عشر قصص قصيرة جداً .. محمد البنا
مختارات قصصية
محمد البنا
مصر
مرايا صدئة
إختتـــــمت حديثها عبر الهاتف قائــلة
-- فى إنتظارك أنا وزوجى فى الكافييه المواجه لمكان عملك.
بادرهــا مُتسائلا
-- كيف سأعرفكمــا ؟

ضحكــت
-- لا تقلق ستعرفنا لحظة أن تـــــرانا
أنهى عمله, دخل المقهى, أدهشه التشابه الكبير بين ملامحه وملامح زوجها , حياهما وجلس, إستهلت حديثها قائلة
--أخيراً عثرنا عليك بعد بحثٍ مُضنٍ, دام لخمس ســنوات .
علت ملامحه دهشة ,تساءل
-- ولمَ ياسيدتى ؟
إستطردت قائلة
-- زوجى عقيم وأنا أعشقه, ونرغبُ فى إنجاب طفلاً يُشبهنا.
لم يُفاجئه عرضها السخى, ضحك حتى بدت نواجذه, ثم دنا منهما هامساً
-- ولكن طفلى الوحيد ..لا يشبهنى .
فبراير 2013
رائحة العشب

عَقَدَ جلبـــــــــابه ضاماً إياه إلى خصره النحيل. انحنى على حافة القناة مُحدثاً فجوةً فى الجسر الممتد بطولها .اندفع الماء مُتلهفاً لإرواء الأرض العطشىَ, جلس على حافته , أمسك عصاة صغيرة غامساً طرفها فى المياه المتدفقة. هكذا كان يرى أبيه يفعل. ألف عامٍ مضت ولا شئ تغير. رائحة العشب, نقيق الضفادع, سريان الماء, خُضرة الأرض وزرقة السماءو وأشباحٌ تسير فى ظُلمة الليل القادم, صوب أشباحٍ مُنتصبة حيث ينتهى البصر. لا يدرى كم من الوقت مضى, طرق صوتها أبواب أُذنيه: كفى ماءً, لقد إرتويت. ردم الفجوة. انتصب واقفاً. فك عُقدة الجلباب. أخذته خُطاه المتسارعة, مُتخطياً بضع قنوات ... ليلتحق بطابور الأشباح.
يناير
2013
حذاء
توقفت مُنبهرًا أمام إحدى الواجهات الزجاجية، جذبني حذاءٌ أسود لامع، في عينيه بريق، لم يلحظ العابرون ما دار بيني وبينه، إلا أن الحذاء البني الجالس على مقربةٍ منه، همس لي : أنا أحق بك منه، أنا الأفضل.
وافقه عقلي، لكن عيناي تشبثتا بالأسود، كانت تراه الأنسب لقدميّ، تركهما قلبي وانصرف، كان هو الآخر متعاطفًا مع ....حذائي القديم.
نوفمبر 2014
قليله يكفي

ثلاثون عاماً يكد ويجتهد ولم يعره أحدٌ من رؤسائه المتعاقبين...إهتماما, لم يتقاعس مرة واحدة فى أداء ما يُطلب منه على أكمل وجه, وأيضاً ...لم يتذمر أو يُبدى إعتراضا. عزاؤه أنه لم يُقصر وهم المقصرون. سأله زميلٌ له:
ماذا ستفعل يا عم أحمد ...لو معك ألف جنيه ؟
- وآنى لى ذلك.؟
قالها فى تحسر, ثم رفع يديه إلى السماء داعياً.
- من فمك إلى باب السماء.
تداعت من فمه يصحبها صداها, أردف زميله قائلا:ً
لقد رأيت إسمك مدرجاً فى كشف المكافأت...مبروك يا عم أحمد.
تهلل وجهه فرحاً. كاد أن يُغشى عليه, همس فى صوت متقطع:
- بتتكلم جد ؟.
أومأ برأسه وربت على كتفه
- ألف مبروك.
إحتضنه إمتناناً ودموعه تتسابق على خديه.
وقع على الكشف بيدٍ مُرتعشة, إنزوى فى ركنٍ قصى يعد نقوده. قبًلها ثم أعاد عدها مرة أخرى. ألف وثلاثمائةٍ وسبع وخمسون جنيهاً. دسها فى جيبه, همهم: مائتان وخمسون لكل بنت, مائة وخمسون لزوجته. أما المائة الباقية..توقف أمام أحد محلات الملابس...أشرق وجهه .
"الحمد لله ..المائة تكفى.."
دارت فى ذهنه وأبتسامة زاهية إتخذت مُستقرها على شفتيه. مر فى طريقه إلى بيتهعلى "عم سيد الجزار", وعبده البقال, والحاج برعى بائع الفاكهة والخُضر... استوى على طرف السرير جالساً. خلع حذائه المهترئ, نادى على زوجته, دس يده فى جيبه, عد النقود, أعطى لإمرأته ثلاث مائة وسبع جنيهات, وأعاد الخمسين المتبقية إلى جيبه. قال لها بصوت خفيض دافئ وإبتسامةُ فرح تكسو ملامحه:
- سبع جنيهات زيادة ..العلاوة السنوية.
إنحنت, قبلت رأسه فى حنوٍ بالغ, همست :
- الحمد لله, ربنا يزيدك من فضله, مدد شوية ياحاج إلى أن تعد بناتك, وأكون قد إنتهيت من تجهيز الغداء.
فبراير 2013
القطيع
انتظمت
كعادتي في طابور المغادرين، كان المظهر حضاريًا لشعبٍ جُبل على الطاعة والتراحم،
بنظرةٍ عابرة رجحتُ أن يحل دوري في الركوب في السيارة الثالثة، بعد هذه التي
يتوارى الناس داخلها تباعًا.
دقائق قليلة
استغرقتها في تدخين سيجارتي، وما إن انتهيت منها وطأتها بحذائي، وفي ذات الوقت
كانت السيارة الثالثة كما توقعت تفتح أبوابها، فدلفت بسعادة داخلها، ألقى السائق
نظرة متفحصة ثم ما لبث أن أغلق أبواب سيارته، وانطلق بسرعة قاصدًا الطريق السريع،
يتلوى بها كحاوٍ يعزف ألحانه لثعبانه الأهتم، مطمئنًا لعجزه عن لدغه.
هنيهاتٌ
مضت ليفاجئنا بأن الأجرة قد زادت جنيهًا واحدا، هممت بالإعتراض، إلا أن اثنين من
راكبيها كفوني مشقة الإعتراض، انبرى أحدهما قائلًا في غضب:
- كان
ينبغي أن تعلمنا بهذه الزيادة قبل أن تُغادر الموقف
لم يعرهما
التفاتةٍ أو إجابة وإنما حاد بسيارته إلى جانب الطريق، ثم أوقف محركها والتفت في
برود قائلًا
- آديني
قلت، واللي مش عاجبه ينزل :
لم يمهله
الراكبان ليكمل عباراته، وسارعا بمغادرة السيارة تشيعهما نظراته الساخرة وألفاظٌ
نابية، ثم التفت إلينا قائلًا:
- الأجرة
كده زادت جنيه ونص، وإلا هأرجع الموقف وأكمل الحمولة..قلتوا إيه ؟
وسط صمتٍ
قاتل أخرس الجميع، هززت رأسي بالموافقة.
أغسطس
2016 .
الهيكل
تالله...ما أجمل أن يُمسي المرء عاريًا،
مُتحررًا من كل شئ يحول بينه وبين أن يفعل ما يشاء وقت ما يشاء. الآن أنا سيد نفسي،
لا أُنكر أنني كنت عبدًا مطيعًا لذلك الكائن الغبي، أركض إلى حيث يُريد، وأحط
رُحلي في المكان الذي يشتهيه.
فكرت كثيرًا أن أتمرد على حمقه وأوامره المُجحفة،
إلا إنني ولأنني قارئٌ جيد للتاريخ، لا أنسى ما حدث ل " سبارتاكوس " ،
ولا طاقة لي لتحمّل ما تحمّله " طومان باي " حين عُلق لشهورٍ تنهشه
الغربان، فلذت بالصبر وتجرع المرارة في صمت.
لا أُنكر إنني تمردت عدة مرات طيلة عمره القصير،
إلا إنها كانت في غفلةٍ منه، حين يشرد ذهنه ويطول مكوثه، وعندما ينهض أتلاعب به
كيفما أشاء، فلا يستقر على وضعٍ حتى أفقده توازنه، ولغبائه لم يشك بي لحظة، وإنما
كان يعزو الأمر لإشياءٍ أخرى.
مات سيدي، فكانت فرصتي الأولى والأخيرة كي أتنسم
عبير حريتي الأبدية، ضُممتُ لقوافل أحرارٍ سبقوني، في البداية اشمئزوا مني وسدوا
أنوفهم، فقد كان بي بعضٌ من بقايا سيدي ورائحته النتنة. ذات ليلة فاجأني كبيرهم
قائلاً : مرحبًا بك بين أقرانك, صمت برهةً من الوقت ثم أردف في لهجةٍ صارمة : عليك
أن تفهم أن الحرية المطلقة مفسدةٌ مطلقة، لذا فقد استننا قوانيننا الخاصة بنا،
ولأن الحركة كانت من أهم مظاهر عبوديتنا، فإن عدمها هو أهم مظهرٍ لحريتنا، ولانّ
سادتنا كانوا ثراثرة، فإنّ حديث الصمت هو دأبنا ومسلكنا. كدت أن أهز رأسي إيجابًا،
إلا إنني تذكرت مقولته فأحجمت، واضجعت على جانبي الأيمن، ومن عينيّ يبرز سؤالٌ عن
هسيسٍ يتنامى إلىّ من داخل غرفةٍ صغيرةٍ ملحقةٍ بالبهو الكبير الذي نضطجع جميعًا
فيه. لم انتظر كثيرًا لأعرف الإجابة، بادرني : ليس الآن، .... ستدخلها عندما يستبد
بك الشبق. شبقٌ ؟! ..أي شبقٍ هذا وأنا لا أشعر برغبةٍ في أي شئٍ سوى الإضطجاع
وتأمل الصمت المحيط !!. بعد عدة ليالٍ بلغني ما أثلج صدري، قيل لي أن حبيبتك
أخيرًا نالت حريتها، فقد ماتت سيدتها حزنًا على وفاة زوجها، فانتظرت بشغفٍ وشوق
قدومها إليّ، إلا إنني تفاجأت بها في البهو المجاور لبهونا، ولا وسيلة أُجيدها
لاختراق الجدار الفاصل بيننا، شيئًا فشيئًا تستبد بي الرغبة، وتشتعل جوانحي شبقًا
للقياها، حتى بتُ لا أتذكر آخر لقاءٍ حميميٍ بيننا، كيف السبيل إذن لإفراغ ما ينوء
بحمله كاهلي ؟ ...اختلست نظرةً إليهم، يا إلهي ..هم أيضًا يطفق الشبق منهم كوميض
البرق في خلاياهم، يكاد الجوع يتقاذفهم، إلا أنّ القوانين المُقيدة لحركتهم تمنعهم،
وفجأةً يتسلل إلى البهو يصيص ضوءٍ، يتزايد، يتبعه ظل ذلك الكائن الغبي، وهو يدلف
إلى بهونا وينحني يلملم فيهم ويضعهم في الغرفة الضيقة، المح خلسةً ابتساماتهم تكاد
تتفلت من عقالها، بينما يزداد ذعري وأنا أحاول جاهدً ألا يصلني هسيسهم الشبق.
الفرن
الصقيع الذي يجتاح قريتنا الصغيرة لم يكن السبب الرئيس في تجمعنا في قاعة الفرن،
كانت تلك عادتنا اليومية لتناول العشاء . والدتي بعجنه
وتجهيزه وتقوم.تقوم جدتي يطهي الخبز
تناول الجدة باكورة طهيها لوالدي، والذي يليه كالعادة من نصيب أخي الأكبر، إلا أن الجوع كاد أن يفتك بي، فمددت يدي لأتناوله منها. قلّصت كفها القابضة على الرغيف
هو ده العلام اللي بتتعلموه في المدارس يا حسن ؟
أحمر وجهي خجلاً، وخرجت الكلمات من بين شفتيّ بصعوبة
يا جدة ..أنا كنت هأناوله لأخي
لم تتأخر طلقاتها المعتادة
ليه ؟ هو مش ليه ايدين زيك
تناول أخي رغيفه، ثم جاء دوري فتناولته، ولم أجرؤ على قضمه مخافة لسانها الحاد، ونظرات أمي المعاتبة، ينتهي دور الذكور بتقسيم الرغيف المخصص لإبنيّ أخي إلى نصفين، ثم تناول جدتي الرغيف التالي لأمي وهكذا، ننتظر استدارتها البطيئة وانضمامها إلينا وبيدها الرغيف الأخير، لنشرع في تناول الطعام .
طال انتظارنا إلى أن همهمت أمي متساءلة " حد شامم ريحة شياط يا ولاد ؟ " .
تابعتُ أمي الشاخصة ببصرها إلى الرغيف المحترق داخل الفرن ، رأيت في ملامحها تهيؤها لمهمتها الجديدة .
تناول الجدة باكورة طهيها لوالدي، والذي يليه كالعادة من نصيب أخي الأكبر، إلا أن الجوع كاد أن يفتك بي، فمددت يدي لأتناوله منها. قلّصت كفها القابضة على الرغيف
هو ده العلام اللي بتتعلموه في المدارس يا حسن ؟
أحمر وجهي خجلاً، وخرجت الكلمات من بين شفتيّ بصعوبة
يا جدة ..أنا كنت هأناوله لأخي
لم تتأخر طلقاتها المعتادة
ليه ؟ هو مش ليه ايدين زيك
تناول أخي رغيفه، ثم جاء دوري فتناولته، ولم أجرؤ على قضمه مخافة لسانها الحاد، ونظرات أمي المعاتبة، ينتهي دور الذكور بتقسيم الرغيف المخصص لإبنيّ أخي إلى نصفين، ثم تناول جدتي الرغيف التالي لأمي وهكذا، ننتظر استدارتها البطيئة وانضمامها إلينا وبيدها الرغيف الأخير، لنشرع في تناول الطعام .
طال انتظارنا إلى أن همهمت أمي متساءلة " حد شامم ريحة شياط يا ولاد ؟ " .
تابعتُ أمي الشاخصة ببصرها إلى الرغيف المحترق داخل الفرن ، رأيت في ملامحها تهيؤها لمهمتها الجديدة .
يناير 2016 .
جنية الساقية

ثلاثة أشياء واظب عليها عوض، أن يستقبل كل صباح شروق الشمس ممدداً على ظهره أسفل سقيفة العنب على سطح داره، وأن يتلصص راقداً على بطنه على زوجة جارهم وهى تأخذ حمامها اليومي قبيل الشروق في زاويةٍ من حوش دارها، وفلاحة القيراطين اللذين تركهما أبوه بعد أن خطفته الجنيّة.
صوت أمه يصعد من أسفل إلى أعلى، ليمر على أذنيه ويتجاوزهما إلى السماء الحبلى بشمسٍ، وآن مخاضها، يصعد الصوت مرة أخرى مزعجاً، ليخترق أذنيه
يا عوض ...ياللا يا ابني الشمس طلعت
حاضر يا أمه
هم يا ابني، روح أروي الأرض قبل الشمس ما تحمىَ
حاضر يا أمه
يا عوض إوعاك تبص يمة الساقية، الجنيّة تخطفك زي ما خطفت أبوك
...إوعاك يا عوض، أنا ماليش غيرك يا حبة عيني
حاضر يا أمه
عندما اقترب من الساقية أغمض عينيه وأسرع الخطى، إلى أن تجاوزها بمسافة فتنهد إرتياحاً .
سألها
هىّ خطفته ليه يا أمه ؟
أبوك كان حليوة يا عوض وزينة شباب الكفر
تفحص إنعكاسه في الماء الجاري أمامه، في القناة التي يجلس على حافتها
وأنت يا عوض ..شبهه الخالق الناطق
تنهدت في لوعةٍ وأسى، أردفت مهمهمة
بس هو كان راجل طول بعرض .
أمسك الفأس بكلتا يديه، وجرف ما يكفي من الطين، وسد به فتحة الماء، فتوقف عن التسلل ، وواصل مسيره في القناة .
قفل راجعاً وفأسه على كتفه الأيسر، ماراً على مبعدةٍ من الساقية والجنيّة وأبيه .
هىّ خدته عشان إيه يا أمه ؟
هزت الأم رأسها في حركةٍ لا إرادية ولم تنبس ببنت شفة، إلا أن إلحاحه لم يصمت
خدته ليه يا أمه ؟ ..عايز أعرف .
كرر سؤاله مراتٍ ومرات، إلى أن قالت وهىّ تشيح بوجهها عنه
عشان تعاشره ...إرتحت يا عوض ؟
لكن عوض لم تريحه إجابتها، هم بسؤالها، إلا أنها كانت قد اختفت من أمامه، ودخلت الزريبة لتقضي حاجتها، أو ...لتُفرغ ما في جوفها من مرارة .
الليل أوشك على الإنتصاف، والتثاؤب حل على الشفاه محل الكلمات، نهضت في تثاقل
ياللا يا عوض نطلع ننام يا أبنى
صعدا إلى الدور الثانى المبنى من الطوب اللبن، غرفتها إلى يمين السلم الخشبي، دخلتها ، وغرفته على يسار السلم ، دخلها .
تنام أمه باكية كعادتها، وينام عوض يحتضن أرقه كعادته، فلا يلبث أن ينهض قبيل الشروق، ليصعد إلى سطح داره حيث سقيفة العنب على جانبه الأيسر، وعلى جانبه الأيمن أشباحاً رابضةً في سكون، أثارت في نفسه خيفة، رغم علمه أنها أكوامٌ من الجلة رصتها أمه لتستخدمها وقوداً كلما أوقدت الفرن .
يتلصص كعادته، والجارة الشابة الحسناء تستحم كعادتها، والشمس تتسلل كعادتها بين وريقات العنب الخضراء وأغصانه داكنة اللون، حاملةً معها شيئاً ينتظره منذ أمد، لكنه لا يعرف كنهه .
يخترق صوتها الزاعق أذنيه، فلا يجد مفراً من النزول للأسفل، إنصياعاً لطلبها، فهىّ أمه وهو وحيدها، بعد أن خطفت الجنيّة أباه .
تذكر ...كان صبياً عندما اصطحبه أبوه لمولد سيدي المتولي، وكيف كان أبوه منبهراً بغازيةٍ تتلوى شبه عارية فوق سجادةٍ زاهية الألوان، وكيف انبهر هو بألوانها .
صبيحة اليوم التالي، الصبية يتغامزون ويسخرون منه
أبوك خدته الغازية يا عوض
لم يفهم، وكل ما وعاه آنذاك، أن أباه سلّمه لجارهم ليعود به إلى أمه .
سألها مراتٍ ومرات، كانت تبكي ولا ترد، وعندما ردت، همهمت
جنيّة الساقية خدته مننا يا عوض
وأختفت من أمامه لتدخل الزريبة، لتكمل البكاء أو لتقضي حاجتها أو لتفرغ ما في جوفها من مرارة .
في طريقه إلى القيراطين اللذين تركهما له أبوه، يمر على الساقية، يتوقف، يقترب، يختلس نظرةً إلى داخلها، يمعن النظر، يستغرب، يسأل نفسه
أين أبي ؟ ...وأين الجنيّة التي خطفته لتعاشره ؟
يصرخ بأعلى صوته حتى كادت أن تنفجر أوردته، ولكن لا أحد يجيبه سوى صداه، يهدأ ، يمضي مبتسماً، فقد هداه تفكيره إلى الطريقة الأمثل، فالمولد قد أزف موعده
حاضر يا أمه
عندما اقترب من الساقية أغمض عينيه وأسرع الخطى، إلى أن تجاوزها بمسافة فتنهد إرتياحاً .
سألها
هىّ خطفته ليه يا أمه ؟
أبوك كان حليوة يا عوض وزينة شباب الكفر
تفحص إنعكاسه في الماء الجاري أمامه، في القناة التي يجلس على حافتها
وأنت يا عوض ..شبهه الخالق الناطق
تنهدت في لوعةٍ وأسى، أردفت مهمهمة
بس هو كان راجل طول بعرض .
أمسك الفأس بكلتا يديه، وجرف ما يكفي من الطين، وسد به فتحة الماء، فتوقف عن التسلل ، وواصل مسيره في القناة .
قفل راجعاً وفأسه على كتفه الأيسر، ماراً على مبعدةٍ من الساقية والجنيّة وأبيه .
هىّ خدته عشان إيه يا أمه ؟
هزت الأم رأسها في حركةٍ لا إرادية ولم تنبس ببنت شفة، إلا أن إلحاحه لم يصمت
خدته ليه يا أمه ؟ ..عايز أعرف .
كرر سؤاله مراتٍ ومرات، إلى أن قالت وهىّ تشيح بوجهها عنه
عشان تعاشره ...إرتحت يا عوض ؟
لكن عوض لم تريحه إجابتها، هم بسؤالها، إلا أنها كانت قد اختفت من أمامه، ودخلت الزريبة لتقضي حاجتها، أو ...لتُفرغ ما في جوفها من مرارة .
الليل أوشك على الإنتصاف، والتثاؤب حل على الشفاه محل الكلمات، نهضت في تثاقل
ياللا يا عوض نطلع ننام يا أبنى
صعدا إلى الدور الثانى المبنى من الطوب اللبن، غرفتها إلى يمين السلم الخشبي، دخلتها ، وغرفته على يسار السلم ، دخلها .
تنام أمه باكية كعادتها، وينام عوض يحتضن أرقه كعادته، فلا يلبث أن ينهض قبيل الشروق، ليصعد إلى سطح داره حيث سقيفة العنب على جانبه الأيسر، وعلى جانبه الأيمن أشباحاً رابضةً في سكون، أثارت في نفسه خيفة، رغم علمه أنها أكوامٌ من الجلة رصتها أمه لتستخدمها وقوداً كلما أوقدت الفرن .
يتلصص كعادته، والجارة الشابة الحسناء تستحم كعادتها، والشمس تتسلل كعادتها بين وريقات العنب الخضراء وأغصانه داكنة اللون، حاملةً معها شيئاً ينتظره منذ أمد، لكنه لا يعرف كنهه .
يخترق صوتها الزاعق أذنيه، فلا يجد مفراً من النزول للأسفل، إنصياعاً لطلبها، فهىّ أمه وهو وحيدها، بعد أن خطفت الجنيّة أباه .
تذكر ...كان صبياً عندما اصطحبه أبوه لمولد سيدي المتولي، وكيف كان أبوه منبهراً بغازيةٍ تتلوى شبه عارية فوق سجادةٍ زاهية الألوان، وكيف انبهر هو بألوانها .
صبيحة اليوم التالي، الصبية يتغامزون ويسخرون منه
أبوك خدته الغازية يا عوض
لم يفهم، وكل ما وعاه آنذاك، أن أباه سلّمه لجارهم ليعود به إلى أمه .
سألها مراتٍ ومرات، كانت تبكي ولا ترد، وعندما ردت، همهمت
جنيّة الساقية خدته مننا يا عوض
وأختفت من أمامه لتدخل الزريبة، لتكمل البكاء أو لتقضي حاجتها أو لتفرغ ما في جوفها من مرارة .
في طريقه إلى القيراطين اللذين تركهما له أبوه، يمر على الساقية، يتوقف، يقترب، يختلس نظرةً إلى داخلها، يمعن النظر، يستغرب، يسأل نفسه
أين أبي ؟ ...وأين الجنيّة التي خطفته لتعاشره ؟
يصرخ بأعلى صوته حتى كادت أن تنفجر أوردته، ولكن لا أحد يجيبه سوى صداه، يهدأ ، يمضي مبتسماً، فقد هداه تفكيره إلى الطريقة الأمثل، فالمولد قد أزف موعده
نوفمبر 2013.
حياة وموت

أضاليلكِ المهترئة تنقض علىّ من فتحةٍ ضيقة، في نافذة زمني المُغلقة، عاريةً من ثوبها الأبيض، فبدت في ثناياها ألوان قوس قزح، تبثق في شبقٍ، خارج أقمارك المعتمة، لتتقاذف في جسدي كراتَ لهب، وتخلع عني حُلتي الثلجية ، لينساب دمي ....ماءًا رمادياً، يروي فضاءاتك اللامتناهية، فتتفتح براعم حياة، بينما أنا ! ...تحتضر جذوري !!
هذا حالنا دائمًا ....تكذبين وأصدقك
نوفمبر 2014
أحلام عجوز

سنينٌ طوالٌ مضت، وهو لا يزال مواظباً على الجلوس هناك، يُلقى بسنارته فى الأعماق المترامية أسفل منه ، وينتظر، ويعود خالى الوفاض .
هذه الليلة توجس شراً، فسماؤها بلا قمرٍ ولا نجوم، البرق يشق عبابها ويعقبه رعدٌ يُمزق ستائر الصمت، الأمواج تتدافع أيهما يصل إليه أولا ،يغوص بعينيه ولا يدرى، أهو الغارق فى اللجة السوداء، أم أن البحر قد غرق فى حدقتيه ؟ .
يتفاجأ، الخيط يهتز فى يده ، يجذبه فرحاً إلى أعلى، تطفو على صفحة الماء، دموعها تترقرق فى مقلتيها، تتوسل إليه
-- دعنى
مازال غارقاً فى فرحته ، يجذبها أكثر، تدنو منه ،دموعها عُقدىَ لؤلؤٍ إنفرطا على وجنتيها
-- أسرتنى !...أنا ملكك إذن...
يفرك عينيه بيده، يتحسسها ، ملمسها يُشيع فيه دفئاً ، يُديب ثلوج سنينه الباردة، تلتصق به ، تهمس
-- جاريتك أنا
يبكى
- لكنك يا سيدتى من عالم مختلف ٍ عن عالمى
-- إذن تعالى معى
- أوليس الماء بقاتلى ؟
-- بلى...ولكنه سيبعث فيك حياةً تفتقدها .
دموعه تنهمر سيولاً على كتفها ....ومضة برقٍ تضئ صفحة الماء، يرى خيطه كف عن الإرتعاش، فيقفز فى الماء باحثاً عن بدايته
يناير 2013
التسميات: قصة قصيرة جداً
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية