قصة قصيرة بعنوان " خريف البطريرك " للأديب السوري / نبيل النجار
خريف البطريرك
قصة قصيرة
نبيل النجار / سوريا
![]() |
نبيل النجار |
حتى اللحظة لم يعتمد سيادة الجنرال إسما محدداً لمذكراته التي ينوي كتابتها.
مضى باتجاه الحمام، نشر معجون الحلاقة على وجهه.
للجنرال رأس ضخم مسطح كرف كتب، عينان قاسيتان وشارب كث تلون بالأصفر نتيجة ولعه اللامحدود بالتبغ وشق وراثي يقسم ذقنه الكبيرة إلى ذقنين مربعتين.
غسل وجهه بالماء البارد؛ مرر ظهر كفه ليتأكد من نعومة الحلاقة، وأنه لم يترك أي بقعة مهملة.
نفس الحركات يكررها منذ نصف قرن، يؤدي التحية العسكرية لوجهه الحليق ويمضي.
فتح الثلاجة؛ أضافت بخوائها برودة للجو، أغلقها بعنف لاعناً حظه، سمع صوت بوق سيارة صارخ فتح نافذة المطبخ ناظراً إلى الشارع القريب بقرفٍ وانزعاج: قلة ذوق تمتم وقد ضيق عينه اليمنى، نسي النافذة مفتوحة وعاد باتجاه غرفة النوم، ماراً بالصالة التي لم يعد يقطنها أحد إلا صور لعسكريين استوطن الغبار جل ملامحها.
أخرج من خزانته الضخمة بزته العسكرية الشتوية كانت محفوظة ضمن كيس بلاستيكي" طويل شفاف.
ـ يجب أن أكون في الجو ذاته حتى أستطيع الكتابة.
الجنرال حاول البدء بالكتابة ولكنه لم يجد البداية المناسبة لشرح ذلك المشوار الحياتي الطويل.
أخرج البزة نظر إليها باعجاب مازالت الرتب والأوسمة المزركشة معلقة في أماكنها؛ ولكن ماهذا؟ عيناه كادتا تحتلان قرص رأسه دهشة، وارتجف شاربه بحدة؛ ثمة ثقوب صغيرة في أرجاء السترة.
همست زوجته بسخرية واضحة: كان يجب أن تضع بعض كرات النفتالين في جيوبها حتى لا يأكلها العث.
ـ لعنة الله عليك وعلى العث،زمجر حانقاً.
"بالحقيقة زوجة الجنرال ماتت منذ أربع سنوات، بعد أن طردها لتعيش مع ابنتها وزوجها في ضاحية من ضواحي المدينة".
نفض البزة بضيقٍ ظاهر، كان مصمماً على إرتدائها؛ أقنع نفسه بأن الثقوب غير ظاهرة للعيان.
نظر إلى نفسه في المرآة؛ الثياب كانت تبدو فضفاضة كثيراً، كرشه اختفى ومؤخرته ضمرت، تمنى لو أنه أحتفظ ببزة تخرجه من الكلية الحربية بحث طويلاً عن القبعة فلم يجدها رفس الأثاث برجله ُمنزلاً لعناته على كل شيء.
لملم أوراقه في غلافٍ شفاف وضعه تحت إبطه كعصا الماريشالية التي كان يحملها يوماً.
دخل المقهى وطلب كوباً كبيراً من الشاي بعد أن اشترى كمية من فطائر الجبن والزعتر.
ما أن بدأ بالأكل حتى تفتقت قريحته، أخرج أوراقه وشرع في تدوين خواطره: ولدت وترعرعت في عائلة عسكرية فوالدي كان جنرالاً ، أخي الأكبر استشهد خلال جولة تدريبية على طائرة السوخوي لذلك كان علي أن أستمر بهذا الإرث العائلي المحترم.
تطوعت في الجيش وكانت حياتي مغامرة على الجبهات التي شهدت حروب هذا الوطن المعطاء ضد العدو الإسرائيلي الغاشم.
"الحقيقة أن شقيق الجنرال توفي في موسكو ولكن ليس في تدريب على الطائرة وإنما لأنه نام على الثلوج خارج حانة حتى تحول إلى تمثالٍ جليدي متصلب؛ والواقع أن جنرالنا لم يشهد أي معركة ولاعرف جبهة من جبهات القتال طوال خدمته العسكرية إلا على الخرائط، فقد تدبر له والده الجنرال موقعاً آمناً في مؤسسة شؤون الشهداء في عمل مكتبي أخطر مافيه جروح الورق"
*النهاية الثانية:
ضيق الجنرال عينه اليمنى؛ شطب ماكتب سابقاً بنزق؛ تمتم بحنق: تفاهة، هذه المقدمة تافهة كأنها مقدمة موضوع تعبير لطالب ابتدائي، علي أن أفكر بشيء آخر أكثر إثارة.
سحب الورقة؛ جعدها؛ مسح بها بواقي الزيت وذرات الزعتر المحيطة بفمه؛ أخرج لفافة تبغ واستغرق لحظات في التفكير.
أشعر بأنني مستهدف، هناك من يراقبني ـ كتب ـ
بلاريب بعض أجهزة الإستخبارات العالمية تريد خطفي للحصول على المعلومات السرية التي أعرفها.
تهلل وجهه؛ فهاهي بداية مثيرة بدأت تظهر، نظر إلى وجوه الزبائن بفخر، قابلته ابتسامات ساخرة
سعيدة بهذا المخبول الذي يؤدي دور كاتب غاضب يمزق الصفحات ويمسح بها؛ حتى نادل المقهى نظر له بنفس السخرية اللعينة.
لملم أوراقه خرج مسرعاً، لاعناً في سره أولئك الجهلة الذين لو قدر لهم الوقوع بين يديه أيام عزه وسطوته لألقى بهم في المعتقلات.
ماأن دخل البيت حتى أحس بحركة غريبة، توجس شراً فليس لبيت الجنرال من زوار! كانت الحركة تأتي من المطبخ؛ تسلح ببعض شجاعة وتمثال جصي كان قريباً، توجه بخطوات حذرة وقد ضيق عينه اليمنى كالعادة؛ فإذا بقط أسود صغير يجوس في صندوق قمامته باحثاً بلاجدوى عما يسد رمقه.
تسمر القط في مكانه، نظر باتجاه الشباك المفتوح إلا أن الجنرال كان أسرع في الوصول إليه وإغلاقه؛ تراجع القط ببطء وهو يفتش عن مخرج.
ضيق القط عيناه؛ اقترب من الجنرال لما لم يجد من الإقتراب بد؛ ماء بصوت خفيض فيه أمل ورجاء
خلع الجنرال سترته العسكرية ألقاها للقط على الأرض؛ حمله؛ أجلسه عليها.
ـ ستعيش معي، مارأيك؟.
ـ مياو.
ـ ممتاز، ولكن يجب أن تعلم أن للبيت قواعد وأنظمة يجب اتباعها.
أقعى القط على مؤخرته استعداداً لسماع كلام محدثه، مضى الجنرال يشرح ويستفيض فيما القط مشغول بلحس جلده وتنظيفه، لحس قائمته وبدأ بغسل وجهه بها.
أنهى الجنرال حديثه: اتفقنا؟
ـ مياو.
أدى الجنرال تحية عسكرية وكذلك فعل القط.
نبيل النجار / سوريا
التسميات: قصة قصيرة
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية