نقوش مقاومة للتآكل .. قصة قصيرة
نقوش مقاومة للتآكل

عامر العيثاوي
قصة قصيرة
الأديب العراقي: عامر العيثاوي

أمضت "طيبة" وابنها البكر "عبد الرحمن" ذو الأربعة عشر ربيعاً، خمس ساعات متنقلين بين الأحياء الغارقة بمستنقعات الأمطار، ومكاتب الدلالية في البحث دون جدوى عن سكن للإيجار، متحملة وجع قدمها المدماة بأثر الحذاء الضيق على الكعب الأيمن.
لدى انتباه ابنها وضع منديل "كلينكس" بين قدمها والحذاء، واقترح عليها الجلوس على مقعد حجري متآكل في حديقة مهملة منذ سنوات طويلة، تنتشر فيها بضعة شجيرات ياكلبتوس نافقة، طالعت المكان بحنين غريب، ثمة طفلة وولدان يلعبون بشغف في عالم متناه من السعادة، تنبهت أن الطفلة هي نسخة مطابقة عنها.
لقد عانوا الليلة الماضية من الأمطار المتدفقة بجنون من سقف المنزل المغطى بطبقة متعبة الطين والتبن، أغرب ما في الكارثة إنها كانت تتأمل بخضم الفوضى أشباح عائلتها الأربعة الراحلين في الباحة الغارقة بالعتمة والسيول.
ملامح أمها المشوشة، ونظرة والدها الحزينة، وتوأما روحها (أحمد وعبد الرحمن) يواجهانها بابتسامتها العذبة، شقيقاها الساكنان في قلبها حتى يوم يبعثون فهمس من بين نبضاته: "ياعيني عليهم".
الأمر الذي أسقطها في نوبة أخرى من النظرة الساهمة،غائبة عن اللعنات اللامتناهية التي تصبها حماتها بلكنتها السريعة الممزوجة الحروف على رأس "بوش الابن"، والذهول على وجهَي ولديها ببقايا نعاس ليلتهم المكتظة بالنفير العام.
وحده صوت زوجها وتعابيره الحائرة عند كل أزمة انتشلها من سهوتها العميقة وسط المياه المتسللة بين الأغراض والأثاث: (ما عسانا فاعلين)، أمسكت يده اليمنى مطمئنة إياه بعينيها الواثقتين:
- لا عليك سيكون كل شيء بخير.
في الصباح وبعد معاينة الأضرار، اشتركت وحماتها بنشر أكوام الأغطية، وشطف المياه من داخل الغرف، فيما انهمك الزوج والأولاد بمحاولة علاج ثقوب السقف العديدة.
كانوا قد انتقلوا للعيش في المنزل المتهالك أصلاً قبل أسبوع واحد فقط، من تبرع لأحد المحسنين، بعد تهجيرهم تحت تهديد السلاح من خمسة مسلحين، تأملتهم المرأة كغربان نذير الشؤم، فحدثتهم بلهجة التضرع:
- "وين انروح يمه، مو عايشين بهذا البيت أب عن جد".
- "حجية آخر كلام، نعطيكم مهلة اسبوع ترتبون أموركم".
وكان ذلك الأسبوع المكتظ بحزم الأمتعة مناسبة جيدة لتكيل الشتائم لبوش الصغير، وتتنفس بغيض مكتوم:
- "غضب الله على راسك، مو كنا عايشين الجار مايعرف الجار يا إمام يتبع".
وهي الشتائم التي تثير ضحك وتندر ولدها، فرد عليها بجملة قاسية، لم تكن تناسب طبيعته البسيطة وسحنته النحيفة السمراء.
- كل شيء كان يعتمل تحت الجسد ونحن نائمون.
عند العاشرة انتهوا إلى أن المنزل غدا غير صالح للسكن، والقرار أن يواصل الزوج إصلاحاته، وتبحث هي و"عبد الرحمن" عن سكن للإيجار.
كانت قد أنجبته وهي لا تزال ببداية الصبا، فيبدوان معاً وكأنها شقيقته الكبرى، وهو ما يعطيه الجرأة لممازحتها في لحظات سهومها:
- هذا يسمونه تآكل الذاكرة، تنفيساً لمشاكل الحياة.
تضربه على رأسه بتوبيخ هزلي: (صاير تعرف تفلسف، وقماطاتك ما زالت مبللة خلف المنزل)، فيرد ضاحكاً بدوره: (أصلاً، لا تكبريني إلا بخمسة عشر عاماً).
مع أن الأمر يتمثل بحالات مزعجة حقاً، فالهموم المتوالية تسرقها عن عالمها، فلا تجيب مباشرة على حماتها، تختلط التواريخ في ذهنها، تنسى أمكنة الأشياء، وتغفل عن وضع الملح في الطعام.
هي الابنة الثالثة لموظف بسيط في محطة كهرباء، خسرت أمها في ميلادها الرابع، ويوم خطبتها كانت أتمت الرابعة عشر لتوها، وترك فيها ملامح الزوج بابتسامته الخجولة وملامحه السمراء النحيفة شعوراً غريباً لم تستطع معرفته، بل واعيتها لكنة حماتها المستقبلية، فلا تكاد تفهم شيئاً من عباراتها المتلاحقة باستعجال.
وكان ذلك مدعاة لضحك الزوج الذي حمد الله أن خطيبته لم تفهم أن أمه تخبرها بأن ولدها هو الشاب الأكثر فشلاً في العالم لكنه لا يخلو من طيبة.
وبدا ذلك لشقيقيها المرتبطين معاً بمفارقات لايمكن تآكلها، كأكثر الأمور حزناً، والتخلي عن زهرتهما في غير أوانها بالمرة، مكتفين بمواساة والدهم.
- البنت أمانة ثقيلة، ومكانها بيت زوجها.
وفي زخم حياتها كمدبرة منزل بمقتبل العمر تساقطت زهور عائلتها الواحد تلو، رحل الوالد، والشقيقان بتواريخ متناوبة موجعة، مستذكرة إياهم بأسماء ولديها، وبتنهدات عميقة:
ياعيني على أحمد، " ضحكته تطلع من قلبه"، تدمع عيناه مع أصغر نكته، يزعل ويرضى بسرعة، يصنع لها دمى من الأقمشة التالفة ويرسم تقاطيع وجوهها بأقلام الماجك، يرافقها من وإلى المدرسة وعيناه الحادتان كالذئب تحرسها من تحرش الأولاد، "أحمد صار شابا أنيقا بعينين عسليتين"، أحمد راح ضحية رصاصة طائشة من مواجهة مع الأمريكي.
ياعيني على عبد الرحمن، يسرح لها شعرها، يغرم لها بحسب طولها "البيجامات القديمة"، يطبخ لها الطعام، يشاركها الألعاب، يقلد أمامها أصوات ممثلي الكارتون يناديها ضاحكاً: والله يا أختي أتعبتِني، بكاها بدموع غزيرة يوم غادرتهم عشية زواجها، "عبد الرحمن صار شابا أنيقا، بشعر كستنائي، وبشرة بيضاء متعرجة بآثار حبوب المراهقة، يرفض الموافقة على توسلاتها بالزواج فيخبرها بدمعة بأنه يشعر وكأن الموت يطاردهم أينما ذهبوا، عبد الرحمن اختطفته مليشيا ولم يجدوه حتى اليوم.
ياعيني عليهما وهما ينبثعان أمامها في كل واردة وخاطرة من حياتها ومن بين أطلال أشجار يكالبتوس كئيبة، تتحرك اشباحهم هم الثلاثة كما في سالف ايامهم القديمة، لكزها ابنها مبتسماً اثناء استغراقها في الفراغ:
- انظري، هذه واحدة من لحظات تآكل الذاكرة.
قبّلته من رأسه، وأجابته ودمعة تجري على خدها:
- يلزمك ستة عشر عاماً او ضعفها لتعرف أن بالقلب نقوشا مقاومة للتآكل ما عشنا من حياة.
عامر العيثاوي
التسميات: قصة قصيرة
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية