السبت، 10 سبتمبر 2016

" بلا غد " .. قصة قصيرة جداً .. محمد البنا

بلا غدٍ

  قصة قصيرة جداً
للأديب الشاعر / محمد البنا

بخجلٍ شديد يدني شفتيه من أذنه هامسًا
_ الساعة داخلة على واحدة يا عم حسن، أنا مضطر ألم الكراسي 
، ربنا يصبّرك ويعوض عليك ينهض خاوىّ النفس يجر قدميه، وثلاثة أطفال يتعلقون بيديه وطرف جلبابه، يدفع بابًا خشبيًا، يدلف في خطىً ثقيلة صوب غرفته، متجاوزًا الردهة المشتركة بينه وبين جيرانه في الثلاث غرف الأخرى، يغيب داخلها، تلاحقه ظلال أطفاله، يتوارى جمعيهم خلف بابٍ خشبيٍ آخر، يشير بإصبعه إلى أكبرهم أن يتوسد فراش السرير خلفًا لأمه، ومانحًا براحًا إضافيًا لأخويه أسفل السرير.
بعطفٍ وحنوٍ طفولي يسأله: هو أنت مش هتنام يابا ؟
يجيبه دون أن يرفع إليه بصره، متحاشيًا أن يرى دموعًا لا تزال تنحدر على خديّه
_ شوية كده يا أحمد يا ابني، هأدخن نفسين وبعدين يحلّها ربنا من عنده.
يتوارى الصغيران أسفل السرير، والكبير يلتف بملاءةٍ مهترئة، يتشمم ما تبقى من رائحة أمه، ويقاوم نعاسًا لا سبيل إلى مغالبته.
يجلس عم حسن مقرفصًا داخل جلبابه، عيناه تعددان مساحاتٍ خاليةٍ من طلائها في سقف غرفته، تتهاوى نظراته التائهة منحدرةً مع دمعاته، تستقر على إسطوانةٍ حديدية في زاويةٍ من الغرفة، يغالب إبتسامة ساخرة فرضت ملامحها على شفتيه، يتذكر أهل العطفة وهم يحيطون بموظف الدولة، التي أرسلته معزيًا، وحاملًا إليه إسطوانة ملئَ، تعويضًا عن فقده لزوجته إثر صراعٍ دموي عند المستودع الحكومي، ورفضه تسليم الإسطوانة إلا بعد تسلمه لأخرى فارغة، يهمهم " والله فيهم الخير " ، يبتسم إبتسامة بلهاء مُحدثًا نفسه " وحدي دونًا عن أهل العطفة جمعيهم ، فزت اليوم بإسطوانة غاز "، يتساءل " ترى من يفوز غدًا بأخرى لقاء زوجته أو ابنٍ من ابنائه ؟ "، يتساءل " ماذا سيفعل غدًا أو بعد غدٍ عندما يأتي عم سعد مطالبًا باسترداد إسطوانته ؟ " .
ينهض، يتجه صوب الزاوية، يفتح صمام الإسطوانة، ينزع الوصلة الجلدية، يعود إلى زاويته ويجلس القرفصاء، يعبث بأصابعه داخل الجيب العلوي لجلبابه، يلتقط عقب سيجارته، تنزلق يده اليسرى داخل الجيب السفلي، يقبض على عود ثقاب، يضع السيجارة في فمه، يخالها تهمس مستنكرة " لن تستطيع إشعالي !! "، يتمتم في هدوء وثقة " عارف "، ويشعل الثقاب.





التسميات:

5 تعليقات:

في 10 سبتمبر 2016 في 8:22 ص , Blogger واحة القصة القصيرة يقول...

تعليق الأديب / اسماعيل الدباغ
نص يمس القلب ، ويتمتع بقوة ايحاء تختطف القارئ منذ البداية ، عم حسن رجل يسير إلى حتفه دون أن يصرح بذلك ، لكن وجدان القارىء يدرك ذلك بطريقة ما ، وهنا تحديدا يكمن سر النص الناجح . فالقاص البارع لايقول لك كل شيء بل يرمي لك إشارات ويترك لخيالك وإدراكك أن يكمل الباقي ، عم حسن المعدم والمسحوق يقرر أن يموت ( ربما لم يكن يدري في البداية ) بعد وفاة زوجته وهي في طابور الغاز ، لماذا ليس هو من يقف هناك ؟ .. تلك مسألة أخرى ولكنها تكفي لتؤشر من هو الجنس القوي من هو الطرف الذي يستند إليه الجميع ، العم حسن وأبناءه . إنها الأم دائما. . دون شك .. وهي الأم التي تكفي بقايا رائحتها عنصر أمان لينام الصغار .. لكنهم سيصحون غدا صباحا وهذا عبء لايقدر عليه العم حسن ولايجرؤ على التصدي له ، لقد هزمه المصاب فيلوذ إلى المقهى. . ركن الرجل التقليدي. . ربما ليتشبث بحياة كانت حتى الأمس ممكنة رغم العوز ولسان حاله يقول - أهي ماشية - وفي أعماقه يعلم أنها ماشية بوجود الأم ( المصرية خصوصا ) ، يعلم أنها حصنه العتيد والتي قد ينتقدها أو يحملها كل أوجه القصور شأنه شأن باقي رفاق المقهى الذين انفضوا الآن من حوله وتركوه يعود وحيدا إلى خيمة بلا وتد خيمة تسقط على رأسه وحده ولا تترك له غير فسحة إشعال سيجارته الأخيرة ، في عالم متوحش ، يسحق فيه عيال الله جهارا نهارا .
نص جميل ومؤلم ، يترك بصمته في الوجدان وسوال لااجابة له ، ماذا سيكون مصير الصغار ؟
شكرا لك عمنا البنا .شكرا على هذا الجمال .

 
في 10 سبتمبر 2016 في 8:24 ص , Blogger واحة القصة القصيرة يقول...

تعليق الأديب / سليمان جمعة
القص هو بناء مصنوع... خيالي.. له علاقة بالواقع ولكن باعادة تشكيله تبعا لموقف الكاتب من حدث ما... الواقع لا وجود له في النص الا كمرجعية لاحقة..
فكرة البؤس ذابت في الحدث في الشخوص... ضيق ذات اليد والتقنين في مواد التموين...حال يطرح النص اشكاليتها.. لا ليوثقها انما ليصور وقعها في نفس صاحبها من يعيشها.. فهي تعني فئة من المجنمع في كل بلد...
ظاهرة تقصير الحكومات عامة في بلداننا...
ماذا يريد النص ان يلفت الى الحال.. هل هو زمني ؟
لا.. هو يشير لكل تقصير كفكرة... الام تموت بسبب الزحمة على ذلك الاب يذهب الى الاقصى الانتحار..
الاولاد وقد مات عنهم اولياء الامر ماذا يحصل.. كتخلي المسؤولين كولاة للأمر...
هي بؤرتان اقصى البؤس واقصى التخلي...
والسياسي لصيق بالادبي والاخلاقي..
كل نص هو كذلك. لان الواقع كمرجعية مؤجلة هو سباسي وجمالي واخلاقي واقتصادي...

 
في 10 سبتمبر 2016 في 8:25 ص , Blogger واحة القصة القصيرة يقول...

تعليق الأديب / مصطفى بلعوام
تميز النص بلغة مركّزة جدا تحايث الحدث وترسم فضاء قصصيا له كل السيمات الأدبية بدء من الاستهلال حتى النهاية . الكلمات الموظفة تتوزع بين مستويين من حقل الدلالة يخلقان مفارقة جد مربكة تخدم نسيج الحبكة : كلمات تتميز ببلاغة الحب في عالم الفجيعة. وهذا يعطينا مشهدية موزعة بين الحضور والغياب، في قالب يجعل من حضور الأب والأبن وغياب الأم يرسمان دراما الحياة في علاقتهما بالمجهول ( x) .
كنت أتمنى ألا يكون عنوان النص بهذه المباشرة التي تقول كل شيء قبل أن نقرأه.
أعجبني النص جدا ...
تاريخنا العربي مزدهر بسلطة المنع والحضر والقمع باسم الدفاع عن الوطن :
- تلك الرائحة
- السكن في الأدوار العليا
- الخبز الحافي
والأمثلة كثيرة وكثيرة جدا
نصك أستاذ محمد البنّا له قيمة أدبية واضحة..

 
في 10 سبتمبر 2016 في 8:27 ص , Blogger واحة القصة القصيرة يقول...

تعليق الأديب / عبد السلام هلال
النص في إطار عرض هم شخصي جدا عرج على مشاكل حياتية يومية يمكن أن تكون موجودة في بيوت كثيرة من بيوت فقراء الوطن .. وهنا أشير إلى لفتة رائعة ضمنها الكاتب ثنايا القصة تكاد تكون أهم من الحدث الأساسي للقصة وهي حالة البؤس الشديدة التي يعانيها عدد رهيب من الناس وتتمثل في السكن في بيت مشرك بغرفة واحدة فنجد أن أسرة كاملة تعيش فيها مع حمام مشترك لأربع أسر .. وأيضا حالة الغرفة نفسها والأثاث الموجود بها وكيفية تكيف الغلابة مع حالهم .. هي لفتة رائعة جدا كانت تحتاج لرسم الصورة بطريقة أكثر تفصيلا وتكثيفا .. بالمجمل القصة تلقي الضوء على هؤلاء المهمشين الذين قد لا يراهم كثير من الناس إطلاقا إلا وقت الملامسة الحقيقية لأحوالهم على الطبيعة .. دام قلمك المبدع يا عمنا .

 
في 10 سبتمبر 2016 في 8:28 ص , Blogger واحة القصة القصيرة يقول...

لقطة إنسانية تعكس حال الفقراء والمهمشين, أبدع صديقي البنا في نص قصصي جيد . القراءات الثلاث لأصدقائي اسماعيل الدباغ , وسليمان جمعة, ومصطفي بلعوام ألقت ضوءاً كافياً على النص من زوايا مختلفة .أشار الدباغ إلى مهارة التضمين فيما يتعلق بصفات الشخص الملحمي الذي يساق إلى حتفه بشكل قدري تفرضه عوامل خارجية لا قدرة له على مجابهتها , وأيضاً في تضمين الدور الحيوي الذي تلعبه المرأة في الأسر الكادحة, والذي يمثل وتد الخيمة . وتناول صديقي سليمان الواقع كمرجعية لما هو سياسي وجمالي, وأخلاقي, واقتصادي, فالواقع الذي أشار إليه الصديق صابر لا وجود له في النص إلا كمرجعية , ففكرة البؤس متجاوزة للحدود الإقليمية, وليست مقصورة على مجتمع بذاته. ومحاولة تسييس النص الأدبي, بإسقاطه على واقع محدود ببقعة جغرافية أراه تعسفاً, خاصة أن المكان في النص جاء عمومياً متسامياً على الجغرافيا, لا يرتبط إلا بسمات عامة نلحظها في كل البيئات الفقيرة المهمشة. ولو كان خيال القارىء قد أسقط النص على شريحة يعرفها, ويعايشها, فهذا نجاح للنص لا يستوجب أن أسقط بشكل عكسى الواقع على النص.
وبين صديقي المصطفي دراما الحياة في النص والتي يلخصها توزع عنصري المشهد بين الغياب والحضور, وعلاقتهما بالمصير المجهول للأسرة التي نكبت لأسباب أخفق الأب في التواؤم معها .
إلا أني على مهارة النص في تكثيف التجربة , وجدت الفقرة التالية مقحمة , ومعترضة لتدفق التجربة .. " يبتسم إبتسامة بلهاء مُحدثًا نفسه " وحدي دونًا عن أهل العطفة جمعيهم ، فزت اليوم بإسطوانة غاز " ، يتساءل " ترى من يفوز غدًا بأخرى لقاء زوجته أو ابنٍ من ابنائه ؟ " ، يتساءل " ماذا سيفعل غدًا أو بعد غدٍ عندما يأتي عم سعد مطالبًا باسترداد إسطوانته ؟ " ." .. فالفقرة بأكملها تحصيل حاصل , وكل ماورد فيها من تداعيات نفسية للشخصية يدركه المتلقي, وأضعافه, من السياق السابق . وغياب الفقرة لا يؤثر في اكتمال التجربة. كذلك التقاط الشخص لعقب سيجارته, وحديث السيجارة المتخيل, أراه يحتاج إلى مراجعة , فعم " حسن " منذ نهض من جلسته القرفصاء, واتجه صوب اسطوانة الغاز كان قد عقد النية على أمر واضح . وهو في ظني فعل عبثي دفعه إليه اليأس. فقد قرر أن يدمر نفسه وأولاده. وهو يبدو كفعل عبثي لأنه لا يرقي إلى الفعل المتوقع " عليّ وعلى أعدائي " .. فالحريق الذي سينشب إثر اشتعال عود الثقاب لن يتجاوز تدمير الذات. بينما كنت أرى أن ينصب الغضب على ماهو خارج الذات.
العبارة " وحاملًا إليه إسطوانة ملئَ " .. إن كان المقصود من لفظ " ملئَ " وصف الاسطوانة بالامتلاء , فتكتب " ملأى " .

 

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية