الجمعة، 6 مارس 2020

قراءة في رواية " ليلة هروب الفراشات " للأديب العراقي عبد الكريم الساعدي

الساعدي ورواية " ليلة هروب الفراشات "


عبد الصاحب محمد
عبد الصاحب محمد البطيحي

___________________

اكتسب القاص والروائي عبد الكريم الساعدي سمعته المتميزة عن طريق اسلوبه الفريد في القص االقصير حيث التكثيف والتصوير واعتماد الجملة القصيرة ،وربما يذهب الأمر الى عدم ملاءمة هذا النوع من الأسلوب في العمل الروائي لما تتطلبه الرواية من فضاء واسع . غير أن الساعدي كسر الطوق وتجاوز قليلاً اسلوب السرد المكثف الذي اعتاد عليه ، حيث اعتمد في رواية " ليلة هروب الفراشات " ، وهي مدونة تاريخية جمالية ، الأسلوب الروائي طويل النفس واشبع الروي بتفاصيل مهمة في مجال رسم المكان وحركة الشخصيات .وتصوير بيئة الأحداث ، كل هذا بتفاعل مع طاقة خيال متمكنة .
انطلق القاص الى عالم الرواية هذه مبحراً في عالم تمددَ من عالم القصة القصيرة التي سبق وأن كتبها تحت عنوان " ابنة كوجو " (و التي سبق وأن كتبت عنها ، وكذلك ترجمتها الى اللغة الانكليزية ) حيث وردت مقاطع بعينها في كلا الموضعين مما جعل من هذا عاملاً فاعلاً مؤكِداً مصداقية السرد . لنقرأ المقطع المشترك التالي :
- أبي ما الذي يحزنك؟
- كابوس أقض مضجعي ، رأيت أسراباً من الجراد غزت حقول كوجو حتى غدت أرضاً جرداء تنز دماً عبيطاً .
عبد الكريم الساعدي
ولعمري يغلف هذا الكابوس مساحة القص بغلالة كالحة وعوالم مظلمة منذ النشوء حتى المنتهى . لنقرأ أيضاً:
انت الآن حرة ،لأنك انتزعت أثواب الخوف وتعلقت بالعالم اللامرئي .
لنقرأ أيضا الفقرة التي انتهت بها القصة القصيرة والتي وردت في الصفحة (286 ) من الرواية :
يلتهم جسدي لغم أرضي عند حافة التل ، أتطاير كحبات المطر امام رفيقتي، أتشكل زهرة بيضاء في حقل كوجو لأوصد بدمي آخر أبواب الخراب، وأوقد قنديل أمي .
برع الكاتب في اختيار العنوان . فهو فضاءٌ للزمن الروائي وحركة الفعل ، وكذلك الفواعل التي تتمثل بالنسوة اللواتي اضفى عليهن الكاتب سمات الفراشات بما يمتلكن من رقة وجمال ورشاقة وشفافية ، وبهذا خلق عالماً يحتشد بصور التضاد : صورة النور بمواجهة الظلام ، صورة الطهارة بمواجهة بؤس النفوس ، صورة الوداعة مقابل القهر والتعسف والوحشية ، صورة الرفض بمواجهة الانكسار والخذلان ... صور اخرجتها الى الوجود كينونة لغة تتألف من ثلاث كلمات فقط .
في المتن ، يواجه المتلقي موقف الرفض امام الخطر الداهم ، متمثلاً بحالات الهروب من كوجو التي يواجهها غزو العتاة : هروب عدد من الرجال والنساء والأطفال ولحاق الغزاة بهم وقتل رجالهم وتحويل نسائهم الى سبايا . تروي كاترين ، الراوية والشاهدة والشهيدة :
"بعد المجزرة قسمونا الى مجموعتين حسب العمر ، كانت أمي ومعلمتي أمل في مجموعة . وأنا في مجموعة اخرى ، نقلونا الى جهات مجهولة ، ساروا بنا فرحين بغنائمهم ، تاركين خلفهم قرية مذبوحة، رفات تحرسها الغربان، وحرائق لا تنطفئ أبداً ، ترافقنا طقوس المآتم ، ذليلات ، مُثقلات بالذبول ."
تمثل هذه أول المأساة ، تعقبها ردة فعل موازية تنكشف عند هروب اربعة من السبايا ،(هنَّ : كاترين ، جميلة ، ميساء ، وأفراح ) بعد أن تجرعن سطوة سلطة تتلذذ بالجبروت . في رحلة الهروب هذه تشاركهن كوابيس الوهم والريبة والخوف " الضوء يقترب ...ينسكب على وجه جميلة ، ترفع كفها امام عينيها ، تتناهى لسمعنا اصوات مبحوحة تأتي من خلف الضوء : إطفئ المصباح ، إنه الجن ..."
لم يكن هناك جن انما كانوا مجموعة من المسلحين يحيطون بهن لم يعرفن كيف وصلوا.
في العودة " نسلك ذات الطريق مكبّلات بالصمت .. لم نرَ حولنا غير غابة من الظلام واشباحاً مخيفة ..كان الموت دليلاً يهرول امامنا الى عالم الأمير .. رأيناه بانتظارنا ذئباً .. ابتسم
- أين الرابعة ؟
- ماتت ."
بعد حين ،عمل بعض الأهالي الطيبين على انقاذ الأسيرات بدفع مبلغ من المال لكل واحدة يعرفونها من أجل تهريبها، وعلى هذا انتقلت كاترين عبر رحلة مهينة الى العيش مع عائلة دفعت مبلغا من المال لإنقاذها بعد امتهان كرامتها حين عرضها للبيع في سوق النخاسة. آخر محاولة للهروب انتهت بموت كاترين اثر انفجار لغم .
يلاحظ القارئ غلبة العنصر النسائي في مجمل الروي . تناول الكاتب حالة البؤس وانهيال الرزايا على المجتمع من خلال مشاهد الضيم . . مشاهد الزواج القسري والاستباحة واهتزاز الركائز النفسية عند السبايا . لم يحاول الكاتب اللعب على الاثارة الجنسية، على العكس ، كان يثير مشاعر الاشمئزاز والسخط ويشير الى عمق المتاهة التي يخلقها الانحلال الخلقي .
مثلما كشفت الرواية عن جانب النفس البشرية المظلم من خلال سلوك الغزاة فانها اكدت على جانبها المضيء متمثلاً بمشاعر الأمل في حياة سعيدة ،وبرفضٍ حاسمٍ للواقع المهين وإصرارٍ على كسر قيوده ، أحد رموز ذلك تعلّق كاترين بأمل عودة خطيبها ،وكذلك طيف الحكيم ومحاولات الهروب .
عبد الصاحب محمد

التسميات:

1 تعليقات:

في 8 مارس 2020 في 10:38 ص , Blogger Unknown يقول...

امتناني وتقديري لأسرة تحرير مدونة واحة القصة القصيرة لجميل جهدها

 

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية