رحلة في عقل سليمان جمعة.. محمد البنا
رحلة في عقل سليمان جمعه
عبر بعض نصوص مجموعته القصصية
قرى الملــــول
الأديب/ محمد البنا
![]() |
سليمان جمعة |
![]() |
محمد البنا |
كاتبنا لا يفتأ أن يداهمنا بتفاصيل التفاصيل في دقة وبراعة متناهية ، واصفًا ما يحوطه في بيئته الغناء من أشجار ومروج وطيور وظلال ، ويتداخل بقوة مع ما يموج بداخله من غضبٍ على الحال الآني والممتد لقرونٍ خلت ، تخلف وردة وتقوقع ، صارخًا بكل ما أوتى من قوة ، وراجيًا ومبتهلًا ... " أنقذني يا الله " .
يتوق بشدة وشغف إلى ما بعد ، دائم النظر إلى الضفة الأخرى ، آملًا منها الخلاص لنفسه المكلومة ولوطنه المنبطح على جراحه ، تكاد لا تلمح في كتاباته مظهرًا من مظاهر الفرح ، أو طريقًا للخلاص ، هو باحث عن ماذا بعد ، باحث فقط ، يطرح الأسئلة ، ويسوق الأمثلة الدالة على حاله الحبيسة داخل جدران جسده ، وعلى أحوال عالمه العربي المحيط به كسجن كبير ، وقلما تجد إبتسامة سعيدة تتجاوز نياط قلبه لتظهر آثارها على أحرفه وكلماته ، مهموم بنفسه ومهموم بقريته ، يتطلع بشوق إلى ...ماذا بعد ؟ .
في أقصوصته هديل
" قطعت عشتار كم ورد ، مسحت عن خده دمعة فراقه ، تركت أوراقه تسبح على صفحة سفره الجديد " .
شوق الكاتب إلى الترحال إلى المجهول ، مستطلعًا ومتطلعًا إلى سبر أغواره ، آملًا في إشراقة صبحٍ أفضل .
وفي أقصوصته يقرأ الفاتحة
يرتحل أيضًا مع جثمان الشهيد جنوبًا ، حيث القبر والظلام والسواد والسقوط ، ولا يلبث أن يتعلق بالأمل روحًا تتجه شمالًا حيث النور والإشراق والبياض الناصع ، تزفه الطيور بأجنحتها ، وتبادله الزهور عبيرها .
وفي أقصوصة حذر نائم
إغراق شديد في التفاصيل ، تفاصيل التفاصيل ، فأحيا المشهد كأنك ترى أحرفه وكلماته كائنات تتحرك وتنبض بالحياة
" وضعت على رأسها منديلها الأسود ، وعصبتها المطرزة بالحرير ، وعصبت خصرها بمملوكها الأحمر ، خرجت ، تحمل على مرفقها الأيسر سلة من القصب ، تضع فيها زوادتها ، بضع حبات من البطاطا والبندورة ، وفحلان من البصل الحريف "
لوحة تشكيلية رائعة وشائعة لقرويةٍ بسيطة ، مزج فيها العديد من الألوان المرئي منه الأسود والأحمر ، وما سكت عنه لتبوح لنا اللوحة به ، الأصفر متمثلًا في تراب الأرض ، والأبيض متمثلًا في زخرفة الدور ، والأخضر فيما يبدو على البعد من أشجار وكروم هى وجهتها .
امرأة ستينية ، كل من يراها يدعو لها بالعافية وطول العمر ....إنذار خفي أوحى به المشهد ونبأت به الأحرف ، طرحه الكاتب عرضًا ، ويعقبه دوي إنفجار !! ، يدرك القارئ من اللحظة أن شخصًا ما قد توقفت أنفاسه وإلى الأبد ، فتعالوا معي نعيد قراءة المشهد بتأنٍ وروية ...
وصف تفصيلي ناعم بكلمات بسيطة ، يعقبه حركة بطيئة لعجوز ، ثم نزعة ملائكية تمثلت في دعاء بطول العمر ، فجأة يدوي إنفجار ..كأن الكاتب يصف حال أمته ..نيام نيام ، فيصرخ فيهم ..أفيقوا استيقظوا ، ليست الحال كما تراها أعينكم ، أنظروا بقلوبكم فإن عيونكم أصابها العمى ، العدو هناك ..العدو هناك ، ويختتم المشهد برحيله مع الشهيدة إلى الضفة الأخرى ، شغوفًا لمعرفة ...ماذا بعد ؟ .
وفي أقصوصته طواحين الهواء
ينحى الكاتب منحًا سساخرًا هازئًا من نفسه ومن بني جلدته ، كهل يتفيأ في ظل شجرة معمرة ، كأنه يلوذ بها مستحضرًا أمجاد أجداده ، ومن خلفه قلعة دالة إيما دلالة على الماضي السعيد ، ولكنها الآن أثرًا بعد عين سجينة أسوار التخلف ، تنصحه " ساخرة " عجوز أجنبية [ أوروبا ] وهى ما يراها واهمًا مثله مثل غيره من المتحذلقين والمتشدقين بمصطلحات يرددوها بلا دراية ، يراها التقدم والنور ، تنصحه أن ينهض وينتصر ، ويالها من سخرية في استحضارها لشخصية دون كيشوت ، وهو ما ينظر إليه الغرب كرمز للفشل والغباء ، الرجل الذي حارب طواحين الهواء ، تذكره مثلًا يحتذي به !! ، ويبلغ الأمر قمته بترديده لكلماتها دون فهم أو دراية ....." ومن يومها لا يزال يعلك بالكلام " .
وفي أقصوصته ..وأخيرًا
" ظل شجرة يبيت نهارًا مختبئًا من عين شمس " ...يا الله على جمال الصورة والتشبيه وبلاغته ، يحرك الأشياء ، تغار الريح من الظل الذي يستظل ، فتهز الأغصان بقوة ، لنتفاجأ بأن المشهد الحقيقي ..هو الفكرة تراوح بين إقتراب وإبتعاد ووميضٍ وخفوت من ذهن المبدع ، يراودها فتستعصي ، تقاوم ، تستسلم في النهاية وتخضع لسلطان القلم وسطوته .
محمد البنا
التسميات: زاوية النقد
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية