قراءة في القصة القصيرة جداً .. " أربع رسائل " .. للأديب/ علي غازي
قراءة في القصة القصيرة جداً
أربع رسائل
للأديب العراقي/ علي غازي
_______________أربع رسائل
لا أعرف منذ متى بدأ الملل يتسرب الى تفاصيل حياتي. لكني متيقن من كل تلك الأمور التي دفعتني للتفكير جديا بالإنتحار. فقط، كان يجب علي أولا، أن أكتب رسالة الى أمي أخبرها أن الأمر غير متعلق بإهمالها المستمر وزواجها من هذا السمسار الكريه. وأخرى الى صديقي ليتأكد أن عزوفي عن الذهاب الى جبهات القتال لم يكن بسبب علاقاتي الخليعة. وعليه أن يتوقف فورا، عن نعتي بالحمار الأجرب وقشرة البيضة الفاسدة. وثالثة الى جناب القس، أبين له خرافية الخبر الذي سمعه حول وجود اسمي ضمن قائمة القادة الشيوعيين الذين دعوا للمظاهرات الأخيرة، وأني من أشد المؤمنين رغم خلافي مع الرب الذي لم يهتم بي أبدا للدرجة التي ظننت فيها، أنني سأكون، آخر من يفكر فيهم لإنقاذهم من هذا الجحيم.
لكن ذلك سيأخذ وقتا طويلا، جيل، أو ربما جيلان. حتى ذلك الوقت، سأكون مستعدا تماما للإختبار. فأكثر الامور التي تقلقني الآن، أن تكون كل تلك القصص التي سمعتها عن الموت... حقيقية.
علي غازي.
_____
لكن ذلك سيأخذ وقتا طويلا، جيل، أو ربما جيلان. حتى ذلك الوقت، سأكون مستعدا تماما للإختبار. فأكثر الامور التي تقلقني الآن، أن تكون كل تلك القصص التي سمعتها عن الموت... حقيقية.
علي غازي.
_____
القراءة :
عنوان القصة " أربع رسائل " , بينما لا يرى القارىء إلا ثلاث, الأم, والصديق, والقس.
والسرد بضمير المتكلم على هيئة حوار داخلي تستعرض فيه الشخصية معالم ازمتها, وعلاقتها بالأشخاص المرتبطين بتلك الأزمة.
وقد يبدو من العسير على القارىء استنتاج ماهية الرسالة الرابعة, أو الشخصية المستهدفة بها, إذ لا يكاد النص يفصح عن إشارات دالة, إلا في العبارة: " لكن ذلك سيأخذ وقتا طويلا، جيلا، أو ربما جيلين." .. فالرسائل الثلاث التي ذكرت لا يستغرق تحريرها أكثر من ساعات على أقصى تقدير .
وما يهمنا هي السمات التي أفصح عنها السياق.
يمكننا الاعتقاد بأن الراوي لم يصل إلى العمر الذي يكسبه الخبرة, أو النضج, فهو في دخيلة نفسه يدين أمه لاقترانها بالسمسار الذى وصفه بالكريه, وهي محنة نفسية نعتقد أنها شكلت أساس الأزمة النفسية. و محاولته إيهام الأم بعدم مسئوليتها عن انتحاره لا يعكس إلا رغبة دفينة في تعميق الألم الذي يتوقع أن يخلفه انتحاره لديها .
ويمكننا تخيل الحياة الماجنة العابثة لشاب بلا طموح, ولا مسئوليات, يسعى إلى تدمير الذات بالانغماس في حياة داعرة تشى بتفاصيلها العبارات التي انتوي كتابتها للصديق. ونعوت مثل الحمار الأجرب وقشرة البيضة الفاسدة, تمنحنا تصوراً عن مدى التدنى الذي تبدو عليه حياة الراوي في عين صديقه الأقرب.
ويكتشف القارىء ببساطة أن الراوي ينكر خطاياه كذباً, وأن رغبته في إيلام الصديق لا تقل عن رغبته في إيلام الأم, وتبدو العلاقة بين الراوي والصديق أكثر تعقيداً مما هي بينه وبين الأم, فإلى جانب الرغبة في إيلامه نستشعر رغبة خفية في التفوق ولو لمرة على الصديق الذي يبدو جاداً ومثالياً. وربما تبدو الرغبة في إنجاز عمل يبدو بطولياً وجريئاً في عين الصديق أشد إلحاحاً .
أما لرسالة الثالثة فهي الأهم على الإطلاق في كشف خبيئة نفس الراوي. فلا شك أن العبارة التى انتوي كتابتها للقس: " وأني من أشد المؤمنين". هي عبارة كاذبة على غرار أكاذيبه في رسالتيه للأم والصديق. وهو على الأرجح لن يقدم بصدق على الانتحار, فمراودة النفس بهذا الفعل تختلف كثيراً عن الإقدام عليه. فرغم أسلوب الخطاب الذي يعكس عدم توقير للذات الإلهية, إلا أن هذا الأمر لا يتجاوز مايحيك في النفس من ريب وشكوك لا تخرج الشخص عن طور الإيمان بالذات الإلهية, ولا بالأمور الغيبية. فنحن نرى الراوي حين يذكر القس ينعته في مونولوجه بجناب القس. وحتى لو كان تقديره الذاتي للقس مبنياً على ما يتمتع به صفات إنسانية وشخصية بعيداً عن أمور العقيدة, فجملة الختام دالة بشكل لا يقبل الشك على عدم انتمائه لطائفة الملحدين, فالملحد لا يساوره أي قلق بشأن ما بعد الموت .
وبناء على ماسبق لا أجد أهمية لضرورة استنتاج ماهية الرسالة الرابعة, فلتكن ماتكون, يمكن استنتاج عشرات الأشخاص الحقيقيين, أو الاعتباريين ممن يمكن أن يكونوا مستهدفين بتلك الرسالة, الأهم أن الإشارة إليها صنعت مناخاً من الترقب, والتشويق للقارىء. لكن النص برسائله الثلاث أحاط بالسمات الشخصية للراوي, وألقي الضوء على تفاصيل الأزمة, وطرح مسألة وجودية تتعلق بالشك والإيمان هي في ظني قاسم مشترك بين البشر على تفاوت درجات إيمانهم وتسليمهم بالغيبيات, وانتهج أسلوباً قصصياً بعيداً عن النمطية التي تسم الحكي المباشر .
محسن الطوخي
والسرد بضمير المتكلم على هيئة حوار داخلي تستعرض فيه الشخصية معالم ازمتها, وعلاقتها بالأشخاص المرتبطين بتلك الأزمة.
وقد يبدو من العسير على القارىء استنتاج ماهية الرسالة الرابعة, أو الشخصية المستهدفة بها, إذ لا يكاد النص يفصح عن إشارات دالة, إلا في العبارة: " لكن ذلك سيأخذ وقتا طويلا، جيلا، أو ربما جيلين." .. فالرسائل الثلاث التي ذكرت لا يستغرق تحريرها أكثر من ساعات على أقصى تقدير .
وما يهمنا هي السمات التي أفصح عنها السياق.
يمكننا الاعتقاد بأن الراوي لم يصل إلى العمر الذي يكسبه الخبرة, أو النضج, فهو في دخيلة نفسه يدين أمه لاقترانها بالسمسار الذى وصفه بالكريه, وهي محنة نفسية نعتقد أنها شكلت أساس الأزمة النفسية. و محاولته إيهام الأم بعدم مسئوليتها عن انتحاره لا يعكس إلا رغبة دفينة في تعميق الألم الذي يتوقع أن يخلفه انتحاره لديها .
ويمكننا تخيل الحياة الماجنة العابثة لشاب بلا طموح, ولا مسئوليات, يسعى إلى تدمير الذات بالانغماس في حياة داعرة تشى بتفاصيلها العبارات التي انتوي كتابتها للصديق. ونعوت مثل الحمار الأجرب وقشرة البيضة الفاسدة, تمنحنا تصوراً عن مدى التدنى الذي تبدو عليه حياة الراوي في عين صديقه الأقرب.
ويكتشف القارىء ببساطة أن الراوي ينكر خطاياه كذباً, وأن رغبته في إيلام الصديق لا تقل عن رغبته في إيلام الأم, وتبدو العلاقة بين الراوي والصديق أكثر تعقيداً مما هي بينه وبين الأم, فإلى جانب الرغبة في إيلامه نستشعر رغبة خفية في التفوق ولو لمرة على الصديق الذي يبدو جاداً ومثالياً. وربما تبدو الرغبة في إنجاز عمل يبدو بطولياً وجريئاً في عين الصديق أشد إلحاحاً .
أما لرسالة الثالثة فهي الأهم على الإطلاق في كشف خبيئة نفس الراوي. فلا شك أن العبارة التى انتوي كتابتها للقس: " وأني من أشد المؤمنين". هي عبارة كاذبة على غرار أكاذيبه في رسالتيه للأم والصديق. وهو على الأرجح لن يقدم بصدق على الانتحار, فمراودة النفس بهذا الفعل تختلف كثيراً عن الإقدام عليه. فرغم أسلوب الخطاب الذي يعكس عدم توقير للذات الإلهية, إلا أن هذا الأمر لا يتجاوز مايحيك في النفس من ريب وشكوك لا تخرج الشخص عن طور الإيمان بالذات الإلهية, ولا بالأمور الغيبية. فنحن نرى الراوي حين يذكر القس ينعته في مونولوجه بجناب القس. وحتى لو كان تقديره الذاتي للقس مبنياً على ما يتمتع به صفات إنسانية وشخصية بعيداً عن أمور العقيدة, فجملة الختام دالة بشكل لا يقبل الشك على عدم انتمائه لطائفة الملحدين, فالملحد لا يساوره أي قلق بشأن ما بعد الموت .
وبناء على ماسبق لا أجد أهمية لضرورة استنتاج ماهية الرسالة الرابعة, فلتكن ماتكون, يمكن استنتاج عشرات الأشخاص الحقيقيين, أو الاعتباريين ممن يمكن أن يكونوا مستهدفين بتلك الرسالة, الأهم أن الإشارة إليها صنعت مناخاً من الترقب, والتشويق للقارىء. لكن النص برسائله الثلاث أحاط بالسمات الشخصية للراوي, وألقي الضوء على تفاصيل الأزمة, وطرح مسألة وجودية تتعلق بالشك والإيمان هي في ظني قاسم مشترك بين البشر على تفاوت درجات إيمانهم وتسليمهم بالغيبيات, وانتهج أسلوباً قصصياً بعيداً عن النمطية التي تسم الحكي المباشر .
محسن الطوخي
التسميات: زاوية النقد
1 تعليقات:
من أسعد المواقف في حياة الكاتب، أن يرى اهتماما من النقاد بنصوصه. وتلك القراءة الشيقة الممتعة، من استاذي الذي رافقني في كل خطوة بالتسديد والتصويب والتشجيع، أشعرتني ليس فقط بالسعادة بل بالفخر. لذلك اقول، يصعب علي ايجاد كلمات تناسب كرمك ولطفك. ولايسعني الا ان انحني بكل تواضع وخجل في حضرتك المعطاء. شكرا لك سيدي العزيز من اعمق اعماق قلبي.
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية