قراءة في القصة القصيرة
جروح في ثوب الأسئلة
للأديب/ صبري حسن
يطرح النص الأسئلة , دون أن يقدم إجابات . نص يدور في نفس المنطقة التى خضناها مع صديقي صبري في نصه السابق " السر وأشياء أخري " , مع اختلاف الحبكة والشخصيات والجو العام , فإن كان النص السابق قد دار في بيئة افتراضية , وجو غرائبي , فإن أحداث هذا النص تدر في بيئة واقعية , قرية عادية لا تتميز عن كافة القري المصرية , وتبدو شخصية الراوي كما لو كانت وافدة من خارج القرية , أو يكون قد تزود بثقافة وافدة من مدينة متحضرة , فهو يذكر ألقرية في العبارة " فالقرية بكاملها ستخلصا نه من يدي." بأسلوب يوحي بعدم انتمائه للمكان , كما أن ثقافة اللجوء إلى الطبيب النفسي لا تعد من السلوكيات التى تميز البيئة الحاضرة في النص . ولعله واحد من الموظفين العموميين الذين يفدون إلى القري من خارجها , وأغلب الظن أن يكون متمتعاً ببعض النفوذ , يوحي بذلك الأسلوب الذي اتبعه في مطاردة خصمه, ومحاولة القبض عليه . أما شخصيات النص الأخري فهي الشخصيات التقليدية في القرية , الشيخ علي إمام الزاوية في القرية , والشيخ في القرية المجاورة , إضافة إلى الشخصية التى تقاسمت بؤرة الحدث في النص وسنتوقف عندها قليلا : فهو شخصية نمطية تواجدت في أغلب الأعمال الأدبية الواقعية التى تناولت عالم الريف المصري . وقد استخدمت تلك الشخصية بأوجه متعددة , أبرزها كناقل للأسرار والأخبار بحكم قدرته على التجول في الدور بحرية , والاطلاع على أسرارها من باب عطف الجميع عليه, وأيضاً من باب اليقين بعدم قدرته على الفهم والتمييز فلا يتحرج الناس من كشف عوراتهم عليه . أما الأمر الآخر الذي يميز الشخصية النمطية فهو قدرته على النطق بالحكمة وكشف المستور في حجب الغيب , أولها للعرف الشائع " خذوا الحكمة من أفواه المجانين " , وثانيها للثقافة الريفية التى تعتقد أن تلك الفئة هى من المجاذيب المكشوف عنهم الحجاب . هذا فيما يتعلق بالشخصية كنمط . أما عن استخدام الكاتب لتلك الشخصية في النص فأرى أنه نقل الشخصية إلى مستوى أكثر تقدماً .
فالنص يصور الشخصية في هيئتها الخارجية قريبة إلى حد كبير من النمط " يسيل الرضاب على شدقيه، وتعانق الريح شعيرات طوال من لحيته المتناثرة كجزر منفصلة فوق وجهه المتسخ. " . لكننا نراها لا تنطق بترهات , بل بالآيتين 13 , 14 من سورة الواقعة " ثلة من الأولين, وقليل من الآخرين " وكلاهما في سياق السورة مبشران بالنعيم , وسنغض الطرف عن أن المنطق كان يستوجب من الراوي أن يشعر بالطمأنينة ويعد ذلك من ضروب الفأل الحسن , لكننا سنتبع الخط الدرامي الذي اختاره الكاتب فنتفاعل مع القلق والحيرة اللذان استوليا عليه , لأن ذلك القلق هو الذي دعاه إلى الانشغال بالأمر إلى حد تقصي الاستشارات الطبية والفقهية لدى الطبيب النفسى والمشايخ الذين توفروا له في القرية , ومن خارجها , وهو مايضعنا أمام صورة غير نمطية لعبيط القرية طبقاً للتنظير العلمي للحالة الذي ورد في تشخيص الطبيب , ولكني سأتناول قول الطبيب مع بعض التعديل الذي أقترحه . فالمجنون بالضرورة فاقد للتمييز , ولذلك رجح الطبيب أن يكون الشخص مريضاً نفسياً مادام قادراً على التمييز , والمريض النفسي في تلك الحالة أشد خطورة على صديقه الراوي , إذ المجنون ينسحب خطره على الجميع بشكل عام , وعجزه عن التخطيط والتدبير يجعل من تحاشي خطره أمراً ممكناً , بينما المريض النفسي يكون فريسة لهواجس وريب , ولا يكون فاقداً للقدرة على التمييز واستهداف شخص أو فئة بعينها , وهو لذلك أشد خطورة . وكون تلك الشخصية قد وردت في النص معروضة ربما للمرة الأولي على طاولة التشريح بما يعد تناولا جديداً لها , وتشريحاً نفسيا يجعل منها شخصية رئيسية وموضوعية , خلافاً لورودها على الدوام كشخصية ثانوية عابرة , فإني أعد ذلك من إيجابيات النص .
أما خاتمة النص والتى تتداخل فيها رؤية الشيخ الصوفي " البشارة، والفوز المبين، وأن التلميح يغني عن التصريح،" . مع المطاردة العقيمة التي انتهت بتمازج شخصية الراوي مع الشخص الغامض في نظر أهل القرية , إذ لاحا كلاهما كغريبى الأطوار . فأراها تتمة درامية تمنح النص الحيوية والتوهج , وتمنح القارىء متعة اكتمال التجربة , كما توحي في ذات الوقت باستمرار الأسئلة الأساسية غائبة لا تجد إجابة شافية قاطعة , فأنت ترى في أقوال شيخ الزاوية, والطبيب, والشيخ الصالح مايدل على أن كل منهما يري الأمر ويقيسه من منظوره الخاص الذي لا سبيل إلى تلاقيه مع سواه , مايوحي بدلالة العنوان " ثقوب في ثوب الأسئلة " . وقد كتبتها ثقوب بدلا من جروح متعمداً .
تحياتي لك صديقي المبدع صبري حسن , ولإبداعك الناضج الجميل .
محسن الطوخي
يطلقها دائما-كلما رآني- ويهرول، يسيل الرضاب على شدقيه، وتعانق الريح شعيرات طوال من لحيته المتناثرة كجزر منفصلة فوق وجهه المتسخ.
وسبابته تشير نحوي.
سألت الشيخ (على) إمام الزاوية عن ذلك. حيث لا ينطق بهذه الآية إلا لي وحدي.
ابتسم عليٌّ وردد: ليس على المريض حرج.
لا تشغلن بالك رجل يهذي وانقطعت به أسباب العقل، فليس من الحكمة إعمال الفكر مع مسلوب العقل.
لم تشف تلك الإجابة غليلي. تركتني معلقا في سموات الشك. وهل الرجل مسلوب العقل فعلا؟.
وإذا كان كذلك فلمَ يمايز بين الجمل والآيات التي يرددها باختلاف الوجوه والأشخاص؟.
سألت صديقي الطبيب النفسي..
اعتدل قائلا: الجنون درجات، وليس كل مجنون فاقداً للتمييز، وربما ليس مجنونا بل مريض نفسي، فهو يدرك ويحس ويميز ومن ثم فلربما لقوله هذا هدف.
ايتيني به، فأخبرك بالأمر اليقين.
زادني الطبيب حيرة فوق حيرتي، وإن كان أكد الظن فصار يقينا مهيمنا على رأسي. لكنَّ المعضلة الحقة تكمن في إقناع الهاذي بالمثول بين يدي الطبيب، أو القبض عليه بالقوة-وأحسبها لن تفيد- فالقرية بكاملها ستخلصه من يدي.
لم تخفت حدة الأسئلة، وتأجج الشك داخلي مع تكرار الجملة، ورؤية الرجل صباح كل يومٍ.
فمررت بأحد مشائخ القرى المجاورة-وكان مشهورا بالصلاح والتقوى- وسألته، فأخبرني بأنها البشارة، والفوز المبين، وأن التلميح يغني عن التصريح، وكفَّ عن الحديث.
تركته بعدما لاذ بمسبحته، وسجن لسانه خلف قضبان شفتيه، عازما على فض السر بنفسي، وهتك ستائر الحيرة.
خرجت في الصباح-في موعدي المعتاد- متربصا بالرجل-لا ذاهبا إلى العمل- وعلى بعدٍ وجدته يرفع سبابته ويشير إلي: ثلة من الأولين وقليل من الآخرين.
توجهت إليه لأقطع عليه درب الفرار، كي أسأله ماذا يعني.
مرق يمينا، ثم انحرف يساراً فمر مني وأطلق ساقيه للريح...
شمرت عن ساقي- اتقاء الطين- وطرت خلفه...
من حقلٍ إلى حقلٍ، ومن درب لآخر...
أصابني التعب بشلل في ساقي، فهويتُ إلى جذع نخلة، وجلسَ..
تتصاعد الأفكار والكمائن في عقلي..
أخطط للنيل منه وحصاره...
زحفت مقتربا منه بحذرٍ.. فزحف مبتعدا...
نفضت التعب عني، واستعصمت بإرادتي ونهضتُ، فنهض.
جريت نحوه، فجرى...
عدنا إلى القرية...
هو أمامي
وأنا خلفه..
سمعت شيخ الزاوية: لا حول ولا قوة إلا بالله.. حتى أمس كان عاقلا..
والطبيب يقول: فليحضره أحدكم نعالجه ونرى مشكلته قبل أن تتفاقم.
بينما الرجل الصالح يبتسم: إنه لذو حظ عظيم، فلقد اصطفاه الشيخ.
نص القصة
جروح في ثوب الأسئلة
ثلة من الأولين، وقليل من الآخرين.يطلقها دائما-كلما رآني- ويهرول، يسيل الرضاب على شدقيه، وتعانق الريح شعيرات طوال من لحيته المتناثرة كجزر منفصلة فوق وجهه المتسخ.
وسبابته تشير نحوي.
سألت الشيخ (على) إمام الزاوية عن ذلك. حيث لا ينطق بهذه الآية إلا لي وحدي.
ابتسم عليٌّ وردد: ليس على المريض حرج.
لا تشغلن بالك رجل يهذي وانقطعت به أسباب العقل، فليس من الحكمة إعمال الفكر مع مسلوب العقل.
لم تشف تلك الإجابة غليلي. تركتني معلقا في سموات الشك. وهل الرجل مسلوب العقل فعلا؟.
وإذا كان كذلك فلمَ يمايز بين الجمل والآيات التي يرددها باختلاف الوجوه والأشخاص؟.
سألت صديقي الطبيب النفسي..
اعتدل قائلا: الجنون درجات، وليس كل مجنون فاقداً للتمييز، وربما ليس مجنونا بل مريض نفسي، فهو يدرك ويحس ويميز ومن ثم فلربما لقوله هذا هدف.
ايتيني به، فأخبرك بالأمر اليقين.
زادني الطبيب حيرة فوق حيرتي، وإن كان أكد الظن فصار يقينا مهيمنا على رأسي. لكنَّ المعضلة الحقة تكمن في إقناع الهاذي بالمثول بين يدي الطبيب، أو القبض عليه بالقوة-وأحسبها لن تفيد- فالقرية بكاملها ستخلصه من يدي.
لم تخفت حدة الأسئلة، وتأجج الشك داخلي مع تكرار الجملة، ورؤية الرجل صباح كل يومٍ.
فمررت بأحد مشائخ القرى المجاورة-وكان مشهورا بالصلاح والتقوى- وسألته، فأخبرني بأنها البشارة، والفوز المبين، وأن التلميح يغني عن التصريح، وكفَّ عن الحديث.
تركته بعدما لاذ بمسبحته، وسجن لسانه خلف قضبان شفتيه، عازما على فض السر بنفسي، وهتك ستائر الحيرة.
خرجت في الصباح-في موعدي المعتاد- متربصا بالرجل-لا ذاهبا إلى العمل- وعلى بعدٍ وجدته يرفع سبابته ويشير إلي: ثلة من الأولين وقليل من الآخرين.
توجهت إليه لأقطع عليه درب الفرار، كي أسأله ماذا يعني.
مرق يمينا، ثم انحرف يساراً فمر مني وأطلق ساقيه للريح...
شمرت عن ساقي- اتقاء الطين- وطرت خلفه...
من حقلٍ إلى حقلٍ، ومن درب لآخر...
أصابني التعب بشلل في ساقي، فهويتُ إلى جذع نخلة، وجلسَ..
تتصاعد الأفكار والكمائن في عقلي..
أخطط للنيل منه وحصاره...
زحفت مقتربا منه بحذرٍ.. فزحف مبتعدا...
نفضت التعب عني، واستعصمت بإرادتي ونهضتُ، فنهض.
جريت نحوه، فجرى...
عدنا إلى القرية...
هو أمامي
وأنا خلفه..
سمعت شيخ الزاوية: لا حول ولا قوة إلا بالله.. حتى أمس كان عاقلا..
والطبيب يقول: فليحضره أحدكم نعالجه ونرى مشكلته قبل أن تتفاقم.
بينما الرجل الصالح يبتسم: إنه لذو حظ عظيم، فلقد اصطفاه الشيخ.
التسميات: زاوية النقد
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية