السبت، 5 نوفمبر 2016

مكامن ... كوامن .. عبد الصاحب محمد .. العراق

قراءة في القصة القصيرة


مكامن ... كوامن


 عبد الصاحب محمد

العراق



عبد الصاحب محمد



المدخل إلى عالم القصة هو الإحاطة بالآليات التي تتعامل بها النفس الإنسانية مع المحبطات. والأحداث ذات التأثير السلبي التى تعترضها, والتى غالباً ماتحدث في فترة الطفولة قبل اكتساب الخبرة, ونمو الوعي.
والكبت واحدة من تلك الآليات غير الشعورية, تستبعد الأنا بموجبها المثيرات السلبية من مستوى الوعي إلى مستوى اللاوعي , وتمنعها من الظهور حماية للنفس مما يؤلمها ويحقرها.
والعنوان ( مكامن ... كوامن ) يؤهل المتلقي لاستقبال التجربة القصصية في هذا الإطار النفسي التحليلي.

المكامن صيغة الجمع من الاسم "مَكْمَن". وهو موضعُ يُخْتَفى فيه ولا يُفْطَن له.
والكوامن هي صيغة الجمع من الاسم "كامِن". وهو ما ينطوي عليه الشىء بصفة دائمة.

يشير الشق الأول من العنوان إلى اللاوعي لدي الإنسان حيث تطمر الذكريات المؤلمة وأشباهها من المحبطات التي يشير إليها الشق الثاني منه. وتظل ثاوية لا يمكن استعادتها في الظروف الطبيعية, ولا يمكن اكتشاف تأثيرها على سلوك الشخص إلا بمعرفة متخصص. 
والكاتب يضع الراوي في هيئة أقرب إلى جلسات العلاج بالتحليل النفسي, فالمكان الضيق, والباب الموصد, والكرسي الهزاز . وتكاد تلحظ في هيئة الجلوس تناقضاً بين الجلوس على كرسي هزاز, وبين الاتكاء على منضدة الكتابة. بما يوحي بوجود شخصين ماديين. في ذات الوقت الذي يصر الراوي على كسر الإيهام بهذا الوجود المادي في عبارات تتخلل السرد :
" يقلّبُ خيالُه الصفحاتَ بشغفٍ وتأملٍ " .
" أجيبه على عجلٍ كما لو انه حاضر " 
" أخاله يسألني : ما هذه ؟ " 
بدوت كما لو أنني أقولُ " 
فيما كنت أتصوره يرفع رأسه إلى الأعلى " 
وليست مصادفة أن يكون الراوي أستاذاً متخصصاً في علم النفس, بل يوحي هذا المسار التخصصي يمدى قوة تأثير " الكوامن " في توجيه سلوك الشخص. فالحادث البسيط الذى نتجت عنه عواقب وخيمة أعاقت نمو الأخ التوأم, أو الأصغر, هي التى دفعت الراوي إلى اتخاذ ذلك المسار المهني, أو هذا ما يود الكاتب أن يوقعه في روع القارىء. 
وعلينا أن نتوقف برهة لتأمل ذلك الحادث الذي ترتبت عليه رغم بساطته أحداث القصة: 
يعتقد الراوي أن ما أقدم عليه في " تلك الليلة " مدفوعاً بالغيرة من تفوق شقيقه هو ما تسبب في نوبة الرعب التي أصابته. والتي يستنتج من السرد أنها خلفت لديه حالة نفسية أو عصبية رافقت نموه, وأثرت على مسيرة حياته بالسلب. 
والمشهد الذي يقرن فيه الراوي/ الطفل بين شقيقه وبين الحشرة دال بشدة على الدافع لإيذاء الأخ . فتفوق أخيه واستئثاره بالإعجاب يخزه كما تخز الحشرة مصاصةالدماء. 
ينتهز الروي/ الطفل الظلمة والسكون, ويتسلل الى حيث يرقد أخوه, تتردد في ذهنه مقولته عن نفسه من أنه المقداد, البطل المغوار الذي هزم المياسة, ويجذب خصلةمن شعره قاصداً محو صورة البطل بزرع الخوف في نفسه. 
لكن الحدث البسيط يترتب عليه مالم يكن في الحسبان . والراوي يتجنب ذكر التفاصيل المؤلمة صراحة. فلا يزال العبء النفسي ثقيلا أكثر مما يمكن مواجهته. لكن الساق يكشف الحقيقية المضمرة.
" لم يعد لأبي سوى التأمل في الحالةِ " 
كما يراود الأم شك في أن للأخ دور فيما أصاب شقيقه, وإن لم تفصح.
" لكني أبكي من أجله حزناً " 
" ينحسرُ المنتصرون في بؤرةِ وهميةٍ" .. والمنتصرون في النص إشارة إلى الجوقة التى راحت تهلل له انتصاره في الانتقام من أخيه. 
وأخيراً تلك الجملة التى ينطق بها الراوي إذ كلل البياض شعره : " بيد أنني لمّا أزل ذلك الملتاعُ " 
مرهقة هي تلك اللحظات التي تطل فيها الكوامن من مكامنها فتمسك بخناقنا, لكن اللحظة القصصية تطرح نموذجاً إنسانياً في لحظة مواجهة يسعى فيها إلى التطهر. 
استخدم الكاتب اسلوب الانتقال في الزمن, في مراوحة مابين الحاضر, وبين الليلة 
المحورية. وبرع في توظيف تلك التقنية في يسط العَرَض, ثم كشف أسراره, وهو مامنح القص مسحة من الإثارة والتشويق, وتجنب رتابة السرد الحكائي طبقاً لتسلسل الأحداث.
وبرع في التدرج بالحالة النفسية للراوي, حيث نلمس الحيادية, والقدرة على ضبط النفس لدى بدء الدخول في التجربة القصصية, ثم يتدرج النص في أيراد ما يطرأ على الشخصية من تحولات بالتوازي مع مراحل كشف تفاصيل التجربة .
كما نلمس التدج في استقبال صورة الأخ المستدعاة من مكمنها طبقاً لمراحل الدخول في التجربة.
" ويضيف ضيفي الذي هو في مكمني " 
" وفي الطرف الآخر ينام صاحبي " 
" يخزني أخي كما تخزُ تلك الحشرة " 
قصة قصيرة تصحبك في جولة داخل تعقيدات النفس الإنسانية, بقلم رشيق فاهم لحدود التجربة. 

محسن الطوخي



نص القصة


كوامن ... مكامن



أجلسُ على كرسي هزّازٍ وشعرُ رأسي أبيض بلونِ البراءةِ، أتكيء على منضدة الكتابة، تطوفُ صورتُه خلايا الذهنِ ـ تطفو على السطحِ وها هو يواجهني مسترخياً على كرسيه ذي الأرجلِ والأذرعِ العاليةِ، كنا قد افترقنا لأعوامٍ وأعوامٍ، اختلفت بنا المشاربُ، وها أنا أراه أخيراً شبحاً ماثلاً أمامي، نأنسُ لمجلسنا: استراحةٌ، ابتسامةٌ ،حديثٌ طريٌ طراوةَ ذهنِ طفلٍ، تتراقصُ العينُ تسبرُ غورَ المكانِ الضيقِ ذي البابِ الموصدة خشيةَ أطفالي المترصدين بخبث. الحديثُ مُستطابٌ وفي الغرفة مكتبةٌ تضمُّ كتباً منوعةً  وضعتُ أمامه سبعةَ كتبٍ تدورُ حولَ علمِ النفسِ، كتبتها بأزمان متباعدة . يقلّبُ خيالُه الصفحاتَ بشغفٍ وتأملٍ، يحدّقُ بوجهي بعد أن ترتسمَ على محياه ابتسامةٌ ثريّةٌ بالمعاني، أحدّقُ بوجهه ، ثم أنسحبُ مسرعاً صوب دواخلي وهي تعجُّ بأسئلةٍ متداخلةٍ 
أخاله يسألني: ما هذه ؟
وبهمسٍ أجيبه على عجلٍ كما لو انه حاضرٌ : 
حصيلةُ العمر.
يخاطبني وهو يتصفح الكتابَ الأول انه بالأمس حيّاهُ شخصٌ بحرارةٍ أول الأمر، سأله ذلك الشخصُ في حينه: أتتذكر ذلك اليوم الذي كنا نجلس فيه في مقهى المعالي وأشرت إلى ما كنتَ تكتبُ. .؟
ويضيف ضيفي الذي هو في مكمني :أنا لم أجلس يوما بمقهى بهذا الاسم، ولم اكتب ما كان يتحدث عنه. كان يشير إليك، هذا مؤكد، إذ سرعان ما ودّعني بريبةٍ والدهشة ترتسم على ملامحه.
أعتدلُ في جلستي بكل جديةٍ، بدوت كما لو أنني أقولُ:
وأنا قبل ذلك التقيتُ برجلٍ تحدّثَ بحرارةٍ عن أمورٍ كثيرةٍ لا تخصني، سألني في حينه :
أتتذكر يوم كنا نجلس في مقهى الأماني. .؟ كان يشير إليك إذ خاطبني باسمك .
*
كانت ثمة فترة صمتٍ فيما كنت أتصوره يرفع رأسه إلى الأعلى، يطيل ُ النظرَ في صورة امرأة مؤطرةٍ تركن في نقطة التقاء جدارين من الغرفة، ينظر نحوي ثم نحوها يشير إليها,. يقول:
صورة أمي 
وأرددٌ قوله : 
-
انها صورة أمي. صورة أمنا تبتسم ، لما تزل ابتسامتها طرية ، تطلُّ علينا بنظرةٍ حانيةٍ كما لو كنا نعيش تلك الليلة . . . أعود بذهني إلى تلك الليلة 
*
قبل أعوام وأعوام, ليلة يختفي فيها القمر، تغيب النجوم المضيئة، ليس منها سوى ومضات باهتة في الأفق الأعلى. الظلامُ طارقٌ ثقيلٌ، وأنا أنام في باحةِ المنزلِ وفي الطرف الآخر ينام صاحبي، أبوانا في الوسط. في منتصف الليل، أو هكذا أتخيل، يخزني شيءٌ كما الإبرة، أنكمشُ، ألعنُ، إنها حشرةٌ جائعةٌ، الآن شيءٌ من دمي في معدتها دون شكٍ، يخزني أخي كما تخزُ تلك الحشرة، ألعنه، أحبه، لا أطيقه فهو يفوقني في سرعةِ حفظِ سبعةِ أبياتٍ من الشعر المقفى. يقول عنه أقراننا بأنه مُقدّمٌ علينا بالقراءة وبحفظ ما يقرأ، وعن نفسه يقول انه المقداد *.
*
ها أنا أردد :
حسنٌ أيها المقداد !""
بيد أنني لمّا أزل ذلك الملتاعُ !
على الرغم من أنني كنت قد حسبت ان الذكرى قد انحدرت نحو غورِ النسيان.
*.
أعود إلى صورته، أحدّقُ في وجهه، يحدّقُ في وجهي، أقوم ،أتحرك صوب المكتبة، أعيد تلك الكتب التي كنت قد وضعتها على المنضدة. أرفع رأسي، أتطلع إلى صورة أمه ، إلى صورة أمي، هي تبتسمُ راضيةً وهو يخاطبني معبّراً عن رأيه فيما يخص كتبي :
حصيلةٌ رائعةٌ .
*
عاد إلى تلك الليلة، إلى ظلامها البهيم حين وخزتني تلك الحشرة.
لعنتُ أخي الصغير وتساءلتً هل هو حقا ذلك المقداد، لأنهض وأنجز الأمرَ.
لكنني تريثتُ، جلستُ أحدقُ في العتمة. انكشف ضوءٌ يمتد في الأفق، رأيت المقداد يصارع المياسة، مرة بالسيف، مرة أخرى بالرمح، صدى صهيل الخيل يجوب خلايا الذهن، استعطفتُ المياسة أن تمنحني السيف أو الرمح أو كليهما، لكنها قالت :
إني اخاتله من أجل أن أصرعه ، 
إذن لأنهض وأعابثه .
تحركتُ، احدودبتُ صوبه ، تقرفصتُ قربه، وجهُ ملاكٍ، لكنه كان قد أنجز عمله أسرع مما عملته. انهمرت مياهٌ ساخنةٌ من ينبوعٍ يفورُ من جوفِ جبلٍ أجرد احترقت أصابعي، مددتها بين خصلات شعره، شددت على خصلة منها، اختلج جسده، أرخيت الشدَّ، سحبت يدي، تململَ ثم عادَ إلى نومه.
أسمعُ ظلي يهمسُ :
إفعلها ، إفعلها مرةً أخرى .
كن نقيضه على نحوٍ رائعٍ . .
أفعلُ .
أزرعُ الخوفَ في قلبه، 
ها هو ينكمشُ ،
فتصمتُ الحركةُ ويهمدُ الجسدُ.
*
أعودُ إلى مكمني وأنا غاية في السعادة، أحاول أن أستعيدَ كوامن ما حفظته من الشعر المقفى الذي نسيته. بعد هنيهة ، يمزّق الصمتَ عويلٌ مفاجئ لصغير سرعان ما تحتضنه أمه، تطمئنه وتبتسمُ لكنه يظل يهمهم : 
"
جاء من الظلام، من خلف تلك الشجيرة ،من عالم الجان، أولُ ما فكرت به هو أنك أنتِ يا أمي الذي شدَّ شعري. . لكن لم تكن تلك طريقتك بالشدِّ، أناملك تعبثُ بشعري برفقٍ ، تقربيني إليك وأغفو على أنفاسك . " 
وفيما هو يولولُ أحدّقُ في السماءِ العاليةِ وفي نجومِها الخافتةِ. أنا الآن مرتاحٌ، تغمرُ صدري مياهٌ باردةٌ، أستكينُ على الوسادةِ بثقةٍ طفوليةٍ مطلقةٍ ، أسمعُ كلَّ المنتصرين يضحكون في آنٍ واحدٍ، أرى أشباحَهم تتقدمُ نحوي، راياتُهم تخفقُ ـ يتصايحون بانتشاءٍ :
ها هو البطلُ .
تقتربُ الجموعُ المستبشرةُ، تحكمُ الطوقَ :
أنت البطلُ . ""
أقتنعُ ،أرددُ مع نفسي تعويذتي :
"
نعم ، أنا البطلُ، لِمَ لا أكون كذلك وأنا لمّا أزل أسمعُ نشيجَه الذي يؤلمني ثم فحيحَ صوتِه المتخاذلِ وأنينَه ! "
لكنني أبكي من أجلِه حزناً 
رباه، مَن أنا ؟ 
آه , لو لم أكن في ذلك المكمنِ ! لو أنتُزِعَ مني ذلك الكامنُ ! لو كان أبي مستيقظاً ! 
ينحسرُ المنتصرون في بؤرةِ وهميةٍ . . يخفتُ الصخبُ . 
*
يضحكُ صوتي ضحكةً مكتومةً غير مألوفةٍ ، أقولُ :
المقداد لا يخشى الظلامَ وحتى عالم الجان ! ""
يضحكُ الصوتُ . . . يضحكُ . . . يضحكُ
لم يعد لأبي سوى التأمل في الحالةِ ! 
لم يعد لدى أمي الآن أيُّ شكٍ بأنني أخفيتُ سعارَ لعبتي بإتقان
تبتسمُ ابتسامةً مريرةً ( ليس مثل ما هي الآن في الصورةِ ) ،تنظرُ إلينا بحنانٍ
تضمه إلى صدرهِا .
وظلي يسألُ: وماذا بعد؟ 
في صباح اليوم التالي تتشابكُ يدانا ونسيرُ، معاً، إلى المدرسة.
----------------------------------------------------------------------
"
المياسة والمقداد " حكاية عربية قديمة . ، أقسمت المياسة أن لا يتزوجها إلا من يهزمها في المنازلةوساحة الحرب ، فلم يتمكن أحد من الانتصار عليها إلا ابن عمها المقداد بن الأسود الكندي .


التسميات:

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية