ربيع بلا أزهار .. أيهاب بديوي
ربيع بلا أزهار
قصة قصيرة
إيهاب بديوي
مصر
خرج دون أن يشتري شيئا، غائب عن الوعي يجر أحلامه، ترتعد أطرافه وتتجمد ملامحه، وصل إلى منزله منهارا، جلس على المكتب الخشبي العتيق وتأمل في لوحة جدارية رسمها في مرحلة ما من حياته، يعتز بها كأنها أحد أبنائه الأربعة، هي خامستهم في الحقيقة، ثلاثون عاما تزيد قليلا حين رسمها قبل أن يلتحق بالجامعة، أخذ نفسا عميقا ودار عدة مرات بالمقعد المتحرك، لم يلبث أن طلب من الخادمة أن تعد له قهوة سوداء، أدركت أنه حزين، طلبت أن تحدثه، طلب منها أن تجلس أمامه..
- ماالذي حدث يا سيد آدم، تبدو حزينا.
- لا شيء جديد يا وردة، ضغط في العمل.
- خمسة أعوام في منزلكم سيدي، أعرفك جيدا.
- سأضطر إلى الاستغناء عنك يا سيدتي، سأبيع السيارة، سأخرج الأولاد من المدارس الراقية، وربما أبيع هذا المنزل، تبدلت الأحوال قليلا.
ألجمت الصدمة وردة عن الرد، فقد كانت سعيدة بالعلاوة التي تلقتها منذ شهرين ورتبت حياتها عليها.
نظر لها قليلا ثم التفت إلى النافذة المفتوحة أمامه وأكمل حديثه:
- العالم يسير من سيء إلى أسوأ، خيروني بين التقاعد أووظيفة حقيرة، كانت صدمتي كبيرة لدرجة أنني لم أستطع الحديث، كان يجب أن أثور عليهم، لا لا، كان يجب أن أثور منذ وقت طويل، أنا الذي أهدرت حقي وتركت لهم الفرصة ليتحكموا في مصيري، والكلب الذي أدخلته مكتبي وأطعمته معي، عقرني بعنف، تخيلي أنه كان يعرف من بداية العام، بل وعرف من سيتولى منصبي ولم يحذرني، الخونة يحكمون العالم.
تعلمين يا وردة أني أحبك وكنت أتمنى أن تبقي معنا، لكن الغلاء الفاحش الذي نعيشه لن أستطيع مواجهته بمعاشي المتواضع، ومكافأة نهاية الخدمة لن تكفي شيئا، ولا أعتقد أنني سأجد عملا مناسبا، ربما أرضخ في النهاية وأتفرغ لممارسة هواياتي، الأولاد سيتأقلمون على الوضع الجديد، أعتقد، ماذا أستطيع أن أفعل، أرجو أن تسامحيني، بالتأكيد من يملك مهاراتك سيجد عملا سريعا، المشكلة كبيرة جدا، لكن أعتقد أني سأحلها، لابد أن نضحي جميعا، لا تقلقي، سأعطيك راتب شهرين إضافيين حتى يمكنك إيجاد عمل جديد، هل أنت راضية الآن يا...
التفت فلم يجدها، كانت القهوة على مكتبه قد بردت منذ وقت طويل.
إيهاب بديوي
التسميات: قصة قصيرة
1 تعليقات:
مالذي يدفع الكاتب للكتابة؟. هل هي الحكاية؟. هل تتمحور القصة حول تفاصيل ماجرى لآدم منذ استيقظ ذلك الصباح، حتى عاد إلى بيته مهزوماً محبطاً؟. لو كان ذلك لبدا النص رصداً تقليدياً ليوم عادي في حياة موظف . لكن الهاجس الذي اصطنع النموذج القصصي، وحرك الأحداث، هو ما يجعل للنص عمقاً يتجاوز تفاصيل السطح.
وفي ظنى أن السيد آدم لا يمثل نفسه فى النص. بل يمثل طبقته
تأمل تاريخ الشخصية. هو يبدو كرجل عصامي وصل إلى مركز وظيفي مرموق كتتويج لاجتهاده في سبيل تحقيق طموحه. ونال دخلا مكنه من استخدام خادمة يبدو رقيها كانعكاس لمستوى الأسرة التى تخدمها. كما مكنه من إلحاق أولاده بمدارس راقية. تلك هي سمات الطبقة الوسطي التي تشكل العمود الفقري للمجتمعات.
وما حاق بالسيد أدم في ذلك الصباح يشبه رمزياً تلك الصدمة المروعة التي أسقطته أرضاً وبعثرته على أرض الشارع. فهو لذهوله لم ينتبه لواجهة العرض الزجاجية. وماشعر به من مهانة وارتباك، يشبهان ذات الشعور الذي انتابه وهم يخيرونه بين وظيفة حقيرة، وبين الاستقالة. وفي الحالين لم يكن يملك إلا لملمة نفسه والتمسك بصمود ظاهري.
ولو كان السيد آدم أكثر انتباهاً لاستطاع أن يميز الحائط الزجاجي الشفاف. لكن الصراع الوظيفي في عالم غلبت عليه المادة, والمصالح، والتربيطات، لن يتطلب مجرد الانتباه، بل الكثير من اللؤم.
وإذا كانت أزمة السيد آدم قد تبلورت في ذهنه في اتجاه " الكلب " الذي تبناه واحتضنه فخانه، فالكاتب يدعوك من طرف خفي إلى أن تنظر لأبعد من ذلك.
فالرجل ببساطة كان آمناً مستقراً حتى صباح ذلك اليوم الذي لم يختلف في ظنه عن أي يوم آخر. لكن ذات اليوم كان يدخر زلزالا. وكما يضرب الزلزال ضربته بغتة دون أي إشارات مسبقة، انطرح السيد آدم مبعثراً، هدفاً لنظرات السخرية.
والواقع أن أزمة آدم ليست محور القص. ولكنه ذلك الحاجز الزجاجي الذي يغريك بالاستهلاك. فهو يكشف لك عالماً مسحوراً من منتجات العصر. لكنه في لحظة غفلة تنتابك سيعصف بك وبأمنك الزائف.
وبالتالي فالشخصية الرئيسية في القصة ليست الرجل الذي فقد وظيفته. وإنما الطبقة التي يمثلها، والتى عرفها علم الاجتماع باسم " الطبقة الوسطي" . والتى يعني انهيارها وتآكلها فقد المجتمع للاتزان، وللبوصلة التي تحركه وتوجهه. فالمعروف أن الطبقة البرجوازية لا تهتم إلا بمصالحها واستثماراتها. بينما الطبقة الدنيا مهمومة بتأمين احتياجاتها .
وترجع قيمة القصة في أنها تمثل هماً مشتركاً بين طائفة ليست قليلة من البشر – أغلبهم من الطبقة المتوسطة - لم تعد آمنة على غدها لأسباب متعددة. كما أن كثير من المجتمعات، حتى الأكثر ثراء خارج دائرة الجنوب الأكثر فقراً, باتت مهددة هب الأخرى بتفكك الطبقة الوسيطة. فغول الاستهلاك شمل كافة المجتمعات. وكلها يتربص بها ذلك الحائط الزجاجي الشفاف لكي يبدد أمنها ، ويجعل ربيعها بلا أزهار، مالم تفق من الغفلة.
تحياتي لصديقي المبدع إيهاب بديوي.
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية