صومعة من كريستال . قصة قصيرة جداً . أمنية الجنابي
قراة في القصة القصيرة جداً
صومعة من كريستال
للأديبة/ أمنية الجنابي
صومعةٌ من كريستال
كان يوماً رائعاً ذاك هو اليوم؛ فقد تحققت كلُ الأماني فيه وبدون أي مجهودٍ أو تعبٍ يذكران.
أخذتُ البطولة في سباق الماراثون الذي تعودتُ على الاشتراك فيه كل عام، وحصلتُ على رسالة الدكتوراه والتي فشلتُ في مناقشتها لثلاث مراتٍ متتالية.
ابنتي في الثلاثين، ولكن خاطباً تقدم لها وستتزوج عما قريب( قولوا انشالله).
زوجتي البخيلة ( والتي ما فتئتُ أنعتها بالكريهة) ستطبخ لنا اللحم كل يوم؛ وستغير ستائر جدتها في صالوننا الأثريّ.
أقسم لكم أنها ليست حلماً، ودعوني أكمل لكم. فجارتي الشقراء لم تعد ترتقي السلم لنشر الغسيل، ولكن لتشبعني قبلاً وهياماً فقدتها بعد سنة من زواجي ( أحب أن أخبركم أنها أرملةٌ مجنونة، ولكنها كانت تتمنع). وأيضا أنا سأصارحها بأنّي انتصرتُ على نوبة الذبحة الصدرية والتي ستكون بكل تأكيد.
لم أخبركم أني سأحصل على مقعدٍ في البرلمان، وربنا أترقي لمنصب وزيرٍ غير منافقٍ ولا سارق.
لم يعهد أحدٌ عليّ الكذب يوما ما، ولكن هذا كله سيحصل قريبا وبتواريخ مضبوطة.
أنا لم أكّذبها، ولا ولن أكّذبها، فالسبب لا يكمن في دراهمي المعدودة التي حصلت عليها مني؛ ولكن السبب أن الفنجان كان مصنوعاً من ذلك الكريستال الفاخر، وقد ورثته عن جدة جدتها، ولازالت تحتفظ به.
لن ألوم زوجتي على اصرارها على عدم تغيير ستائر جدتها، فالأصالةُ قد تُحدث أموراً مهمة جدا..... وكثيرة.
أمنية الجنابي
_________
القراءة:
الصدق الفني من أهم الأمور التي تخلق رباطاً بين النص والمتلقي, ويتوفر الصدق الفني بعنصرين. الكتابة عما نعرف. والمعايشة اللصيقة التي تصل إلى حد التقمص للشخصية القصصية.والسرد في النص الجميل على لسان الراوي بضمير المخاطب, وهو من الضمائر التى نادراً ماتستخدم في السرد القصصي, حيث يحتاج لبراعة وتمكن من اللغة يوفران للكاتب بسط عناصر المكان والزمان والسمات النفسية للشخصية دون الوقوع في المباشرة, والملاحظة السلبية الوحيدة فيما يتعلق بضمير المخاطب رأيتها في الحرص على تأكيد مظاهر الخطاب بعبارات مثل " أقسم لكم " و " دعوني أكمل لكم " و " أحب أن أخبركم " .
وتبدو البراعة في قدرة النص على رسم سمات الشخصية بدقة دون أن يتطرق الراوي إلى الحديث عن نفسه, بل انصب كل حديثه على من يخالطونه, ويحتكون به, ويؤثرون في حياته, كالزوجة, الإبنة, الجارة, الجدة, وقارئة الفنجان. بل يعد أضعف ما في القصة هو الجملة التي تحدث فيها عن نفسه بعبارة : " لم يعهد أحدٌ عليّ الكذب يوما ما".
والواقع أني فتنت بالشخصية على رداءتها من حيث التقييم الأخلاقي, فالراوي شخص محبط, لأن الريح لم تأت كما كان يشتهي. ولأنه كما يبدو من السياق شخص خامل, محدود القدرات, فهو يشترك في سباق الماراثون كل عام حتى أشرف على الخمسين دون أن يحقق أمنيته بالفوز, وفشل في مناقشة رسالة الدكتوراة لثلاث مرات متتالية.
ويؤكد خطاب الراوي الفارق الاجتماعي بينه وبين الزوجة في عبارات مثل " ستائر جدتها في صالوننا الأثريّ. " .. و " الفنجان كان مصنوعاً من ذلك الكريستال الفاخر، وقد ورثته عن جدة جدتها". والحضور الطاغي في خطاب الراوي لمظاهر عراقة أسرة الزوجة, في مقابل الإغفال التام لذكر أي معلومات عن أسرته يدعونا إلى الظن بأنه من أسرة فقيرة متواضعة. كما يدعونا تكرار الإشارة إلى بخل الزوجة إلى الظن بأنه ماأقدم على الاقتران بها إلا لمالها, ولذلك نظن أيضاً أن اجتماع خيبة الأمل في كرم الزوجة, مع قصور الهمة قد دفعا الراوي إلى السقوط فريسة لحالة نفسية تسيطر عليه فيها الأوهام. كأنه يسعي إلى تعويض إخفاقاته عن طريق الأحلام .
والجميل في النص أنه يصنع حالة شبه سحرية تخلط الأوهام, والتصورات بسياق السرد الواقعي. بالإضافة إلى قدرة الكاتبة على الاحتفاظ بتماسك الشخصية رغم الخلط, والتضارب الذي يميزها نتيجة وقوعها فريسة للأوهام, وسعيها إلى اختلاق حالة نفسية متوازنة بتضخيم حجم الأوهام, وإقصاء عوامل الإحباط, فهو يصر على أن يؤكد لنفسه صدق العرافة قارئة الفنجان في كل ماساقته له من بشائر نجاحات قادمة, والسحرية في السرد تبدو في قمتها في ظاهرة خلط الأمنيات الكبيرة, بالرغبات البسيطة, فالراوي في خطابه يساوي بين حصوله على الدكتوراة وزواج ابنته العانس, وبين موافقة الزوجة على تغيير ستائر الصالون, والصدق الفني في السرد الذي أشرت إليه هو مايجعل ذلك منطقياً ومقبولاً لدى القارىء, فلولا البراعة في رسم سمات الراوي, لما بدا ذلك مقنعاً.
ومظاهر خداع الذات لدي الراوي تبدو جلية في إصراره على إيجاد المبررات التي تؤكد صدق العرافة, رغم أن التجربة أثبتت العكس. فالزوجة أصرت على عدم تغيير الستائر, فانظر الحيلة النفسية المراوغة التى استخدمها الراوي للحفاظ على تماسكه النفسي, إنه يجد المبرر في في اشتراك الستائر القديمة مع الفنجان في الأصالة. فلأجل اعتقادة بأن عراقة الفنجان تستبعد فساد الرؤي الصادرة عنه, فإنه يقبل إصرار الزوجة على الاحتفاظ بالستائر " فالأصالةُ قد تُحدث أموراً مهمة جدا..... وكثيرة."
نص ممتع , وجميل, وبارع. تحياتي لك صديقتي العزيزة أمنية الجنابي .
محسن الطوخي
التسميات: زاوية النقد
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية