قراءة في القصة القصيرة
بائع الأكفان يضحك أحياناً
للأديب/ محمد عبد الحكم
_____________
بائع الأكفان يضحك أحياناً
للأديب/ محمد عبد الحكم
_____________
يدلف الكاتب إلى عالمه متسلحاً بوعيه اليقظ . لينجز معمار النص من حبكة وسرد وشخصيات, ... الخ . ويظن أنه المسيطر على نصه إذ يملى أفكاره على الكاتب الضمني ( الراوي) ويوجهه . لكن الواقع أن الكاتب نفسه يخضع لعملية توجيه وإملاء خفيين من لا وعيه . فيمكن للقارىء الذكي الذي يرصد الدلالات أن يستقبل - إلى جانب الحكاية التي تمثل العمود الفقري للنص – مستوى آخر يسري في روح الحكاية طارحاً الدوافع المحركة للإبداع . فالكتابة تستهدف إلى جانب المتعة الفنية , رسالة . ويمكن استشفاف رسالة النص من رصد موقف الشخصية الرئيسية التي يمثلها الفتى المقبل على الموت . وهي رسالة تطرح موقف الإنسان الفرد الأعزل في عالم الحضارة المعاصرة التي تعطيك من الطرف اللسان حلاوة , بينما تشاركك رقصة الموت.
من مساكن الإيواء إلى أرض سلطان , والعودة خالي الوفاض . هذا هو طريق الفتي يومياً حيث يدور يبحث عن عمل . فلا يجد إلا الإهمال , والنصيحة " ابتعد عن محافظات شمال الصعيد " فلا مصانع بها , ولا موانىء , ولا سياحة .. ولا عمل .
قد يكنس محلا , أو يمسح سيارة , لكنه محروم من العمل المنتظم الذي يوفر له دخلاً . ومن الصحبة بعد موت والديه , ومن الأمن والطمأنينة تحت تهديد الجار صاحب التاكسي . ثم هو فريسة للمرض الذي ورثه عن أبويه ,
ينحاز الفتى إلى الموت , يبدو الموت هو الخيار الأفضل في ظل مناخ طارد محبط . وهو يأنس إلى بائع الأكفان , فيحكي له عن إحباطاته , وعن خيط الدم الذي يتسرب على جانب فمه أثناء النوم , ويجد من البائع صدراً رحباً , وأذناً مصغية , وعطفاً . لكن القارىء الذكي يدرك أن تعاطف البائع موجه إلى الذات أكثر مما هو موجه نحو الفتى , فالبائع الذي اعتاد زبائن جهمين , يتأبطون البؤس والحزن يأنس ويبش للفتى الذي بدا له في أول الأمر غريب الأطوار ممنياً النفس بفاصل من الترويح والبهجة المفتقدة . لكنه لا يبلبث أن تجرفه تعاسة الفتى, ليس إلى الدرجة التى يتورط فيها بحمل همومه بجدية, فهو بدلا من أن يمنحه الكفن , يشير عليه بالتوجه إلى المسجد القريب حيث تمنح الأكفان مجاناً , لكن الفتى الخائر الضعيف الذي لا يجد سلطة تحميه من بلطجة سائق التاكسي , ولا مؤسسة ترعاه ومن قبله أبويه من المرض الذي فتك بهم, ويوشك أن يورده موارد الهلاك , هذا الفتى يملك من عزة النفس والإباء ما يجعله يرفض الصدقة, يرغب في شراء الكفن الذي لا يملك ثمنه , فيوافق بائع الأكفان على أن يتقاضى بقية الثمن عملا ينجزه الفتى فيبادر إلى ملىء القلال , وكنس المحل . ويصبح موعد لقائه بالموت مع أذان المغرب بمثابة أحضان مفتوحة في مقابل الواقع المغلق الذي يحياه . يشارك بائع الأكفان الفتى في رقصته الأخيرة , وينكفىء فوقه عندما يسقط , يهدهده , وينخسه في مواضع تفجر الضحك . وهي رقصة تلخص النظرة الناقدة للمؤلف نحو مجتمع لا يعامل أفرادة بإنصاف .
قد يكنس محلا , أو يمسح سيارة , لكنه محروم من العمل المنتظم الذي يوفر له دخلاً . ومن الصحبة بعد موت والديه , ومن الأمن والطمأنينة تحت تهديد الجار صاحب التاكسي . ثم هو فريسة للمرض الذي ورثه عن أبويه ,
ينحاز الفتى إلى الموت , يبدو الموت هو الخيار الأفضل في ظل مناخ طارد محبط . وهو يأنس إلى بائع الأكفان , فيحكي له عن إحباطاته , وعن خيط الدم الذي يتسرب على جانب فمه أثناء النوم , ويجد من البائع صدراً رحباً , وأذناً مصغية , وعطفاً . لكن القارىء الذكي يدرك أن تعاطف البائع موجه إلى الذات أكثر مما هو موجه نحو الفتى , فالبائع الذي اعتاد زبائن جهمين , يتأبطون البؤس والحزن يأنس ويبش للفتى الذي بدا له في أول الأمر غريب الأطوار ممنياً النفس بفاصل من الترويح والبهجة المفتقدة . لكنه لا يبلبث أن تجرفه تعاسة الفتى, ليس إلى الدرجة التى يتورط فيها بحمل همومه بجدية, فهو بدلا من أن يمنحه الكفن , يشير عليه بالتوجه إلى المسجد القريب حيث تمنح الأكفان مجاناً , لكن الفتى الخائر الضعيف الذي لا يجد سلطة تحميه من بلطجة سائق التاكسي , ولا مؤسسة ترعاه ومن قبله أبويه من المرض الذي فتك بهم, ويوشك أن يورده موارد الهلاك , هذا الفتى يملك من عزة النفس والإباء ما يجعله يرفض الصدقة, يرغب في شراء الكفن الذي لا يملك ثمنه , فيوافق بائع الأكفان على أن يتقاضى بقية الثمن عملا ينجزه الفتى فيبادر إلى ملىء القلال , وكنس المحل . ويصبح موعد لقائه بالموت مع أذان المغرب بمثابة أحضان مفتوحة في مقابل الواقع المغلق الذي يحياه . يشارك بائع الأكفان الفتى في رقصته الأخيرة , وينكفىء فوقه عندما يسقط , يهدهده , وينخسه في مواضع تفجر الضحك . وهي رقصة تلخص النظرة الناقدة للمؤلف نحو مجتمع لا يعامل أفرادة بإنصاف .
__________________
العبارات الدالة
"يسرح ظله النحيل في مستطيل الضوء. " .. فهو واقع في بقعة الضوء دلالة على أهميته كزبون , ولكنها أهمية لا تتجاوز حدود المستطيل الذي هو مساحة محصورة .
" فكل الذين يأتون هنا حزانى ، يلفحون الأكفان تحت آباطهم ويسبحون في بحار من الدمع" .. توحي العبارة بالتقسيم الطبقي للمجتمع , ( هنا ) حيث السلعة , تجد الطبقة الرأسمالية المستريحة , و( هناك ) من حيث يأتي الآخرون , المهمشون حزانى ، يلفحون الأكفان تحت آباطهم ويسبحون في بحار من الدمع .
" وأحياناً يحس بانتفاخ في بطنه يحسبه سمنة ، ولكنه سرعان ما يزول تاركاً غثياناً وقيئاً مدمما ."
" يلتقطها من هناك من أرض سلطان ، حيث تتطاير كحمائم من شرفات المباني ، علب فارغة ملونة ، عليها صور لبنات وشباب تنضح وجوههم حمرة ، يعلنون عن زيوت ومساحيق ومأكولات طازجة ، رائحة اللحوم والمشويات ما زالت عالقة بها ، يتشممها حتى ينام ،" .. والتسمية الموحية تشي بتمتع تلك الطبقة ساكنة أرض سلطان بالقوة والنفوذ . وهي هنا قوة ونفوذ المال المتمثل في الترف الاستهلاكي المعبر عنه بالعلب الملونة . بصور البنات والشباب تنضح وجوههم بحمرة الدم دلالة الصحة . ورائحة اللحوم والمشويات , التى يكتفي الفتى بتمثلها في أحلامه , بينما يتسرب خيط الدم من رئتيه .
" ينصحونه بالأبتعاد عن محافظات شمال الصعيد ، والذهاب إلي محافظات بها مصانع وموانئ وسياحة " .. فالتقسيم الطبقي لم يشمل فقط البشر , وإنما تتمتع المدن المركزية بالخير الوفير , ومصادر الرزق , بينما الأطراف غارقة في الجهل والفقر والتخلف .
" أمضي في شوارع المدينة كفأر في متاهة "
"يهدهده وينخسه في مواضع تفجر فيه الضحك " .. تعبير عن المجتمع غير العادل الذي يمنحك من طرف اللسان حلاوة . بينما يشيعك إلى الموت مشفوعاً برقصة احتفالية , وبسعادة وهمية لا تتجاوز النخس في مواضع تثير الضحك .
__________________
ملاحظات :
إنهم يشترطون رؤية الموتى بأعينهم ، كما انهم سيعلمون انني سأموت قبل أن أدلي بصوتي في الإستفتاء ولن أنتخب مرشحهم ، ( مقحمة )
أنا لا أحب أن آخذ صدقة من أحد... ( زائدة )
تحياتي لإبداعك صديقي محمد عبد الحكم . استمتعت بقصة قصيرة جيدة .
__________
نص القصة :
بائعُ الأكفان يضحك أحيانا
لم يكن بائع الأكفان قد انتهى من رشرشة الدكان وتسوية الأكفان حتى وجده أمامه ، يسرح ظله النحيل في مستطيل الضوء ،كان مبتسماً وهو يسأله " بكم الكفن ؟ ".
قال له إجلس هنا أيها الفتى ، وراح يعرض أمامه الأكفان ( هذا كفن شرعي ، وهذا فيه زيادة يحبها بعض الناس ) .
حين وجد وجه الشاب غير راضٍ عن الثمن ، قال له انه لا يفاصل مع أحد ، ولكن سيترك من أجله عشرة جنيهات ، ثم سأله إن كان يريده " حريمي أم رجالي " ضحك الشاب وقال " أريده شبابا " ، عاد البائع إلى دهشته المصحوبة بابتسامة قلما يفعلها في دكانه ، فكل الذين يأتون هنا حزانى ، يلفحون الأكفان تحت آباطهم ويسبحون في بحار من الدمع ، كانت الشمس الداخلة من فتحة الباب قد بدأت تنسحب عن ماكينة الخياطة والأرضية المرشوشة ، فرفع الشاب قلة بجواره وراح يستعذب الماء المندلق في فمه ، قال للبائع إنه يريد كفناً له ، يريده موفورا ، فإن جسده ما زال في طورالنمو، وأحياناً يحس بانتفاخ في بطنه يحسبه سمنة ، ولكنه سرعان ما يزول تاركاً غثياناً وقيئاً مدمما .
كان البائع قد نفض يديه من كل شئ وراح يدنو منه ، يلاحظ عن قرب تهدج أنفاسه وتطوحات ذراعيه وهو يحكي عن رؤيا الليلة السابقة ، كانت مختلفة تماما ، أحس بخدر يحتويه وهو يرى أبويه قادمين من فضاء البنفسج ، هكذا كطائرين حطا فجأة وفتحا ذراعين مدّ البصر ، وقالا( تعال) ، وكان سيقترب ويلمس ويذوب في ربيع الحضن ، لولا صوت جاره وهو يدير التاكسي في عملية إحماء قبل طلوع الفجر، يضرب فوطته الصفراء بعنف على واجهة الشباك ، فتتطاير العلب الفارغة ، تلك التي يسد بها ثقوباً تزداد اتساعاً كل يوم ، فتدخل هيصة العيال وعيون المتطفلين ، يلتقطها من هناك من أرض سلطان ، حيث تتطاير كحمائم من شرفات المباني ، علب فارغة ملونة ، عليها صور لبنات وشباب تنضح وجوههم حمرة ، يعلنون عن زيوت ومساحيق ومأكولات طازجة ، رائحة اللحوم والمشويات ما زالت عالقة بها ، يتشممها حتى ينام ، وسادته بجوار النافذة ، والبنات اليقظات على العلب عيونهن لا تنغلق أبدا ، يراقبنه حتى ينام ، يتسللن إلى أحلامه ، يطاردنه بين الأزقة والدروب حتى يسقط منهكا ، تعلو أنفاسه وينتفخ بطنه ، وتزداد خبطات جاره على الشباك ككرباج يلهب الصمت ، عندها يصحو ، يجد خطي الدم المنسابين على حافتي فمه يتسربان إلى شقوق الحجرة .
صباح آخر ومشواره اليومي من مساكن الأيواء جنوباً حتى أرض سلطان شمالا ، يجوب أرجاء المدينة بحثاً عن عمل ، يسأل أصحاب المحلات ، ينصحونه بالأبتعاد عن محافظات شمال الصعيد ، والذهاب إلي محافظات بها مصانع وموانئ وسياحة ، يريد أن يقول لهم وهو واقف يهتز بلا ريح : إن لديه حجرة ورثها عن أبيه ، جاره صاحب التاكسي يريد الإستيلاء عليها ، قالها له صراحة : سأجعلك تتركها أو أميتك كمدا، أية أحبة تتحدث عنهم، لقد رأيتهم منذ كنا جيراناً هناك في(الصباحية) ، كانوا عرقى وماتوا بالمرض ، وأنت مثلهم تكاد تختفي من الهزال ، يذكره بأنه سوف يلقى مصير أبويه .. حيث تجمع المارة على أنين أب متقوس يطرش الدم من فمه ، يتلوى على الأرض الرطبة ويشخر حتى يموت ، أمه كذلك .
كان بائع الأكفان يبكي بحرقة ويلملم الشاب في وسع حضنه ، قال له إذهب إلى المسجد المجاور، فيه أكفان صدقة، ضحك الشاب بصوت مسموع، قال يا سيدي هذه الأكفان ليست للأحياء ، إنهم يشترطون رؤية الموتى بأعينهم ، كما انهم سيعلمون انني سأموت قبل أن أدلي بصوتي في الإستفتاء ولن أنتخب مرشحهم ، أنا لا أحب أن آخذ صدقة من أحد ، أبي قبل موته بأيام باع ساعته واشترى كفنا ، وأمي باعت فردة حلقها من أجل دراستي ، الأخرى اشترت بها كفناً لها ، وأنا أستند على الوجع وأبحث عن عمل ، أمضي في شوارع المدينة كفأر في متاهة ، أحياناً أجد عملاً يسيرا يناسب ضعفي ، أكنس دكاناً أو أمسح سيارة ، أداري لهاثي وتعبي ومؤهلي الدراسي وأبصق الدم من فمي ، معي جنيهات قليلة وأريد كفناً قبل مجئ الغروب ، أعرف أني سألقى والديَّ هذه الليلة ، سأنام مبكرا ، أتناسى مضايقات جاري وألماً يسرح عبر مفاصلي ودماً ينساب على حافتي فمي ، ألتقط أنفاسي الصعبة وأتكئ على شرفات الكون ، أعانق رائحة المسك ولمع النور وفضاء البنفسج وحضناً مفتوحاً بوسع المدى ، خذ يا سيدي هذه الجنيهات ، سأعمل لديك حتى تستوفي الثمن .
راح على عجل يكنس الدكان ويملأ القلال ، يتأمل عن قرب ذلك الكفن الذي وضعه الرجل في زاوية قريبة ، يرنو إليه ككأس بطولة ، يود لو يرتديه كبدلة عرس قبل مجئ الز فاف ، يتحسس ملمسه ويقبله ويعاود العمل بنشاط ، وعينه على شمس توشك أن تسقط خلف المباني البعيدة . حين سمع آذان المغرب توقف ، راح يردد خلف المؤذن بصوت إندهش له المارة ، كان صوته يعلو بالتكبير في فضاءات المدينة ، يتخطى حدود محافظات الصعيد ويجلجل بين جنبات الوطن ، لحظة
توقفت فيها كل المطارات والموانئ والمدن الصناعية والسياحية ، وتعلقت يد جاره بالفوطة قبل أن ينزلها بعنف على الشباك ، وشكلت أجساد المتعبين علامات استفهام على امتداد الطريق الصحراوي والزراعي ، من مخرج الجيزة شمالاً حتي مدينة أبو تيج جنوبا ، أدى الصلاة وراح يحتضن كفنه ويدور به ، في البداية كان بطيئا ، ثم انطلق كراقص تنورة ، وقام بائع الأكفان يحتضنه ويدور معه بين فرح ولهفة وضحك ولهاث وهالات نورانية ووقع دفوف آتية من عمق المجهول ، كان الفتى بين يديه خفيفاً كيمامة ، يوشك ان ينفلت في قبة الفضاء ، جسدان يعاندان الجاذبية ويمرحان في براح الضوء ، والمارة يتوقفون ، والفتي يسقط مترنحاً وضاحكا ، لقد انكفأ فوقه بائع الأكفان يهدهده وينخسه في مواضع تفجر فيه الضحك ، يتفرس في وجهه المبتسم ، كان ميتاً يحتضن كفنه وينطلق إلى الأحضان المفتوحة .
" فكل الذين يأتون هنا حزانى ، يلفحون الأكفان تحت آباطهم ويسبحون في بحار من الدمع" .. توحي العبارة بالتقسيم الطبقي للمجتمع , ( هنا ) حيث السلعة , تجد الطبقة الرأسمالية المستريحة , و( هناك ) من حيث يأتي الآخرون , المهمشون حزانى ، يلفحون الأكفان تحت آباطهم ويسبحون في بحار من الدمع .
" وأحياناً يحس بانتفاخ في بطنه يحسبه سمنة ، ولكنه سرعان ما يزول تاركاً غثياناً وقيئاً مدمما ."
" يلتقطها من هناك من أرض سلطان ، حيث تتطاير كحمائم من شرفات المباني ، علب فارغة ملونة ، عليها صور لبنات وشباب تنضح وجوههم حمرة ، يعلنون عن زيوت ومساحيق ومأكولات طازجة ، رائحة اللحوم والمشويات ما زالت عالقة بها ، يتشممها حتى ينام ،" .. والتسمية الموحية تشي بتمتع تلك الطبقة ساكنة أرض سلطان بالقوة والنفوذ . وهي هنا قوة ونفوذ المال المتمثل في الترف الاستهلاكي المعبر عنه بالعلب الملونة . بصور البنات والشباب تنضح وجوههم بحمرة الدم دلالة الصحة . ورائحة اللحوم والمشويات , التى يكتفي الفتى بتمثلها في أحلامه , بينما يتسرب خيط الدم من رئتيه .
" ينصحونه بالأبتعاد عن محافظات شمال الصعيد ، والذهاب إلي محافظات بها مصانع وموانئ وسياحة " .. فالتقسيم الطبقي لم يشمل فقط البشر , وإنما تتمتع المدن المركزية بالخير الوفير , ومصادر الرزق , بينما الأطراف غارقة في الجهل والفقر والتخلف .
" أمضي في شوارع المدينة كفأر في متاهة "
"يهدهده وينخسه في مواضع تفجر فيه الضحك " .. تعبير عن المجتمع غير العادل الذي يمنحك من طرف اللسان حلاوة . بينما يشيعك إلى الموت مشفوعاً برقصة احتفالية , وبسعادة وهمية لا تتجاوز النخس في مواضع تثير الضحك .
__________________
ملاحظات :
إنهم يشترطون رؤية الموتى بأعينهم ، كما انهم سيعلمون انني سأموت قبل أن أدلي بصوتي في الإستفتاء ولن أنتخب مرشحهم ، ( مقحمة )
أنا لا أحب أن آخذ صدقة من أحد... ( زائدة )
تحياتي لإبداعك صديقي محمد عبد الحكم . استمتعت بقصة قصيرة جيدة .
__________
نص القصة :
بائعُ الأكفان يضحك أحيانا
لم يكن بائع الأكفان قد انتهى من رشرشة الدكان وتسوية الأكفان حتى وجده أمامه ، يسرح ظله النحيل في مستطيل الضوء ،كان مبتسماً وهو يسأله " بكم الكفن ؟ ".
قال له إجلس هنا أيها الفتى ، وراح يعرض أمامه الأكفان ( هذا كفن شرعي ، وهذا فيه زيادة يحبها بعض الناس ) .
حين وجد وجه الشاب غير راضٍ عن الثمن ، قال له انه لا يفاصل مع أحد ، ولكن سيترك من أجله عشرة جنيهات ، ثم سأله إن كان يريده " حريمي أم رجالي " ضحك الشاب وقال " أريده شبابا " ، عاد البائع إلى دهشته المصحوبة بابتسامة قلما يفعلها في دكانه ، فكل الذين يأتون هنا حزانى ، يلفحون الأكفان تحت آباطهم ويسبحون في بحار من الدمع ، كانت الشمس الداخلة من فتحة الباب قد بدأت تنسحب عن ماكينة الخياطة والأرضية المرشوشة ، فرفع الشاب قلة بجواره وراح يستعذب الماء المندلق في فمه ، قال للبائع إنه يريد كفناً له ، يريده موفورا ، فإن جسده ما زال في طورالنمو، وأحياناً يحس بانتفاخ في بطنه يحسبه سمنة ، ولكنه سرعان ما يزول تاركاً غثياناً وقيئاً مدمما .
كان البائع قد نفض يديه من كل شئ وراح يدنو منه ، يلاحظ عن قرب تهدج أنفاسه وتطوحات ذراعيه وهو يحكي عن رؤيا الليلة السابقة ، كانت مختلفة تماما ، أحس بخدر يحتويه وهو يرى أبويه قادمين من فضاء البنفسج ، هكذا كطائرين حطا فجأة وفتحا ذراعين مدّ البصر ، وقالا( تعال) ، وكان سيقترب ويلمس ويذوب في ربيع الحضن ، لولا صوت جاره وهو يدير التاكسي في عملية إحماء قبل طلوع الفجر، يضرب فوطته الصفراء بعنف على واجهة الشباك ، فتتطاير العلب الفارغة ، تلك التي يسد بها ثقوباً تزداد اتساعاً كل يوم ، فتدخل هيصة العيال وعيون المتطفلين ، يلتقطها من هناك من أرض سلطان ، حيث تتطاير كحمائم من شرفات المباني ، علب فارغة ملونة ، عليها صور لبنات وشباب تنضح وجوههم حمرة ، يعلنون عن زيوت ومساحيق ومأكولات طازجة ، رائحة اللحوم والمشويات ما زالت عالقة بها ، يتشممها حتى ينام ، وسادته بجوار النافذة ، والبنات اليقظات على العلب عيونهن لا تنغلق أبدا ، يراقبنه حتى ينام ، يتسللن إلى أحلامه ، يطاردنه بين الأزقة والدروب حتى يسقط منهكا ، تعلو أنفاسه وينتفخ بطنه ، وتزداد خبطات جاره على الشباك ككرباج يلهب الصمت ، عندها يصحو ، يجد خطي الدم المنسابين على حافتي فمه يتسربان إلى شقوق الحجرة .
صباح آخر ومشواره اليومي من مساكن الأيواء جنوباً حتى أرض سلطان شمالا ، يجوب أرجاء المدينة بحثاً عن عمل ، يسأل أصحاب المحلات ، ينصحونه بالأبتعاد عن محافظات شمال الصعيد ، والذهاب إلي محافظات بها مصانع وموانئ وسياحة ، يريد أن يقول لهم وهو واقف يهتز بلا ريح : إن لديه حجرة ورثها عن أبيه ، جاره صاحب التاكسي يريد الإستيلاء عليها ، قالها له صراحة : سأجعلك تتركها أو أميتك كمدا، أية أحبة تتحدث عنهم، لقد رأيتهم منذ كنا جيراناً هناك في(الصباحية) ، كانوا عرقى وماتوا بالمرض ، وأنت مثلهم تكاد تختفي من الهزال ، يذكره بأنه سوف يلقى مصير أبويه .. حيث تجمع المارة على أنين أب متقوس يطرش الدم من فمه ، يتلوى على الأرض الرطبة ويشخر حتى يموت ، أمه كذلك .
كان بائع الأكفان يبكي بحرقة ويلملم الشاب في وسع حضنه ، قال له إذهب إلى المسجد المجاور، فيه أكفان صدقة، ضحك الشاب بصوت مسموع، قال يا سيدي هذه الأكفان ليست للأحياء ، إنهم يشترطون رؤية الموتى بأعينهم ، كما انهم سيعلمون انني سأموت قبل أن أدلي بصوتي في الإستفتاء ولن أنتخب مرشحهم ، أنا لا أحب أن آخذ صدقة من أحد ، أبي قبل موته بأيام باع ساعته واشترى كفنا ، وأمي باعت فردة حلقها من أجل دراستي ، الأخرى اشترت بها كفناً لها ، وأنا أستند على الوجع وأبحث عن عمل ، أمضي في شوارع المدينة كفأر في متاهة ، أحياناً أجد عملاً يسيرا يناسب ضعفي ، أكنس دكاناً أو أمسح سيارة ، أداري لهاثي وتعبي ومؤهلي الدراسي وأبصق الدم من فمي ، معي جنيهات قليلة وأريد كفناً قبل مجئ الغروب ، أعرف أني سألقى والديَّ هذه الليلة ، سأنام مبكرا ، أتناسى مضايقات جاري وألماً يسرح عبر مفاصلي ودماً ينساب على حافتي فمي ، ألتقط أنفاسي الصعبة وأتكئ على شرفات الكون ، أعانق رائحة المسك ولمع النور وفضاء البنفسج وحضناً مفتوحاً بوسع المدى ، خذ يا سيدي هذه الجنيهات ، سأعمل لديك حتى تستوفي الثمن .
راح على عجل يكنس الدكان ويملأ القلال ، يتأمل عن قرب ذلك الكفن الذي وضعه الرجل في زاوية قريبة ، يرنو إليه ككأس بطولة ، يود لو يرتديه كبدلة عرس قبل مجئ الز فاف ، يتحسس ملمسه ويقبله ويعاود العمل بنشاط ، وعينه على شمس توشك أن تسقط خلف المباني البعيدة . حين سمع آذان المغرب توقف ، راح يردد خلف المؤذن بصوت إندهش له المارة ، كان صوته يعلو بالتكبير في فضاءات المدينة ، يتخطى حدود محافظات الصعيد ويجلجل بين جنبات الوطن ، لحظة
توقفت فيها كل المطارات والموانئ والمدن الصناعية والسياحية ، وتعلقت يد جاره بالفوطة قبل أن ينزلها بعنف على الشباك ، وشكلت أجساد المتعبين علامات استفهام على امتداد الطريق الصحراوي والزراعي ، من مخرج الجيزة شمالاً حتي مدينة أبو تيج جنوبا ، أدى الصلاة وراح يحتضن كفنه ويدور به ، في البداية كان بطيئا ، ثم انطلق كراقص تنورة ، وقام بائع الأكفان يحتضنه ويدور معه بين فرح ولهفة وضحك ولهاث وهالات نورانية ووقع دفوف آتية من عمق المجهول ، كان الفتى بين يديه خفيفاً كيمامة ، يوشك ان ينفلت في قبة الفضاء ، جسدان يعاندان الجاذبية ويمرحان في براح الضوء ، والمارة يتوقفون ، والفتي يسقط مترنحاً وضاحكا ، لقد انكفأ فوقه بائع الأكفان يهدهده وينخسه في مواضع تفجر فيه الضحك ، يتفرس في وجهه المبتسم ، كان ميتاً يحتضن كفنه وينطلق إلى الأحضان المفتوحة .
التسميات: زاوية النقد
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية