرة بعد مرة.
وكما أصاب التهديد عقله ببعض الارتباك, فقد أيقظ فيه
اعتبارات لم يكن يوليها العناية.متى كانت آخر مرة قدم لامرأته باقة ورد, أو هدية
بسيطة؟. جرفته أعباء العمل, وروتينية الحياة, وشاشة التلفاز, حتى تآكلت حواف
المقاعد, وتآكل حواف المقاعد واضح الدلالة على تآكل الحوار, والانسجام, وعلى رتابة
الحياة الزوجية, وخلوها من البهجة.
وقرار الرجل بالدخول على زوجته خاملا – خلافاً للعادة –
باقة من الورد يوحي بدلالاتين: أولاهما يقظة الإنسان في داخله, وانتباهه إلى نواحي
القصور في علاقته بالزوجة . أما الدلالة الثانية فبالحنكة التى وسمت سلوك الزوج.
فهو بداية وتحت وطأة الوشاية قمع الخاطر الذي راوده للإتصال بزوجته, ولا أظن
القارىء قد صدق ادعاءات الراوي بأن ما منعه من الاتصال هو اعتداده بنفسه, أو ثقته
بالعلاقة الطيبة التى تجمعه بامرأته, ولا حتى ضيق وقته وانغماسه في عمله, ( ولنا
عودة لتلك النقطة ) .. فالأكثر مدعاة للقبول هو أنه قرر أن يكتشف بنفسه حقيقة
الأمر من خلال مراقبته لسلوك الزوجة إزاء بادرة عاطفية غير معتادة كتقديم باقة من
الورد, ومن خلال المشهد الختامي يتأكد الزوج من كذب الوشاية. فلغة الجسد أكثر
صدقاً من لغة اللسان.
أما ماأحببت أن أعود إليه بالمراجعة فهو التقرير في سرد
الراوي لدوافع الزوج. فالسرد جاء على لسان راو عليم مساو في علمه للشخصية القصصية.
يقوم بوصف أفعاله , وما يدور في ذهنه. لكن الفقرة المشار إليها مثلت في رأيي
تجاوزاً لهذا الدور, إذ أدلي فيها الراوي برأيه الشخصي. وفي مثل تلك الحالات يمكن
للقارىء أن يلحظ الكاتب بوجوده غير المرغوب فيه فنياً. ولعلها الهنة الوحيدة في نص
قصصي مصنوع بعناية, وبلغة سليمة عدا خطأ واحد شائع : ( العمل الغير معتاد عليه /
غير المعتاد ).
تحياتي لإبداعك صديقتي فريال موسى
محسن الطوخي
_________
نص
القصة
نخـــزة
من بين أوراقه المتناثرة، ومن تحت لجة
الأفكار التي تتقاذفه، استفاق على صوت هاتفه الذي ما كف عن الرنين والارتفاع حتى
لبث صراخا ينخرُ مخه دون أن يجد له متسعا في محيط انزعاجه ، هب يلتقطه، بحركة آلية
ضغط زر التواصل، بلا وعي: "نعم!" الطرف الآخر: "زوجتك تخونك"
... "نــــعم!! ... مَن المتكلم؟... الوو الوو" ... توت توت توت ...
أُقفل الخط.
تجمدت أطرافه للحظة.. للحظة فقط.. عجلة
الأعمال المتأخرة المتراكمة لم تتوقف عن الجريان به، عاد بعضه إلى الأوراق، والبعض
الآخر منه عقد جلسة مع عقله.. "زوجتي
تخونني؟!" ... يداه تقلبان الأوراق، عيناه تجريان فوق سطورها، أصابعه تضغط
فوق أزرار الحاسبة، لا يعرف ماذا يقرأ أو يدوّن، ارتاب من النتيجة فاضطر لمراجعة
الحسابات.. الجلسة المنعقدة مع عقله وأغلب بعضه ما زالت مستمرة ..يدرس الموقف
بحذر، "لا يمكن!.. كلام محض كذب المراد به إشعال فتيل فتنة، إنها ادعاءات
المنافسين لتشتيت فكري وإشغالي عن عملي".
أحاديث
جانبية بين زميليه في المكتب تلتقطها أذنيه، يتحدثان عن خيانة الزوجات، يوعزان
السبب لانشغال أزواجهم عنهن، وطول أوقات عملهم، رفع إليهما نظرة متشككة.. هل
يقصدان أن يُسمعاه هذا الكلام؟ هل يعرفان شيئا؟ هل صدفة أن ينشغلا بهذا الأمر
تزامنا مع المكالمة التي تلقاها؟ رجع لهاتفه يتفقده، لا يظهر رقم على الشاشة، لم
يبدُ أن زميليه يتغامزان عليه ، بل فعلا منغمسان بهذا الحديث، خطر له أن يتصل
بزوجته، لكن اعتداده الشديد بنفسه منعه، ثقته بعلاقته الطيبة مع نصفه الثاني رجح
امتناعه، من جهة أخرى ضيق وقته بسبب التزامه بوقت تسليم دراسته للعطاء، ومع هذا لم
يقدر على فض جلسة عقله مع نفسه أو يشارك زميليه النقاش أو يصرخ بهما ليخرسا.
انتهى
الدوام.. أستطاع أن ينجز العمل الموكل إليه في وقته، قفل راجعا لبيته.. لا يدري
لمَ خطر له أن يبتاع لزوجته باقة ورد، لم يرَ موجبا لهذا العمل الغير معتاد عليه ،
لكنه فعل.
تلقت
الزوجة الباقة بابتهاج شديد و.. استغراب، وجد نفسه غريبا عن نفسه تلك الليلة ، كان
بمنتهى اللطف مع شريكته، دعاها بعد العشاء الى الشرفة في جلسة حميمية بعيدا عن
شاشة التلفاز ومقاعدها التي أكلت جنبيهما طوال سبع سنوات، لم تمانع زوجته ابدأ بل
رحبت باقتراحه واستأذنته لتعد الشاي ، مكث ينتظرها، شغل وقته بعّد النجوم، يتنفس
نسيما ليليا رطبا، يطرد افكاراً تغث باله وتنغص امسيتهما،عادت بعد برهة تحمل الشاي
على صينية لا تخرج إلا في المناسبات، يسبقها عطرها، لفته اهتمامها بملبسها وتصفيفة
شعرها، أسعده أنها وضعت ورداته في مزهرية توسطت منضدة الشرفة، وقف لاستقبالها،
أخذها من يدها، قبّلها وأجلسها بقربه، كادت تسأله عن سبب تغيره؟ وهو يعاتب نفسه
لأنه لم يقدم من قبل على هذا الفعل البسيط الذي يدخل البهجة إلى قلبيهما ويقربهما
من بعض، سارت بهما الأمسية إلى افضل مما تصورا.
رنّ
هاتفه ليقطع عليهما انسجامهما، مكالمة بدون رقم، غلى الدم في عروقه، بدأ صدره
يرتفع ويهبط، كادت نجوم السماء أن تسقط فوق رأسه، رمق زوجته وهي في نشوة كطفلة
منحها بابا نويل الهدية التي طالما تمنتها، عيناها تشعان فرحا وهي تريح رأسها على
صدره، عندها أعلن انفضاض الجلسة الجانبية لبعضه مع عقله، أطفأ هاتفه، أحاط زوجته
بذراعيه وهمس لها .. أحبك.
فريال موسى