الخميس، 6 أكتوبر 2022

دراسة نقدية بقلم الأستاذة الأديبة/ عبير عزاوي

 

إيقاعات لونية على سحر الماضي

حكاية زنبق وعشق

قراءة في قصة لون الحناء

للكاتب/ محسن الطوخي





لم أقرأ قصة تثير جنون الشعر وتعتلي قدرة اللغة على التأويل وتستثمر مساحات اللون ووقع الموسيقا وتدفق المعاني وارتياب المغزى وقوة الفكرة ومكر التلميح بمثل هذه المهارة في القص والضبط المثير لإيقاع السرد.

ما قرأته الآن في هذه القصة مثير ومربك يحثني لأمرين الأول أن أستمتع باللغة الشعرية وأقرأ الجمل السردية بإيقاع موسيقي شعري منضبط وكأنها قصيدة تترقرق متل ماء نبع لغوي صافي

والأمر الثاني ان استمتع بتفكيك النص وإعادة ترتيب علائق الشخصيات والأحداث فيه فأجد عجبا

القصة سهلة ورائقة

تشكو ابنته له رفيق طفولتها وتتهمه انه دفعها عن الدرج فيذهب الى الروضة ليستجلي الأمر يحتضن الولد بين ركبتيه ويعده باحضار هدية يظنها الطفل طائر البطريق في رمزية لحلم قديم جامح.

يكتشف صلة الطقل بمحبوبته القديمة برابط لون الشعر والاسم المثير

هي حنين لحب قديم ذكرى يثيرها لون الحناء لشعر طفل في الروضة  يربط السارد بينه وبين ذكرى امرأة لها ذات لون الشعر مع شامة حيية على الصدغ .

وأين المثير في الأمر

أن يطلب عنوانها ليستأذن منها في اصطحاب الطفل في نزهة مع عائلته فيحصل عليه ويقوم بالزيارة

وينتزع الطفل وعدا من السارد باصطحاب أمه في النزهة القادمة وتأتي القفلة لتزيد حيرة القارئ وليبدأ من هنا في خيالاته واحتمالات حصول اللقاء من عدمه هو التشويق والمخاتلة التي تتميز بها القصة القصيرة وتنجح بنجاحها وتتألق بوهجها. فتقفل القصة على أفق قصة جديدة مثيرة و متجددة كما هي قصص الحب الخالد.

  فأي مجد لطفولة مغدقة بالبراءة تعود لبث الروح في ماض منشود.

 

ولماذا لا أبدأ من جملة الاستهلال البارعة

حبروك صديق طفولتي

عبارة على لسان طفلة تخبر والدها عنه فيضحك حتى تدمع عيناه شوقا وحنينا وألما فالاسم كنية الطفل أما اسمه فهو أحمد كما أبلغت المربية الوالد " لدينا أكثر من طفل اسمه أحمد ، نميز بينهم بالألقاب"

لكن الكنية ( حبروك ) ترتبط عنده بذكرى امرأة ألهبت مشاعره في ماض بعيد. لتعود الحكاية من جديد .

يدفعه ذلك لطلب عنوان الطفل ( ترددت وانا اطلب عنوان حبروك ، علقت على نظرة نصفها مكر ونصفها دهشة ) إذا فالأمر مفضوح للآخرين بنسبة ما من خلال النظرات. يبعد الشبهة عنه بذكر زوجته التي تنتظر خارجا.

مايميز النص غناه بانفعالات الشخصيات من خلال النظرات والألوان والتداخل في المشاعر وردود الفعل، والاقتراب المتوتر من مواجهات لاتحدث بل توشك. وهذا سر قرب القصة القصيرة من القلب وتاثيرها المستدام في الوجدان.

الرمزية و طيوف الألوان

وشاح الزوجة الازرق وهو لون بارد هل يرمز لبرودة المشاعر بين الزوجين بمقابل لون الحناء الأحمر الذي يتوهج بلون شعر الطفل فيربط السارد بذكرى امرأة صهباء يثير لون شعرها وهج ذكرى وحرارة حب قديم.

لون دم الغزال الذي ترتديه المربية يوحي بالتوطئة لقصة ذكرى مشتعلة في ماض عزيز لاببارح المخيلة .

لون البحر العميق وعمل القبطان في انعكاس رمزي لإبحار السارد في عالم الخيال والرومانسية الشفيفة واشنعال الغليون رمز لاشتعال الذكرى وتأتي رمزية عين الاعصار لتضع السارد في نقطة الذروة للحدث سواء في حركته الداخلية عند السارد او الخارجية في لحظة حصوله على عنوان بيت الطفل أحمر الشعر.

تقنية جبل الجليد

تعد هذه التقنية هي الأبرز حيث ظهرت لمحة عن القصة الحقيقية التي هي قصة الحب القديم حيث ترك الكاتب لنا تخيل شكل هذه الحكاية العاصفة العميقة والمسيطرة والتي نرى آثارها كما نرى آثار اعصار بعد مروره فالقصة هي جبل الجليد المستتر بشكل شفيف تحت قمته التي برزت بشكل حاد جامح مدهش . من خلال موقف قد يبدو عابرا وعاديا ومتكررا لحادثة وقعت بين طفلين صديقين في حضانة تجمعهما. فتتم معالجة الخلاف لتنفتح مشاهد راسخة في عمق الذاكرة لقصة كبيرة ماكثة في قاع القلب والنفس ولاندري إلى اي عمق قد وصلت فالكاتب بحنكته ترك هذه التقدير للقارئ ليشغله ويحرك بحيرة ذكرياته الراكدة.

رسم الشخصية

 في هذه القصة بدا ترسيم الشخصيات متقنا إلى حد كبير اذ اعتمد الكاتب طريقة السهم المضيء حيث يكشف جوانب الشخصية بأسهم غير مباشرة تضيء الصفة دون التفصيل فيها فهو أضاء شخصية المحبوبة بسهم شعرها الأحمر فهي صهباء جميلة حيية بدلالة الشامة التي ترقد باستحياء.

وأشار إلى صبا وجمال المريية من خلال إضاءة سهم حول ثوبها الذي بلون دم الغزال دون ان يفصل في وصفها وجمالها

كذلك رسم شخصية الطفل من خلال لون شعره الذي هو مفتاح القصة وبؤرة تركيزها ومثار الذكرى.

اما شخصية القبطان مدير الروضة فهي شخصية مختارة بعناية حيث تنتهي بعد ترحال وتطواف ومغامرات ومواجهات للعواصف في إدارة روضة أطفال ينشد فيها حنينا للطفولة والبراءة وروعة البدايات ووهجها اللطيف.

شخصية الزوجة حاضرة ومؤثرة تدير الأمور بهدوء ونضج رغم انها لاتظهر كثيرا لكنها هي من تاخذالعنوان وتتسلم مهمة التفاهم مع والدة الطفل ( المحبوبة وبؤرة الذكرى) وهنا بقي الكاتب ممسكا زمام السرد والشخصية وابقى المواربة قائمة بعدم حدوث اللقاء ليبقى القارئ واقعا تخت سيطرة السؤال هل التقاها ام لا ؟!

وعدا ذلك فالزوجة لم تظهر سوى في لمحات سريعة وامضة لاتبدو ذات تاثير كبير. فالكاتب يحفظ لها مكانها وحساسية وجودها.

اللغة الشاعرية

يبدو من الصعب بمكان استخدام لغة شعرية في القصة القصيرة دون ان تغري الكاتب بالتحليق معها والابتعاد عن الحدث لكن الكاتب كان متمكنا من لغته ممسكا سرده متحكما بالحدث مختزلا اللغة والتفاصيل الى أقل قدر ممكن مستفيدا من قدراته السردية ليضع القارئ في موضع الدهشة والابحار في الخيال والتأمل في بواطن القصة رغم الحدث البسيط الذي انطلقت منه، فحقق تضافرا فريدا بين سمو اللغة وتصاعد الحدث وتوتر السرد . وهذه مهارات قلما ينجح قاص بها دون ان يكون متمرسا أصيل الموهبة واسع الخبرة.

عبير عزاوي

 



________

نص القصة

_______

" حبروك " صديق طفلتى .. عندما حكت لى عنه لأول مرة، ضحكتُ حتى دمعت عيناى .. فى دار الحضانة قالت لى المربية الشابة وهى تشرق بابتسامة: لدينا أكثر من طفل يُدعى أحمد، نميز بينهم بالألقاب. ترددتْ وأنا أطلب عنوان حبروك، علَّقتْ علىَ نظرة، نصفها مكر، ونصفها دهشة. كان النطاق الأبيض العريض يضيق حول الخصر فى توافقٍ تام مع دم الغزال المنسدل حتى أطراف الركبتين. قلت: زوجتى تنتظر فى الخارج. توارى المكرُ خجلاً، قالت: تعال لتقابل القبطان.

قادتنى إلى غرفة المدير .. قال العجوز: لم أترك البحر بإرادتى. ولما تساءلتْ نظرتى قال: الربو، ومال يشعل غليونه. كان الطفل قد دخل، وقف صامتاً على بعد ذراع، تلامس رأسه المتوهجة بلون الحنّاء - بالكاد - حافة المكتب. راح ينظر إلى مرة، وإلى القبطان مرة، بينما تدفّقتْ فى المكان رائحة الطباق. حرك لون الحنّاء جناحَ فراشة بجوار القلب.

قال الطفل: هى تعثّرتْ فى الدَرَج .. لم أدفعها. 

قلت: أعرف .. هى لم تتّهمك.

ثبّتَ نظرته علىّ ولم ينطق .. قلت: ماذا تظننى أحضرت لك ؟

قال وهو يتملص من بين ركبتى: ربما طائر البطريق . .

ابتسمتُ، كنت أعرف خيال ابنتى، وأحفظ كرّاسات صورها الملونة.

********

كوب الشاى الدافىء، وفوق المنضدة أشياء صغيرة. لفافة حلوى مأخوذ منها قضمة، حبات فيشار، وشاح زوجتى الأزرق، مزقٌ من ضوء الشمس. وهى هناك فى الركن، ترقب من تحت النظارة الشمسية لهو الطفلين.

 أتذكر كيف تلون وجه القبطان وأنا أطلب عنوان حبروك. لمعت فى عينيه ابتسامة، نصفها مكر، ونصفها ريبة. تلاشى المكرُ فى صفاقةٍ وأنا أذكر له الأسباب. كان يجد الوسيلةَ ليحدثنى عن البحر. قال لى أن البحر ليست به عناوين.

قال: فى البحر تتلقى الإنذار قبل مجىء الأنواء. تتساءل عيناى فيقول: من لون الماء.. قبل هبوب الريح يتغير لون الماء .. حين يدور الماء ويدور، تتكون عين الإعصار .. هل تعرف عين الإعصار ؟

( أعرف نظراتك تلك، من تحت النظارة الشمسية. منذ خرجتُ إليك أسعل من رائحة الغليون، وكأنك عرافة جبل الأوليمب. هل تقدر أن تُخفى كيف يحرك فيك الأشواق، لون الحناء.) 

********

هتَفت زوجتيْ محتدة: عجوزٌ مراوغ. أنت تطلب عنواناً .. لا أكثر من عنوان. وافقتُ مرغماً على الانتظار ، استدارتْ، عبَرَتْ الطريق، توارت خلف الباب الشاهق..." قبل هبوب الريح ... يتغير لون الماء " .

********

عادتْ والبشر يزاحم فى عينيها الريبة: هاكَ العنوان. راحت تتلو من ورقة، اسم الشارع، رقم البيت. وأخيراً، نحن أمام البيت المطلوب. لم أفتح باب السيارة. قالت وبريق الريبة يتكاثف: سأذهبْ، لن يتعدى الأمر دقائق. رحتُ أفتش عن قرص الشمس خلف ركام السحب الفضية، وأُعَرِِّضْ صفحة وجهى الساخن لرذاذ المطر المتساقط. عادت لتداعب طفلتنا وتقول: تحيا السيدة فى قصر . 

قالت: فى الغد نمر لنصحب "حبروك" فى نزهتنا.

لم أجرؤ أن أسأل، هل شعر الأم بلون الحنّاء. هل تعلو الصدغ الأيمن شامْة ترقد باستحياء ؟

********

حبروك ذو السنوات الخمس الغضة يعرف نقطة ضعفى، يقبلُ، يعبثُ بالحنّاء المشتعلة فوق الجبهة ويقول: فى المرّة القادمة، هل تأتى ماما معنا ؟

أنت ذهبت .. وأنت أتيت بحبروك .. وأنا مزروعٌ تحت الظل الوارف .. وشظايا البقع الشمسية، تتراقص فوق لفافة حلوى، مأخوذ منها القضمة .. وحبّات فيشار .. ووشاح أزرق .. وأحدِّقُ فى عين الإعصار تحت النظارة الشمسية.

تسكبُ بسمة، وتقبّل خد الطفل، وتقول: أجل، سندعو ماما لتلهو معنا .

  يتهلل وجه الطفل.

محسن_الطوخي

................................

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية