فنيات الإبداع في الكتابة القصصية للقاصة المبدعة عبير عزاوي. بقلم الأستاذ الناقد/المصطفى بلعوام
——-
أنموذج: قصة بسيمياء
أ. د. المصطفى بلعوام
————
أهدي هذه الخربشات المتواضعة جدا لأخي النبيل نبيل النجار؛ إذ ساعدني كثيرا في كتابتها بأسئلته الثاقبة والمحرجة لبعض قصص القاصة عبير عزاوي، وما أجملها من مساعدة لعاشق حرف مثلي، لا أقل ولا اكثر، في محراب واحة القصة القصيرة.
——-
— فهرست
١-تقديم
٢-بسيمياء: في معطيات لغة القص
٣-بين المخيال ودراما التناص في الكتابة القصصية
٤-علاقة السرد بالكتابة في أسلوب القصة
٥-بصمة القاصة عبير عزاوي في عالم القص
٦-من قبيل الخاتمة
———-
————تصدير ———————————
"قرأنا،
فشلنا في التأويل"
قال العطر.
———— الشاعر سليمان جمعة———-
١-تقديم
تمثل قصة القاصة عبير عزاوي مثالا ملموسا وشهادة حية لما يعنيه الإبداع عامة، والكتابة القصصية الإبداعية في فنيات وآليات القصة القصيرة خاصة. إنها قصة سديمية ومتعالية على كل الأدوات المعيارية المعتاد عليها في مقاربة حقل السرديات. فلا شيء فيها يمكن الاطمئنان له، ولا هي ذاتها تطمئن إلى شيء في فنية مبحثها الإبداعي بلغة القص وعليه. وهو الشيء الذي يجعلها قصة غير عادية في استثنائية شغلها أكثر على الكتابة من السرد. فما الفرق بينهما إذن؟ وإلى أي مدى يتحول فيها السرد مادة إبداع للكتابة ذاتها في قصة "بسيمياء"للقاصة المبدعة عبير عزاوي؟ وما هي خاصيتها في فن القص؟
٢- بسيمياء: في معطيات لغة القص
أول ما يسترعي الانتباه في أوليات القراءة، أن القصة تستعصي على كل قراءة خطية تحتفل بما قد تعتقد أنه خطابها الذي تكونه اعتمادا على حكايتها من شرح مجموع عباراتها حيث سبيلها في إيضاح المعنى. كل شيء فيها يتبع نهج تكسير نمطية تشكيل الحكاية من حدث وحبكة، وسقطة. فعنوانها يبدو من البدء ذو غرابة مثله مثل افتتاحيتها التي نعرف عبرها أنه اسم علم لامرأة بعينها : "سقط النصيف حين مر طيف شاعرها وهمس ملتاعا:
-"بسيمياء لا تتركيني للظلال."
إنها غرابة استهلال؛ يبدأ دفعة واحدة بواقعة أو حدث غير طبيعي دون تحضيرات مسبقة ولا مقدمات تأثيثية له. ويقدم حُدوثه كما لو أنه معطى حادث حقيقة تتوزع على صيغتين أو في علاقتين بفعل ظرف "حين": هل سقط النصيف بمرور طيف الشاعر -علاقة علية- أم سقط متزامنا مع مروره -علاقة تزامنية-. وما معنى سقط النصيف ودوره الضبابي الموحي ب"علاقة دون علاقة" مع "بسيمياء"؟ وكيف لظلال أن تعذب طيف شاعر؟ ومن هي هذه الظلال؟
لنا هنا وعلى الأقل في هذا الملفوظ السردي الاستهلالي: طيف شاعر— بسيمياء—ظلال—ونصيف قد سقط. ونظن بفعل غرابة العلاقة فيما بينهم أن أمر الحكاية متعلق بهم أساسا وما عليها سوى تذييل مجريات ما حدث في تسلسل تصاعدي حسبما يفترضه فن القصة القصيرة. غير أن القاصة عبير عزاوي ستنتهج مسارا آخر، يقوم على فاعلية الدال في إنتاجه لمدلولات متعددة تُعلِق مدلوله، وفي الوقت نفسه، في تأسيسه الهيكلي لمعمارية القصة وذلك بالاعتماد على "محطات سردية" تكفل له ممارسة فاعليته باعتباره دال دون شرطية مدلوله، أي أنه هو الآخر في علاقة دون علاقة مع مدلوله. كيف؟
نلاحظ أن النص يبدأ بجملة /سقط النصيف؛ وبعدها هنا وهناك يعود إليها، ومع كل عودة يتغير فيها المضاف إليه، وفي تغيير المضاف إليه، تتحول من مدلول لدال إلى دال منفتح على مدلولات متعددة وهو ما نعنيه بمحطة سردية ونوضحها بما يلي:
___سقط النصيف حين مر طيف شاعرها.
___حين سقط النصيف طار من قلبها خوف الوشاة.
___حين سقط النصيف أسقطك الهوى.
___سقط النصيف حين مروا جميعا.
تبدأ القصة إذن ب"سقط النصيف"؛ وفي كل مرة تأتي فيها تحمل معها مضافا إليه مغايرا كمحطة سردية تطل على محكي آخر وعلاقة أخرى، تتوزع كما قلنا سابقا بين "علاقة علية أو علاقة تزامنية"؛ فهي محطة سردية واحدة لحدث واحد حدث مرة واحدة: /حين/ سقط النصيف، بيد أنها لا تستقر على مدلول واحد إلى درجة أنها تصبح دالا يشغلُ دوال عديدة وممكنة : سقط النصيف —— حين مر طيف شاعرها/حين مروا جميعا ( شاعرها- ملكها-وزياد). سقوط النصيف هنا غير مرتبط بشيء محدد بل مستعمل من حيث هو دال يسافر في مدلولات غير ممكنة مادام أن سقوطه لا يمكن أن يجمع في آن حدوثه، طيف شاعرها في مروره، ومرورهم هم جميعا /الملك/زياد شاعرها دون طيف/حيث على أعتاب سحرها يطير صوابهم، فيمزق الملك بسيف سلطانه جسد الفتى /الشاعر/ ويشرد زياد في البلاد…وبنفس التقنية، نجدها إما سابقة وإما لاحقة لظرف "حين".سابقة؛ ويترتب عنها تعبير عن حالة "نفسية" (طار خوفها -أسقطه الهوى). لاحقة؛ وترتبط بوجود أو وفق القصة بكينونة كائن، إن بالقوة (طيف)أو بالفعل (زياد/ ملك/شاعر).
إنه لمن الواضح أننا حيال فواعل ذي درجات متفاوتة التفعيل ومتشابكة فيما بينها لدرجة يصعب معها إخضاع كيفية حضورها لمنطق دوران عقارب السرد وكذا هويتها. نعاين من جهة، أن الملك تدل عليه صفته، فهو أقرش، وزياد يحيل للشاعر النابغة الذبياني وصاحبة النصيف اسمها بسيمياء ووصيفتها رؤبة؛ في حين أن الشاعر هو وحده الذي لا يتوفر على اسم صريح أو كناية، ماعَدا نعتَه بالمحبوب. ومن الواضح أيضا أننا نتعامل معها كحقيقة قصصية وليس كحقيقة تاريخية مادام شغل قراءتنا لا هدف له غير استكناه ماهية الإبداع القصصي للقاصة عبير عزاوي.
وحدها هي الأرواح المعذبة والأطياف التائهة تقول الحقيقة؛ حقيقة الحدث وما حدث لها من عالم آخر معلق بين الموت والحياة؛ فما زالت هناك أشياء أخرى لم تفصح عنها تمثل قصة أخرى؛ قصة أطياف أسيرة في قصر كان مَوْقع ما حدث لهم من عنف درامي ولم يبرأ منه أحد؛ ذلك الحدث الذي ما كان له إلا أن يظل موقوفا على حرقة الحُبّ ولهيب القتل. وبناء عليه، نفهم فعالية /سقط النصيف/ في إعادة بناء الحدث وصياغته حسبما تقتضيه القصة وما تختاره من استراتيجية سردية في بلورة مناخ عالمها القصصي. فلا وجود عيني، إن جاز التعبير، للشاعر الوسيم، ولا لزياد ولا لرؤبة؛ حاملة هَمِّ السرد وسرها الملعون مع سوء الطالع وحظ زياد الملعون. إذ هم تارة أطياف وتارة ظلال، ولكل واحد منهم وظيفة مُفَعلة بمقتضى فعالية "سقط النصيف" من حيث هو دال تحركه فاعلية تأجيل مدلولاته، وتناميها عبر ما يربط الطيف بالظل في مناخ عالم سديمي: الشاعر الوسيم المحبوب هو طيف له ظل /مر طيف شاعرها (..) جسدها الملكي ممهور بالسبي الأبدي لطيف لا يبرح ظله/؛ وزياد هو أيضًا طيف بظل يحتضر/ظِلِّي يحتضر/. لننتبه هنا أن القاصة عبير عزاوي لا تأخذهما بمعناهما المعجمي على اعتبار أن لهما نفس المعنى من قبيل الترادف بل تميز بينهما كما لو كانا يتمتعان باستقلالية دلالية. فهي تلعب بهما تدريجيا بين شد وجذب إلى أن يتلاشى الخيط الفاصل بينهما ويبدوان في حالة اظطراب لا نعرف فيها من هو ظل من، ولا نستطيع تحديد موقعة القول لأي منهما. إنها حالة اضطراب اشتراطية مرتبطة بموقع الساردة من الحدث وتبعاته عليها، حيث لم يبق لها سوى أن تعيده وتعيد مأساة حقيقته من خلال علاقة الطيف بالظل في قصر تهيم فيه أرواح شقية. وتتجلى نواتها في متواليات الساردة: -أتظن الطيف يحس أو يرى؟- ومن أين لي أن أعرف أنه ظل شاعرها وليس أنت. الساردة هي طيف إذن؛ وبما أنه لا يحس ولا يرى، فكل ما جاءت به من قول كان نوعا من صمت الحديث الشقي مع النفس، وتحديدا كان هو مصدر الاضطراب في المشج بينهما، أي بين صوت الشاعر وصوت زياد. ولا غرابة إذا كان نفس الشيء يجترح أيضا قصائدهما. سنعود إلى ذلك فيما بعد؛ لكن ما يهمنا الآن هو معرفة نوعية العلاقة التي تربط بين حالة اضطراب الساردة بخلطها بين صوتي الشاعر وصوت زياد، وتقنية القاصة عبير عزاوي التي استخدمتها حتى توطد مصداقية احتمالاتها. تبدأ القصة بمتوالية طيف شاعر محترق من شوقه، يتسول فيها إلى بسيمياء بأن لا تتركه فريسة للظلال؛ ثم يلحقها مباشرة تعقيب أو صوت الساردة " لكنني لم أجرأ على الاعتراف له ..". طيف الشاعر يوجه التماسه لبسيمياء بدون إجابة، والساردة تجيب مع نفسها وكأن توسله يخاطبها. والحقيقة أنها تقنية الخدعة في القص، طالما أن كل شيء هو أصله إعادة واسترجاع سردي لواقعة ما حدث وفواجعها بعالم الأطياف ومحنة الأرواح. مما يسمح لنا بأن نعتبر ذلك تمهيدا لتوظيف تقنية مخاتلة باسم تقنية المناظرة أو المناقضة من جهة وتقنية التحويل بمعناه التحليلي النفسي من جهة أخرى. إذ نرى أن مشهدية طيف الشاعر في بداية القص تبدو كما لو أنها تشكل وحدة قصصية وما سيأتي بعدها، وبَعْدَ أن لم تجرأ الساردة الاعتراف له، سيكون مشهدية أخرى متعلقة بطيف آخر /زياد/ في علاقة مناظرة أو مناقضة: مشهدية أولى — في علاقة مناظرة أو مناقضة - مع مشهدية ثانية. لكن القاصة عبير عزاوي ستكسر تتابع هاتين المشهديتين بتقنية التحويل التي يتحول بها طيف الشاعر وزياد إلى موضوع واحد تؤثث بهما الساردة سردية غصة عشقها المكبوت كطيف لا يرى ولا يحس، وبالتالي، يخلط بين طيفي الشاعر وزياد.
هل هو جدل أو لعبة جدل الكينونة والمظهر في عالم تُوَّزع فيه حقيقة المأساة بين الأصل وأشباهه (طيف/ظلال)، ومأساة الحقيقة بين المرئي وغير المرئي؟
٣-بين المخيال ودراما التناص في الكتابة القصصية
عنوان القصة غريب بحيث أنه لا يحمل دلالة يمكن استنباطها منه، ولا نعرف أنه اسم علم إلا في الاستهلال، وأنه استحضار مخيال قصة من أعماق المورث العربي؛ إنها قصة قصيدة ودراماتورجية عشق مستحيل، لملك وزوجته وشاعرين. لذا، تضعنا قراءة قصة "بسيمياء" مباشرة ولأول وهلة في إكراه معرفي: معرفة الموروث من داخلها ومرجعيته من خارجها، ومعرفة ما تنتجه من معرفة من كونها قصة قصيرة مستقلة بحقيقتها القصصية. وترتكز في ظاهرها على اسميين تاريخيين: بسيمياء والملك النعمان؛ وثلاث إشارات، وبتعبير أدق علامات توحي من خلال نعوت أو صفة أو ما شابه ذلك: الشاعر المحبوب لبسيمياء وزياد الذي نخمن أنه حتما الشاعر النابغة الذبياني والقصيدة اللغز التي تشكل بجملة منها قفل حبكتها ومفتاحها في آن معا: سقط النصيف. فقد سقط؛ وعلى أعتاب سحرها، طار صواب الشاعر المحبوب وصواب زياد-النابغة وكذا صواب الملك النعمان الذي، بسلطان سيفه، مزق جسد الأول وشرد الثاني في البلاد. لنقل إن ذا هو الحدث-الطيف. فهو تارة، حدث له مرجعية برانية عن القصة. وتارة، طيف ينسج مخيال حدثه من جوانيتها. والمحصلة، أنهما يلغيان وجودهما الخاص ويفتحان فضاء آخر الذي هو أصالة القصة في كتابة إبداعها.
وبهذا المنظور، تبتكر القصة فواعلها الخلاقة من خلفية أن لها مواقع أطياف في علاقة بينَ بينَ مع أصولها. فلا هي استنساخ لها ولا هي مجردة عنها تماما. والوصيفة، وفي ذات الآن الطيف السارد باسم رؤبة، هي مفصل كل ما يأتي به السرد في القصة، اعتمادا على جملةِ "سقط النصيف" باعتبارها محطة سردية في القصة وبالتوازي علامة لقصيدة "المتجردة" التي أنشدها الشاعر النابغة الذبياني. من هي رؤبة إذن؟ وما علاقتها بالحدث-الطيف؟لكن قبل الإجابة، نرى من الأهمية بمكان أن ندقق في لغتها السردية وتقاطع تراكيب كلماتها مع شعر زياد/النابغة الذبياني/ وكذا شعر الشاعر المحبوب/المنخل/ من داخل القصة.
——-
أ-
-المنخل: "للعاني الأسير" //القصة ": "طيفا أسيرا/أسير فتنتها/الطيف المأسور".
المنخل يتحدث في قصيدته عن متيم "عاني (ذليل) أسير". وهو نفس اللفظ /أسير/ الذي تستعمله القصة، لكن بعد أن تجعله مشتركا أي تُحَّوله، مع زياد من كونه هو الآخر مأسورا وتأسره فتنتها —- متيم أسير— أسير فتنة— وفي نفس حقل الدلالات للفظة أسير، نلاحظ أيضا أنها ترادف: يحتجز-مرصود. إذ بسيمياء يحتجزها النعمان (.)وجسدها مرصود؛ الذي يعني أننا أمام معادلة بِسَِّر وليست بمجهول سر أسر بين جسد وطيف في علاقة الكينونة بالمظهر.
——
ب-
-النابغة :
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه
—————————فتناولته واتقتنا باليد
القصة:
سقط النصيف (..) مر طيف شاعرها/طار من قلبها خوف الوشاة/ مروا جميعا رفعت يدها تختبيء من عيون الناظرين(..)التقطت طرف النصيف..وأصابت قلبه سهام اللحظ ….
الواضح أننا نشهد هنا عملية توليد، لا تتعلق فقط بالدلالة العامة للبيت الشعري بل أيضا بكل كلمة فيه. وهو ما يفجر وحدته، ويصبح من ثم حاضرا في غيابه، له علاقة دون علاقة كما لاحظناه سابقا، بحيث تُسقط جملة /ولم ترد إسقاطه/؛ وتوظف جملة " التقطت طرف النصيف" بدلا من فعل "تناولته"؛وبناء عليه، تتغير وظيفة "اليد" في "واتقتنا اليد". فرؤبة الساردة تحكي بأنها رفعت يدها تختبيء من عيون الناظرين أي بسيمياء؛ والبيت الشعري يقول إنها اتقتهم باليد. وبين الاختباء والاتقاء يوارب المسكوت عنه كل صيغة لغوية تبتغي احتواءه؛ ففي الاتقاء نتقي الشيء بالشيء، أي نجعل بينه وبيننا وقاية وفي الاختباء نستتر أو نختفي عن الأنظار. لكن كيف يمكن أن تختبئ عن عيون الأنظار بمجرد رفع يدها؟ وما محل لفظة "رفع" هنا من المعنى؟ احتمالان :
رفع الشيء: حمله، نقله. ورفع يده: استسلم وأعلن الطاعة (قاموس الرائد). مما نفهم أنه لا توجد رابطة ضمنية أو سببية بين فعل رفع اليد وفعل الاختباء. فأن ترفع يدها، لا يدل إلا على فعل الرفع لا أقل ولا أكثر. ولربما التعبير هنا لم يكن موفقا؛ وهو الاحتمال الأول.
أما الاحتمال الثاني الذي يمكن استنتاجه من الاحتمال الأول فهو أن رفع اليد دال على ردة فعل لفعل حدث ولم يغير فيه أي شيء. مما يعني أن اختباءها تعبير عن مراوغة خاسرة أو بأقل خسارة. ومقبولية معناها (قد) نستقيها إسنادا، من مقصد كل فعل في جملتي: اتقتنا باليد ورفعت يدها. فاتقت (هي—-هم) باليد ورفعت (هي) يدها (هي). اليد تقوم بوظيفة في الحالة الاولى؛ وتخضع لوظيفة في الحالة الثانية، ومن ثم، لا فاعلية لها في الاختباء كما هو حالها في الاتقاء. لكن، إلى أي حد نطمئن لهذا التخريج؟ فلربما الأمر لا يتعلق بهذا ولا بذاك؛ ولا يعدو كونه مسألة لعبةِ لغةٍ يحركها اقتصاد تراكيبها اللغوية وتضييقها أو تكثيفها لفائض قيمتها الدلالية. ويكفي مراجعة شرح البيت الشعري في أمهات الكتب كي نرى أنها تصب في نفس الاتجاه؛ "فالنصيف" حسبما جاء فيها، هو الخمار الذي تضعه المرأة على وجهها. "واتقتنا": تفيد بأنه سقط عن وجهها الخمار فوضعت يدها عليه (وجهها)، لتستره عنا. لليد، في هذا السياق، دور استعاضة عن الخمار المقترن فقط بالوجه وبمعنى الخمار ذاته الذي نرتضيه في هذه العلاقة. إلا أن أبو سعيد لا يقر بذلك، كما ورد في لسان العرب:
—(النصيف ثوب تتجلَّل به المرأة فوق ثيابها كلها——-سمي نصيفا، لأنه نصَفٌ بين الناس وبينها فحجز أبصارهم عنها —-قال، والدليل على صحة ما قاله قول النابغة———-سقط النصيف، لأن النصيف إذا جعل خمارا فسقط فليس لستر وجهها مع كشفها شعرها معنى. لسان العرب، حرف النون ص. 273.) لا شيء تابت ومستقر في دلالته بما فيه معجم اللغة العربية في شرحه لمفردة النصيف. والغريب في الأمر هو مفارقة المعجم في الشرح؛ نلجأ إليه لشرح قول النابغة، فإذا به هو ذاته يرجع إلى النابغة لفهم دلالة المفردة من قوله. إنه فن القص للقاصة المبدعة عبير عزاوي الذي يجعل من كل كلمة فيه مشكلة زئبقية لنظام الحكي وتسلسله مع الحدث، طبقا لما تفعله فواعله وعوامله. فماذا تقول لنا حول "سقط النصيف"؟ أهو مرتبط بالوجه أم بالجسد؟أول معطى أن لفظة وجهٍ منعدمةُ في القصة
تماما، ولو بإشارة عابرة إليها، أو بإحالة دلالية مضمرة؛ فقط جملة يتيمة بلغة قيمية ودون وحدة قياس من غير الممكن أن ترتبط شرطا ولا أن تتعلل بها ضرورة: "تتوارى وراءه خوفا من اقتحام العيون لحرم الجمال." على ماذا يعود الجمال؟ أهو جمال الوجه أم الجسد؟ لكن بالمقابل، نعاين استعمال ملفوظ جسد على مستويات متعددة:/الملك حلم بامتلاك جسدها الذي فتن لبه——-جسدها الملكي ممهور بالسبي الأبدي لطيف لا يبرح ظله—-تهيل عليه من فضة جسدها ..روحي يحملها العبق إلى سر جسد ماوية الموصود/ ملفوظ الجسد إذن، يشكل بؤرة سقط النصيف؛ فهو جسد ملكي، يحلم الملك بتملكه؛ وهو مالك لسر يجري وراءه زياد؛ وممهور بالسبي الأبدي لطيف شاعرها الذي من فضته تهيل عليه…. والأهم أنه مع سقط النصيف، تُسقط القاصة عبير عزاوي أيضا زمن الحدث حيث كل شيء يحدث دفعة واحدة وكل الأزمنة تجد نفسها ممتصة بزمن واحد يسمح بها مخيال القصة الذي يجهل زمن الحدث، أو كما ذكرنا سابقا، إنه الحدث-الطيف الذي تصنعه القاصة عن طريق النص-الطيف، أي ما كتب عن الحدث من روايات أغلبها من خيال؛ أي أصل الطيف في الحدث هو الحدث ذاته وأصل النص في التناص المتعلق بالحدث هو الطيف لا أصل له؛ وهو ما نسميه بدراما التناص.
وقبل أن نتناول ما نعني بدراما التناص وكيف يتداخل فيها الحدث-الطيف بالطيف-النص، لا بد لنا من تكلمة فحص لغة القص وفنيتها.
تقول الساردة: "حين سقط النصيف طار من قلبها خوف الوشاة (…) وأصابت قلبه سهام اللحاظ"، وكأن ذا رجع الصدى لبيتي النابغة:
/-
"لئن كنت قد بلغت عني خيانة
————— لمبلغك الواشي أغش وأكذب"
/-
في إثر غانية رمتك بسهمها
——————فأصاب قلبك غير أن تقصد"
ولقد أصابت قلبه من حبها
—————-عن ظهر مرنان، بسهم مصرد
/-
تقتطع القاصة عبير عزاوي مفردة واحدة من البيت الشعري الأول: الواشي. وثلاث أخريات من باقي البيتين الشعريين: أصاب —قلب—سهم. ولئن كان اقتطاع مفردات هذه الاخيرة لم يطرأ عليها تغيير دال باسثناء تعيين فاعل السهم المتمثل في اللحظ، فإن وجود مفردة الوشاة في ملفوظ القصة هي نفسها إشكالية تجترح كل الأسئلة الممكنة في مدى احتمال علاقتها بما هي عليه في قصيد النابغة. كيف يطير من قلبها خوف الوشاة في اللحظة التي يسقط فيها النصيف؟ هل هي عملية تحويل وتقنية في القص، تتحول فيها شكوى النابغة من الواشي في شخص الشاعر المحبوب إلى وجه آخر لحقيقة مأساة بسيمياء التي تصبح هي المشتكية، وبذلك، ندخل في دوامة: من يشي الكلام بمن، كما ملفوظ "من يلهث وراء من" في القصة.
——-
ت-
-القصة:
"تهيل عليه مطرا من فضة جسدها، خصرها موسيقى وخلخالها سر."
قطعا، يستحيل الجزم بوجود صلة بَيِّنة تماما وصريحة بين مفردات هذا الملفوظ السردي ومفردات متن آخر براني عنه/شعر/ على غرار ملفوظة "سقط النصيف". لكن ما يشفع بأن نخرج من حيز المطابقة في الدلالة هو صلة الحدث-الطيف بحقل المرويات التي أُنتِجت حوله ولربما أنتجته أيضا، وعلى نحو ما لربما لها شبه صلة قرابة. مطر وسر خلخال …
مطر :
ولقد دخلت على الفتا
—————ة الخدر في اليوم المطير
لجسد بسيمياء سر..من فضته تهيل به مطرا على شاعرها المحبوب..ولخلخالها أيضا سر. غير أنه في الجهة المقابلة، يمور سر آخر، سر الساردة رؤبة الملعون. قال بعض الرواة وهم كثر في تضارب حقيقة ما يروون، أن بسيمياء كلفت وصيفتها بمراقبة الملك وتحذيرها من وجوده حين تكون مختلية بشاعرها. وفي يوم ما، جاء الملك على غفلة فرأى المتحردة مع شاعرها المحبوب، وقد ألبسته أحد خلخالها وشدت رجله إلى رجليها (في كتاب"المناقب المزيدية في أخبار الملوك الأسدية" وكتاب" الدر المنثور في طبقات ربات الخدور"). هل الوصيفة الساردة في قصة بسيمياء هي ذات الوصيفة التي روى عنها الرواة؟ يصعب تأكيد ذلك بدون شك، وإن كانت القصة غير ملزمة بأن يكون ما تأتي به حقيقة تاريخية. تسميها القاصة عبير عزاوي رؤبة لتأخذ كينونة وجود تخرج من وراء ظل خطاب الموروث الرسمي وينعكس "ظلها في صورة إنسان"،مثلها مثل أي إنسان، رجلا كان أم امرأة؛ تحس، تحيا، ولا قوة تحول بينها وبين أن تعانق الكلام/القول، وتقول حياتها ولو في أقصى درجات مأساتها. إنها في الحقيقة قصة رؤبة من وراء بسيمياء وقصتها. قصة الوجه الآخر الذي يسكن قوله مع شرط واحد ووحيد يكاد أن يكون وجوديا، هو أن يعيد صياغة كينونته في عوالم أخرى: عالم الأطياف والأرواح والظلال. ولا غرابة في مساق هذه العوالم أن يتشكل البناء الداخلي للقصة حول أربعة ركائز من نفس المناخ:
——العطر ——الطيف—الظل—-الروح——
قصة بسيمياء هي سر عطر يلهث وراءه ظلُ طيف في عالم تبحث فيه الروح عن مرفئها.
إنه العبَّارة التي اختلقتها القاصة عبير عزاوي والتي عبرها تحقق نوعا أو معادلا لمصداقية عالم القصة في عالم غير واقعي. فالطيف لا يرى ولا يحس في القصة، إلا أنه وقبل أو بعد كل شيء، يشم؛ هو يشم عطرها ويقتفي على إثره أثرها. ونورد عينة قليلة من حقل دلالات العطر بسبب كثرتها في القصة:
"اعتادت أن تخلط الطيب بالعنبر—- ليكون العطر كينونة تهبه منحة الوجود —-وتجعلها وشما في الروح لا يخطيء العطر—- وروحه يحملها العبق—-خطواتك على الدرب حين تسلكه على خطو عطرها—-أن يتمرغا بسمي المعطر —-هائمة في همسة من شهقة عطر أزلي السحر—-شموعا معطرة بذات العطر- أما العاشقان وحدهما من خانهما العطر —أن تقع أسير فتنة عطرها ———
أبجديات العشق المستحيل بكل أطيافه؛ بين من لا صوت له فيه /رؤبة/ غير تعليقه بتعليق روحه إلى حين؛ ومن يمسه عطره فتفيض به روحه حتى لا يبقى منه غير ظله وروح لا روح لها. فهما معا وجهان لمأساة واحدة. هذا ما يمكن أن نعتبره ظاهر المعنى بقرائنه النصية ومنطلقها في قراءة القصة مع إشارة أساسية لتقنية القاصة عبير عزاوي في تحريك عملية التحويل بين فواعل الطيف والظل بواقعيتها القصصية. فطيف شاعرها يهمس ملتاعا بأن لا يُترك للظلال؛ وطيف زياد هو الآخر تلتقطه ملتاعا ظلال فتنتها؛ هما وجهان لمأساة ظل واحد ملتاع يأسره الحدث-الطيف. إنه طيف بمعنى أن الحدث ذاته مظطرب في وجوديته من حيث هو حدث، يستحيل الاطمئنان على متانته وهويته بما أنتج حوله من أدبيات أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها تصنع حدثا خاصا بها وتتضارب في صنعه لدرجة توحي بأنها لا تتكلم عن نفس الحدث. وتبعا لذلك، يصبح النص الذي يحمله قاب قوس؛ لاشيء قار من شأنه أن يمنحه صفة نص مطابق له: قصيدة المتجردة غير موثوقة فيها ولا موثقة الأبيات الشعرية؛ قصيدة الخدر موجهة في آخر بيتها لهند وليس لبسيماء؛ الروايات أصلها متنافرة إزاءهما. إنه الطيف-النص حيث لا نص يوجد حقيقة غير توالده من الحدث-الطيف بإيهام وجود نص محقق، وحيد في أصله وواحد في حقيقته: دراما التناص لقصة لا تناص لها غير ممارسة الكتابة القصصية بمخيالها الخاص.
٤-- علاقة السرد بالكتابة في أسلوب القصة
قصة بسيمياء، بمعنى أدبية هويتها في مجال القصة القصيرة، هي تقويض للسرد بالكتابة؛ إنها طريقة مغايرة في أسلبة آليات فن القص بوساطة الكلمة من منظور تفعليها واعتبارها فواعل تنضوي تحتها الشخصيات القصصية وما يمت إلى عالمها. لنشرح حتى نزيل سوء فهم وتفاهم حول مفهومية بعض المفاهيم بالرغم من أنها أصبحت من الكلاسيكيات في خانة كان، على الأقل فيما يخص معانيها التي تأسست عليها في بدايتها. ومن بينها تحديدا مفهوم السرد. نقول، هنا وهناك، على منتوج قصصي يلحق نفسه بفن القصة القصيرة، أن له سردا جميلا في حالة الإيجاب، أو أنه قصة جميلة أو قصة يرويها الراوي، وأحيانا نقايض الراوي بالسارد، والحكي بالسرد، ونبدل خفية القصة بالحكاية….وفي زحمة هذه المفاهيم، يصبح ما يصنف أدبية القصة القصيرة مجرد فن من فنون الحكي أو السرد عِلْماً بأن مُنَظِّر السرديات نفسه، يعلن أن "الأدب فن اللغة".
ما معنى أن القصة يرويها الراوي؟ وهل هذه القصة التي يرويها الراوي، هي ذاتها التي تأتي في تجنيسها باسم "القصة القصيرة"؟ يروي الراوي "القصة-الحكاية"،وفي أحسن الأحوال
نعتبره مجرد صوت مُفَوض ينوب عن القاص أو القاصة، بمقتضى أن السرد يُسرد والحكاية تُحكى؛ وبناء عليه، لا مفر له من سارد وراوي. وكل هذا ما هو إلا نتيجة لفرضية تقوم عليها السرديات التي تنطلق من سؤال "من يتكلم؟
نُغير الفرضية، تتغير معها النظرية وخصوصا إذا طرحناها على القصة القصيرة، على الأقل، على بعض الكتابات التي تندرج تحت لواءها، وفي أدبيتها.
تزعم نظرية موت الراوي بأن "لا أحد يتكلم" في السرد القصصي؛ فالذي يتكلم فيه مبدئيا هو مخياله . والسؤال ذاته "من يتكلم؟" غير ذي أهمية؛ لأن الأهمية تكمن في السؤال عن "كيف يخلق القاص مخيال ما يكتب؟"وإذن، نخرج من فرضية أن الراوي هو الذي يتكلم، وعبره تأتي "القصة-الحكاية" إلى فرضية أن الكاتب هو الذي يكتب، ويخلق مخيال قصته كيفما يشاء هو في خلقه، وليس كيفما ابتغى الراوي الذي هو من خلقه، والذي حولناه مع السرديات إلى "شخصية حقيقية" ومستقلة في وجودها وتواجدها مع باقي الشخصيات. مما يفيد ويدل على أن عبارة "موت الراوي" تعني موت "مفهوم الراوي" كما هو عليه في السرديات، وتفريقها بين المعطى والمفهوم، ومن ثم، نطرح سؤالنا: - كيف تخلق القاصة عبير عزاوي مخيال ما تكتب بقصتها؟
رأينا آنفا كيف من جملة واحدة يتكون معمار قصة "بسيمياء" وكيف أن لها وظيفة تتجاوز ما تحمله من معنى ظاهر فيها. فمنها وإليها
يتشكل كل شيء؛ باعتبارها دال يرجئ مدلوله لحيز دوال أخرى بمدلولاتها: سقط النصيف. قلنا إنها "محطة سردية وعبَّارة"، لا لشيء إلا لأنها لا تحيل إلى معنى مغلق ينهي صلاحيتها بمجرد معرفته. إنها تقنية من تقنيات الكتابة بالكلمة ومن كلمة. وهنا القاصة عبير عزاوي تقلب عقارب الحكي/السرد حيث الكلمة هي التي تصبح شبه فواعل في تفعيل ما قد يأتي من قصة أو قصة دوما وأبدًا في حالة قدوم.
أين الحدث؟ أين الحبكة؟ تقنية الكتابة، كما في القصة، لا تنطلق من حدث أو حتى فكرة حدث تتبع أطواره ببيئة قصصية، وتبحث له عن قالب سردي، بل تأخذ انطلاقها من كلمة مشرعة على محتمل فضاء الكتابة دون وازع يملي عليها أمره. وبعبارة أخرى، إنها لا تختبر حدود السرد في قوالبه الجاهزة-بداية وذروة ونهاية- فقط تمارس "فن اللغة" وليس "فن الحكي" في أدبية القصة القصيرة. ولعل هذا هو الذي يفسر ذكاء القصة في خلق توتر بين تقنية المناظرة وتقنية المناقضة باللجوء إلى تقنية التحويل التي تنزع عن كل واحد منهما إطاره الذي يرسخ مسبقا أشياءه. فمن الإيعاز بالمناظرة والمناقضة بين "الشاعر المحبوب وزياد"، نصل إلى تداخل كلام هذين الأخيرين ملغيا هويتهما بتقنية التحويل حيث لا هوية غير مأساة حقيقة لأطياف تبحث عن حقيقة خلاصها. فلا نص لهما مسبقا بحقيقة واحدة وحدث ثابت في تاريخية ما روي عنهما. وهنا أيضا، نخرج من تقنية التناص بغاية المقابلة، أو التضمين والتعضيد والمناقضة أو بأحسن المحتمل، بهدف توليد معنى آخر، من خلفية حدث موازي أو نص أولي. ولربما، في أضعف الأحوال قد نتفق على أن الأمر يتعلق بمخيال موروث تحفر في لاوعيه القاصة عبير عزاوي؛ موروث سابق على تقعيد اللغة عامة وتثبيت معجم معاني كلماتها، تكتب على طيفه قصة عطر تحث صفر التناص، بكل ما يحتوي عليه من دراماتورجية. هي قصة عطر يوميء بذاته في وجوده ولا يدل بالضرورة على وجوده من غير ذاته، أي وجود من يتعطر به. فزياد أسير فتنة عطر ماوبة؛ وروحه هائمة في شهقة من عطر أزلي السحر. بينما رؤبة، تهيل وهجا من تبر صوتها على الكلمات، فتنة//تجعلها وشما في الروح لا يخطيء العطر. أما ماوية، فتدعو رؤبة أن تمرغ عتبات القصر وجدرانه، بخليط الطيب والعنبر، ليكون العطر حين يمر طيف شاعرها، كينونة تهبه الوجود. وعلى أي حال، فإن كان العطر هو وحده المؤهل القادر على خلاص العاشقين، فهو وحده أيضًا الذي كان من وراء هلاكهما بخيانته لهما، وكأنه خلاص من نوع آخر. وهذه الآتية من عتمة المجهول وهوامش المسكوت عنه في الروايات -رؤية- تبعثر ما رُوِي بسرها الملعون، وتشرب كأسها المسوم حتى الثمالة ولا تصير انعكاس الظل في صورة إنسان إلا بسكوت لحنها واستطالة حرقة صدرها. فكل شيء على ما يظهر أمسى تحث رحمة حاسة واهية تعلق حياة الأطياف على طرفي نقيض بين الكينونة والمظهر دون أية ضمانة لخلاصهم. حاسة شم تجري وراء عطر في قصة قصيرة استعملت هذا الأخير: ١٧ مرات. يقول الشاعر سليمان جمعة:
—
"قرأنا
فشلنا في التأويل"
قال العطر
—-
كيف نقرأ إذن، بمعرفة مسبقة لحتمية وقوع فشلنا في تأويل ما نقرأ؟ كيف يمكن للوجود في عالم الأطياف أن يكون رهان ورهين عطر يملي عليه صيغ كينونته ومظهره؛ مع معرفة مسبقة بحتمية فشله، أي فشل خلاصه؟
لن نجيب على هذه الأسئلة؛ فهي مجرد عينة من بين أسئلة أخرى بمقام جديتها حسب ما تسمح بها القصة؛ وذلك لسببين: أولاهما، أن ذلك ليس من هدف قراءتنا رغم أهميته التي تحتاج مقالا خاصا بها؛ ثانيهما، أن شغلنا هنا يتعلق أساسًا بفنية الإبداع في القص للقاصة عبير عزاوي. ونعني بالقص أدب فن اللغة في القصة القصيرة والذي رأينا جانبا من جوانبه في قصة بسيمياء، حيث تشتغل على الكتابة بتغييب منطق الحكي في تجلياته المحكومة ببعد تصاعدي للحبكة/الحدث حتى الوصول بها إلى ما يسمى بنقطة التنوير أو السقطة.. أين السقطة ونقطة التنوير في قصة بسيمياء التي سقط فيها كل شيء من أولها إلى آخرها بجملة واحدة تبنين لغتها وتحرق فيها أزمنة الحكي من خلال تدمير منطق الحبكة "سقط النصيف"؟ ولئن كان غالبا ما ينتهي كل شيء مع نقطة التنوير أو السقطة، فإنه مع القاصة عبير عزاوي لا شيء ينتهي في كتابتها؛ وبتعبير م. بلانشو، إن كتابتها التي تجترح الكلمة، "لها غاية دون نهاية"؛ لا تنغلق على معنى واحد أو عتبة واحدة لولوج عوالمها القابلة للحياة ولا تُختزل في نهاية ينتهي معها أمر كل شيء.
٥-بصمة القاصة عبير عزاوي في عالم القص
مفهوم بصمة يختلف عن مفهوم نهج أو حتى أسلوب. وإذا كان لكل شخص أسلوبه ونهجه في عالم القص، فأسلوبه أو نهجه ذا، لا يفيد، بالضرورة، أنه يحمل بصمة الإبداع؛ تلك التي تأتي مثل قيمة مضافة تلتصق بالذي أبدعها. أين تتجلى بصمة الإبداع للقاصة عبير عزاوي في عالم القص؟
أولا: يوحي القول بتقصي بصمة القاصة عبير عزاوي الإبداعية بأن معاينتنا لمنجزها الأدبي لن تنهج طريقة مدرسية تبحث فيه عن مدى توفره على قواعد القصة القصيرة، بل تعكس النهج وتبحث في منجزها الإبداعي عما يقدم هو من قيمة مضافة للقصة القصيرة باعتبار أنها فن منزلق في تاريخه يخضع للتطور، كما كما كل فن.
ثانيا: وتبعا لذلك، نقلص المرجعيات النظرية المتعددة، على الأقل، في الكيفية التي نُشغل بها تصورها ومفاهيمها على القصة القصيرة. فالمبدع الحقيقي لا يبدع استجابة لنظرية ما تملي عليه كيف يبدع؛ إنه يبدع، حيثما يقوده فكره المبدع.
ثالثًا: عالم القص الذي نبحث فيه عن بصمة القاصة عبير عزاوي هو عالم القصة القصيرة الذي لا بد من تحيينه وتحديد معالمه لنقدر على ضبط موقع بصمتها فيه. ويتعلق أساسًا بالقصة القصيرة العربية التي عرفت تحولات نوعية، سواء من حيث التجريب أو التشكيك في قواعدها الأولية والتمرد عليها إلى درجة تفكيكها عن آخرها، متجاوزة براديغم القصة الغربية التي نقرأها بها، مع أنها، ويا للمفارقة، تعود غالبا إلى القرن التاسع عشر.
رابعا: بما أن حيز هذه القراءة لا يسعها تناول البصمة الإبداعية من خلال المنجز القصصي قاطبة للقاصة عبير عزاوي، فإننا نأخذ منه ما نراه نموذجيا لأطروحتنا، وهم ستة قصص:
العائدون —بنت العفريتة—الأصوات—صلاة إلى العام الجديد —ثقب أسود في الذاكرة—الفراغ.
لكل قصة من هاته القصص، ميزتها الخاصة في تدبير مادتها الحكائية. فمنها التي تصطاد وقفة مشهدٍ مفرغٍ من حدث صاخب مركزي (الأصوات)؛ ومنها من تتموقع داخل أحداث ضاربة عرض الحائط تفريق الرئيسي والثانوي لشخصياتها (العائدون)… الخ. غير أن خلفية ثقافية واحدة توحد جغرافية متنهم الحكائي وفضاء عالمهم القصصي. السارد طيف حينا، وانعكاس لظل في صورة إنسان حينا آخر، هو من يقوم بالسرد في قصة بسيمياء. وهو روح مرئية-غير مرئية توزع دراماتورجية جهنم في قصة العائدون. وفي قصة الفراغ، مثلها مثل قصة بنت العفريتة، الساردة تحركها كائنات غيبية-ثقافية: جنية في الأولى وامرأة لا تراها العين في الثانية "أم الصبيان أو أم الدويس". أما في قصة ثقب أسود في الذاكرة، فيصرخ أو يصرح من الاستهلال : "الصدق الصدق .. أقول لكم، لست ميتا"؛ جسده جثة بلاحراك وروحه تنطق الصدق ؛ من هو الحي ومن هو الميت؟ ثقب في الذاكرة وثقب قد انبثق من الرأس… وبينهما روح تطوف جسدها مسرحا لأشياء الحياة العادية جدا في عبثية فواجعها ووجها "المشرق من شمس كآبتها". وكذلك، في قصة صلاة إلى العام الجديد؛ حيث نازك تبعث الروح في شخصيات قصصها، فتصبح كائنات تتكلم معها وتحاورها؛ الساردة نازك، وهي بجوار نازك الشاعرة التي تطل عليها من أعماقها؛ لكن ما يربط بينهما طيف ملاك غير مسمى ومسكوت عنه بحذف اسم" ملائكة" من اسمها الأدبي (نازك الملائكة) واستعمال نازك فقط. وأخيرا، قصة الأصوات التي تجري أطوارها في منطقة بين بين، الصحو والنوم.
مما لا ريب فيه، نلحظ بأن عالم القاصة عبير عزاوي يتأرجح تبسيطا بين العالم اللامرئي أو عالم الأحياء الخفي، وصنوه العالم المرئي أو عالم الأحياء الظاهر. ويبدو أنه خيار ناتج عن وعي مسبق تحدد به فضاء شغلها على عالم القص في القصة القصيرة. فثمة، من جانب، كائنات ثقافية وأرواح وأطياف .. ومن الجانب الآخر، شخصيات قصصية على صورة إنسان. ففي كل قصةٍ، قصةُ علاقة تربط بينهما. وفي كل علاقة، قصةٌ لاتشبه باقي قصة العلاقات..
وغالبية القصص تحيا من وراء ستار الحرب..
فما الذي يميز سفر القاصة عبير عزاوي هذا وفي عالم ربما قد نقول إنه غير جديد ومكرر في القصة القصيرة؟ هل يدخل في ما يسمى بالكتابة الغرائبية أو الواقعية السحرية أم هو شيء آخر يقتضي معالجته بنظرة مغايرة؟
بعض خصائص عالم القص وبصمة القاصة:
-شخصيات عالمها اللامرئي عادية جدا، كما أشياء الحياة، لا تتوفر على أدوات سحرية ولا تخلق معجزات أو شيئا من قبيل العحائبية…وأحيانا، لا نتبين أنها من عالم آخر سوى من بعض كلمات منبثة في القصة يلزم فحصها مليا لفهم ذلك، مثل قصة العائدون.
-عالمها اللامرئي يطل على العالم المرئي، بل وأحيانا، يقوم بتدوير القول عندما لا يبقى أي شيء غير أجساد ميتة تنوب عنها أرواحها في تدوير القصة: طيف يسرد في قصة بسيمياء، وميت في قصة ثقب أسود في الذاكرة، يسرد مصرحا: "الصدق الصدق..لست ميتا؟" ربما لم تعد غير أرواح أو أطياف أرواح تبحث عن موطنها… في التاريخ أو الذاكرة أو الأحلام أو في أي شيء قابل لأن يعطيها قدرة الحياة في قول المسكوت عنه واللامفكر فيه.
- تشظي السارد-الساردة. وبعبارة أدق، موت مفهوم الراوي في خطاطته الواقعية الخاضع إلى تصور لسني أكثر منه إلى تصور أدبي من حيث هو خلق مبدع، فلا أهمية له في بعض النصوص في مفهومه الذي يوزع أوجهه بين عليم أو حيادي أو علمه مواز لعلم من يروي عنهم. وبصمة القاصة عبير عزاوي أنها تلجأ مرارا إلى نوع من البلبلة أو تقنية التشويش، الذي يعطي الانطباع بأن هناك اضطراب في الحكي يعتم معرفتنا للذي "يروي أو يسرد". ونزعم أن هذه التقنية، لا تمت إلى ما يسمى في مفهوميات الرواية الجديدة بالشخصيات أو"شخصية عديمة التناسق" بمعنى متنافرة، بل هي بصمة المبدعة عبير عزاوي في تجاوز لا تناسقية الشخصية وتدميرها لدرجة تصبح فيها متشظية في المتن الحكائي (الأصوات). كل شيء مظطرب، السرد مضطرب والسارد مضطرب، وهو اضطراب نراه تجريبية تقنية في الكتابة القصصية، وَليس إحالة عَلَى نوع ما من الاختلالات النفسية أو ما شابهها من مقولات عيادية، وخصوصا في تقاطع عالمي اللامرئي والمرئي في بعدهما الأنتروبولوجي.
بعض المثالب التي وقعت فيها القاصة :
-قصة بسيمياء: بقدر ما كان استعمال جملة "سقط النصيف"مربحا في استثمار فن اللغة في القصة، فإن تكرارها كثيرا نزع عنها بعض المرونة وبدا إطارها متحجرا .
-قلنا إن القاصة عبير عزاوي تجرب تقنية في الكتابة حيث كل شيء فيها مضطرب: السارد والسرد؛ وأن هذا الاظطراب فني وليس إحالة على "خلل عقلي" للشخصية، لكن في نهاية قصة "الأصوات" نجدها تكتب: "على طاولة الطبيب النفسي دفتر مفتوح كتب في أعلى الصفحة : المريض/نادر بلال. المهنة/كاتب. التشخيص/اضطراب هوية تفارقي".
إنها القصة الوحيدة- فيما نعتقد- التي نأتي في نهايتها بتصريح مباشر لا فائدة منه تماما، بل يضرها ويغلقها في رحى معنى موجه.
٦-من قبيل الخاتمة
نقول من قبيل، لأنه لا خاتمة لقصص تختبر إبداع فن القص بالكتابة وتحتاج إلى قراءات دقيقة جدا.. ولأننا كذلك أمام قاصة مبدعة تعيد للقصة هبتها ونبلها؛ إذ لاَ تهدف تجويع اللفظ بغية إشباع المعنى؛ إنها تمتحن إشباع اللفظ من أجل فائض قيمة للمعنى.
أ.د.بلعوام مصطفى
النص: قصة بسيمياء/
سقط النصيف حين مرّ طيف شاعرها وهمس ملتاعاً:
- "بسيمياء، لا تتركيني للظلال."
حلم بامتلاك جسدها الذي فتن لبّه، لكن روحها بقيت هائمة وراء الطيف، وهو يتتبع خليط العبير المبثوث على كل الجدران، فقد اعتادت بسيمياء أن تخلط الطيب والعنبر، وتأمرني أن أمرغ به عتبات القصر وجدرانه حين يمر الطيف؛ ليكون العطر كينونةً تهبه منحة الوجود ...
- حين سقط النصيف طار من قلبها خوف الوشاة، وأطلقت في فضاء الروح عشق الجمال، بعد أن تناهبت سيوف مليكك جسد شاعرها الوسيم، وجعلته أشلاء منثورة على الدروب. فصار طيفا أسيراً في قصرها يبحث عن خلاص.
فأنشد أنت ماشئت من القصيد ، وسأغني أنا ما شاء الغناء، فجسدها الملكي؛ ممهور بالسبي الأبدي لطيف لا يبرح ظله.
يا زياد ...
- حين سقط النصيف، أسقطك الهوى، غلبك حسنها، وطغت عليك هالة الوجد المهيب.
مليكك يتحرق لكلمات تبّرد لهيب قلبه المصلوب على خشبة حب مغدور، فماذا فعلت ماوية كما تسميها أنت، أو بسيمياء كما يحلو لملكك أن يدعوها، حين يضج به الشوق، ويفيض من جنبيه الشبق فيفحّ في أذنها معذباً باسمها القديم؟! تدير ظهرها لجموح رغبته وسطوة ملكه، بينما تصوغ كل صنوف غوايتها لشاعرها الشاب، تهيل عليه مطراً من فضة جسدها، خصرها موسيقى وخلخالها سرّ، ولسحرها خضع المفتون، فأوقدت عليه أتون الشغف.
أتظن الطيف يرى أو يحس؟!
هو حظك الملعون شاء أن تقع أسير فتنة عطرها، ونعومة أصابعها، حين التقطت طرف النصيف فعقدت فيه روحك حين عقدته وأصابت قلبك سهام اللحاظ.
فأي غواية حملتها لك ذرات الهواء التي تنبثق من طيبها
وأي جنون حملك لتكتب شعراً لم تسمع العرب مثله؟!
و أي شفق مدمّى بلون سماء الشوق يحملك لتطوف في حنايا قصرها ملتاعاً تلتقطك ظلال فتنتها؟!
وحين تصمت ألحاني وتستطيل حرقة صدري، فأصير انعكاس الظل في صورة إنسان لايملك إلا النحيب وبعض الغناء، تدعوني بصوتك المبحوح:
-" يا رؤبة إليّ ببعض ضوء من سراج يوقد في روحي الجمر حين أتمتم باسمها. نغّمي شعري وصوغيه لحناً نطق به مفتون مثلي. فطار في البلاد. "
أغني شعرك الممسوس بالعشق ، فيتماهى مع سحر صوتي الذي ماصدحت حنجرة بمثله.. فأي شغف يدفعني لأتتبع خطواتك على الدرب حين تسلكه على خطا عطرها. وأنا أتساءل:
من يلهث وراء من؟
تجيبني اللهفة، تحضرك موسوماً بذاك السحر المسبوك قصائد تنهلّ من صوتي، وتتحدر كسرب غزلان في صحراء رحلتك العطشى. أهيل على الكلمات وهجاً من تبر صوتي، غواية تكتنفها الأسماع، وتجعلها وشماً في الروح لايخطئ العطر والصوت واللحن الفريد. ويبرز السؤال من جديد
- أهو أنت؟!
- ومن أين لي ان أعرف أنه ظل شاعرها العاشق وليس أنت؟!
يهمس الطيف المأسور منتحباً:
- إليّ بصوت يكفن روحي وهي هائمة في شهقة من لحن أزلي السحر. أطلقي صوتك يا رؤبة، فظلي يحتضر، وروحي يحملها العبق إلى سر مطوي في جسد ماوية ، فأغنيه :
وهو يتمتم : أحرقني يا عشق ماوية ففيك تختزل كربتي.
أستذكر ساعة أسدلتُ الستارة، التي تفصل بين حجرتها الخلفية وبين بلاط الملك، ماوية منتشية بحضوره. ذاك الفتى، الشاعر واسع العينين، جهوري الصوت،عذب الألفاظ .
حين خرج من البلاط، وقف عند الممر المرصود. خرجت هي من غرفتها فتلاقيا وهبّ العبير...
سقط النصيف حينما مرّوا جميعاً، رفعت يدها تختبئ من عيون الناظرين، تتوارى وراءه خوفاً من اقتحام العيون لحرم الجمال الذي طوّبته باسم شاعرها المحبوب حين همس باسمها ، فبُهت، و على أعتاب سحرها طار صوابه وصوابك وصواب مليكك الأرقش، فمزق بسيف سلطانه جسد الفتى، وشرّدك أنت في البلاد.
-(كنت أظنها تقصدك يا زياد!)
هذا هو سريّ الملعون ...
في تلك الليلة حين كنت تستعد لهروبك الأخير، دخلت بسيمياء غرفتها وهمست لي:
- الملك سيكون ضيفي لهذه الليلة. قومي يارؤبة حضّريني.
قمتُ، غسلتُها بماء الورد ومشّطت فرعها بالزعفران، مسحت عن عينيها دموعها فهمست لي :
- لا أقوى على ذلك يارؤبة ....
لقد نزع روحي .
ضمختها بخليط المسك الذي يهيم النعمان بحبه...
ولا أدري أي يدٍ تلبست يدي فمزجته بسم زعاف.
أوقدت في المخدع شموعا معطرة بذاك السم، وجلست أنتظر مليكك وفاتنته لكي يتمرغا فيه .
لكن الملك ترك ماوية غارقة بالوجع، وخرج غاضباً من صدها الفجّ. وتلك نجاة.
" ستبقى أنت الشاهد يا زياد فاشحذ شعرك."
ولابأس أن اخترت الهرب إلى مجاهل الصحراء فتلك نجاة أيضاً.
أما العاشقان وحدهما من خانهما العطر.
وهاأنا وحدي على جمر دموعي أشرب كأسي المسموم حتى الثمالة.
عبير عزاوي
................
التسميات: دراسات
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية