قراءة في القصة القصيرة جداً.. " فطرة " .. للأديب العراقي/ جهاد جوهر
قراءة في القصة القصيرة جداً فطرةللأديب/ جهاد جوهر
فطرة
نزعتُ احد التروسِ المسننة من ساعةٍ أثرية ورثتها عن أبي، ووضعتَهما في صندوقٍ زجاجي، ها أنا انظر إليهما كل يوم لملايين السنين، والترس لم يعد بالصدفة إلى موقعه في الساعة حتى تعمل كما كانت، فقدتُ يقيني بأن الصدفة قد تخلق شيئا ما، لوحتْ لي النملة وابتسمتْ؛ وهي تجرُّ فُتاتا من وراء الصندوق.جهاد جوهر
_______
القراءة :
سأتناول النص من زاويتين. تتعلقان بالشكل وبالمضمون .
ولنبدأ بالمضمون: لنتأمل التجربة المعروضة . لدينا شخص/ الراوي يرغب في اختبار ظاهرة الصدفة , والسياق يشير من طرف خفي إلى أن مايشغل الراوي هو دور الصدفة في نشأة الكون على زعم الملاحدة الذين ينكرون وجود خالق أعظم له.
يعمد الراوي ألى ساعة ورثها عن أبيه, فينزع ترس من تروسها, ثم يضع الترس والساعة متجاورين في صندوق زجاجي, ويظل يراقبهما لملايين السنين عسي أن يقفز الترس إلى موضعه بصدفة ما, وتعود الساعة إلى العمل كما يزعم منكرو الخالق. بالطبع لن يقفز الترس عائداً إلى مكانه ولو انتظر المراقب أضعاف الزمن الذي انتظره, الأمر الذي يترتب عليه أن يفقد الراوي إيمانه بقدرة الصدفة على خلق شىء. هذا هو ببساطة مضمون النص.
كان أول ظهور لنظرية الصدفة مع طرح العالم " جورج لوميتر" لنظرية الانفجار العظيم عام 1927 كتفسير لنشأة الكون. وقد تصدت لها الكنيسة الكاثوليكية بقوة لأن مؤيدوها عزوا خلق الكون إلى الصدفة منكرين الرواية التوراتية.
ولا مجال لطرح المساجلات بين الفريقين لأنها لاتزال دائرة, وستظل دون أن تحسم طالما بقي هناك مؤمنون, وملاحدة.
المهم إدراك أن جوهر الخلاف بين الفريقين يدور حول العلة. ينكر أصحاب الصدفة العلة , بينما يتمسك بها أصحاب الكتب السماوية. وبينما يؤكد الأولون الصدفة بالمعادلات الرياضية وحقائق العلم , ينكرها الآخرون بأمثلة منطقية تشبه الساعة, والترس. ورغم محاولات العديد من الباباوات ورجال الدين والنخبة وضع أطروحات للتوفيق بين نظريات العلم الحديث, وبين قصص الكتب المقدسة, إلا أن رحي الصراع والمساجلة لم تتوقف بين الفريقين, مايوحي بأن الصراع لا يعبر عن صراع فكري سعياً إلى الحقيقة, بقدر ماهو سجال ينطوي تحت إهاب الميديا المعاصرة التي تفتعل صراعات شكلية لآجل الترويج لشكل من أشكال الحضارة الاستهلاكية المعاصرة. فالإيمان في ظني منبعه القلب, لا العقل , ولا يحتاج إلى أسانيد علمية أو منطقية .
أما من حيث الشكل : فقد اعتمد النص شكلا قصصياً قصيراً على لسان راوي هو في الوقت نفسه البطل المهموم بالقضية الوجودية ( بالمنطق الدينى لا الفلسفي ) . واعتمد على سرد الأحداث بالجمل الفعلية السريعة المتدافعة ما منح النص إيقاعاً ودينماميكية , وطرح القضية طرحاً محايداً دون تدخل منه إلا في العبارة .. " فقدتُ يقيني بأن الصدفة قد تخلق شيئا ما " . فأراها عبارة تقريرية غير ضرورية , إذ على القارىء أن يستنتجها من السياق , أما مشهد الختام الذي تبتسم فيه النملة من خلف الصندوق وهي تجر فتاتاً, فيتضمن ببلاغة عالية حكمة تلخص قيمة التجربة الحقيقية . فهي تسعي إلى رزقها , محققة جدوى وجودها دون ن تفطن حتى لكافة تلك المهاترات . إن النملة لا تمثل إلا كياناً بالغ الضىلة بالنسبة إلى الكثير من الكائنات , وهي مع ذلك تفوقها جلداً ومثابرة , وما ورودها في الخاتمة إلا على سبيل المقارنة التى حتما سيخرج فيها الإنسان خاسراً . ففي حين تكدس هي وتدخر , يتلف اإنسان, ويستهلك, ويبدد موارد الكوكب, وطاقاته عبثاً .
تحياتي وتقديري لإبداعك صديقي المفكر, جهاد جوهر .
محسن الطوخي
التسميات: زاوية النقد
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية