النداهة والمعتوه.. قصة قصيرة
النداهة والمعتوه
قصة قصيرة
الأديب/ صالح هشام
المغرب
![]() |
صالح هشام |
تتسرب روائح الدم الساخن ذلك المساء، من شقوق وفتحات الباب الخلفي لحظيرة الخراف والعجول، تدغدغ أنوف الكلاب الضالة، تفتح شهيتها، فيسيل لعابها، و تبدأ لتوها تتوافد عبر المسارب والممرات: نسور جائعة تجذبها رائحة الجيفة، تحتشد في فوضى الهرير و الأنين المكتوم و النباح المتقطع.
يخرج الأجير وهو في نوبة غضب، يحزم تلابيبه ويحكم ربطها على ردفيه، يلوح بعصا طويلة بارزة النتوءات في الهواء متوعدا، تفر مذعورة، وتقعى في صف عسكري مرتب غير بعيد عن باب الحظيرة، لا تتوقف عن الحركة، وبصبصتها لا تنقطع. يبتلعه باب الحظيرة، تعود الكلاب من جديد، تستفز بعضها البعض، تغوص ثانية في المناوشات، في فوضى الهرير ومعركة القواطع الدامية.
أمر ما عظيم سيحدث هذه الليلة في الدار الكبيرة، تفوح رائحته من ثنايا شقوق حيطان الحظيرة المتهالكة، الكلاب تتوقعه كما تتوقع حدوث الزلازل, لعقات دم لتوه بدأ يتكوم على نفسه في مسرح الجريمة ،قليل من الفتات وبعض العظيمات تشحذ براثن الجوع لتقطع أمعاءها. إذا لم يكن هذا الأمر كذلك فما الداعي لجز كل هذه الرؤوس.
الأجير مفتول العضلات من القفا إلى الساقين ، يجرد العجل الضخم من جلده بلمح البرق كما لو جرد فأرا: جلاد ماهر للخراف والعجول السمينة ،خبرته تفوق المقصلة الكهربائية والمسلخة العصرية.
امرأة، بهكنة خمسينية، قوية البنية مكتنزة الردفين تلوح على وجهها علامات جمال باهت قديم: رسوم أطلال نجعة عفت عنها الديار. تقتلع خطواتها بصعوبة ملحوظة وتجر جسمها: ذهابا وايابا من بيت الحريم إلى الحظيرة :ذبابة خضراء تقتحم أفواه أموات مفتوحة ، تتفقد عملية تقطيع اللحم ،تنهر الأجير الذي يخطيء مقاسات القطع:
- إيش هذا يا عريض القفا . ليس هكذا يقطع اللحم ، اللحمة تأخذ نصيبها من العظم، أتريد أن ياكل الواحد اللحم والآخر يمتص العظم ؟! أ تريد أن تعفر وجه سيدك الحاج في التراب وتجعله مضغة تلوكها الأفواه ،وتوقض علينا أعشاش الزنابير ؟!
بلورات زجاجية براقة كبيرة تمسح جغرافية جبينها ! بكم قفطانها الخريفي المزركش، الناصع الألوان تمسحها ! هيئتها تشي بمكانتها في الدار الكبيرة ،إنها سيدة الحل والعقد ، إنها أم مولاي السلطان : ذلك الأرعن المعتوه ، يعتبره الحاج نقمة إلهية ،يقبل ظاهر اليد والراحة ويحمد الله حمدا كثيرا مرددا : (يرزق من يشاء ذكورا ويرزق من يشاء إناثا ويجعل من يشاء عقيما ).
الذبائح وفوضى الدم لم تحرك فيه شعرة واحدة ! لم تكن تعني له شيئا ،يتجاهل عقد قرانه بعويشة ، فهو بليد، غليظ الطبع ،كل رباعية القوائم : عجل أو عجلة في عرفه المخبول، يفرق بينهما برفع الذيل.ما دام كذلك لماذا أقحموه في هذا القفص ؟! لماذا يريدون شل حركته ؟! بنت الأجير تعرف جيدا سوق النساء وتحفظ حكمة عبد الرحمان المجدوب عن ظهر قلب :
سوق النساء سوق مطيار ~~~~~~يا الداخل رد بالك ○
يوريوك من الربح قنطار ~~~~~~ويديو لك راس مالك○
خبيرة كذلك بسوق الرجال تقرأ فراساتهم وتحق طباعهم وسلوكهم .
روضها غول المدينة: لبوءة شرسة في عالم الضباع والسباع ، خادمة بيوت قبل ان تتحسس نتؤات صدرها، وتشم روائح ابطها ، دماغها يزن دماغه عشرات المرات. لم يكن كبير القوم مقتنعا بأهلية هذا المعتوه، على مضض يراهن فيه على استمرارية مشيخة القبيلة في( الدار الكبيرة )، كيف لا وهو الولد البكر الكبير لكبير القوم ؟! وسيرث مقاليد مسؤولية قرية بأكملها عاجلا او آجلا !!
القدور فوهات براكين نشطة تغلي حممها، فوق نار تخبو تحت رحمة كير مثقوب :
روائح الزعفران و التوابل، واللحم الطازج، يحملها البخار المتصاعد، روائح طيبة لا تخرج إلا من (الدار الكبيرة ) تبشر بشبع هؤلاء البسطاء حتى التخمة. اللحم من علامات الترف : ضيف ،خفيف الظل يزور مطابخ بيوتهم في أحسن الأحوال كل أسبوع .ربوا صغارهم على أنه سبب في انتشار القمل ، إنه استلهام من حكاية القط واللحم المعلق : قلة الحيلة و ذات اليد ، والفقر، يعلم القناعة !
المعتوه خارج الدائرة ! بنت الأجير ، تستصغره وما أقسى استصغار المرأة للرجل؟! مكرهة ترضخ لمشيئة أبيها الذي يمسح دونيته بتلابيب كبير القوم ! مصاهرة الكبير ترفعه إلى مراتب أعيان القرية ! عويشة تؤمن بأن المال لا يصنع الرجال ،المال صنيع الرجال . ارتباطها بهذا المعتوه موت بطيء ، عريس مزيف لزفاف مزيف : قلوب تمكن منها الزيف وتاجرت في الأعراض والمصائر . أما المعتوه فلم تكن تعني له شيئا : أنثى كسائر إناث الدنيا ! فخاخه وقطعان القطط تشغله عن التفكير أصلا في الأنثى ، كان اتجاهها ثلجي الإحساس.
وقته يمتصه نصب الفخاخ، وسعفة النخيل تمحو آثار أقدامه جيئة وذهابا، آثاره المرسومة تنفر العصافير من تلك الدودة الشحمية الثلجية، التي يستخرجها من أعماق الأرض بعد جهد جهيد وطول عناء. مخ هذا المعتوه ببيضة حمامة ،جمجمته وعاء ماء ، يعج بالحشرات :عقل جعلة أو حشرة مضيئة .من سوء حظه أن ذوي الأدمغة المترهلة ،والنظرة المحدودة يستحسنون مشيخته~ المستقبلية .وأخذه بزمام أمورهم فهو بكر الحاج كبير القوم.
قبيل الغروب، قبل أن يحمر اصفرار الشمس وتتورد وجنتاها، تغص ( الدار الكبيرة) بطيور البطريق في أبهى حللها التقليدية ، تتدحرج من مختلف جهات القرية ! تتبادل قبلات مزيفة خارج القلب، ممزوجة بضحكات صفراء، مبطنة بنفاق مفضوح ، تنحني الرؤوس إلى الركب، لكبير القوم وتبالغ في الانحناء تتملق خيراته، تتمسك الأنوف بتلابيب الهواء، تبحت عن ضالتها قرب مذبحة الحضيرة تقتحم القذور التي تفوح منها الروائح الطيبة. تلتصق العيون بالأرض، تتظاهر بالخجل المفتعل، فهم ليسوا بعيدين عن حريم سيد القوم.
تمة أسراب أخرى من البجع تسيل فوق منحدرات أراضي الجموع ، التي تحضن الدار الكبيرة، كان الحاج والد الحاج كبير القوم قد ترامى عليها وسيجها بسياج من النار والحديد، فأصبحت تنتقل من حاج الى حاج ، ضا ع حق ذوي الحقوق تحت أقدام الحجاج جيلا بعدجيل.
تضيع قبلات البجعات في الهواء، تتجرأ إحداهن على صاحبة الحل والعقد وتسأل بمكر و وقاحة واضحة :
-أين مولاي السلطان، يا أم مولاي السلطان ؟!
تقرأ أم السلطان فراسة السائلة وتتجاهل سؤالها .
تجيب أخرى والابتسامة الماكرة تمسح جغرافية تجاعيدها، ترتسم عريضة على وجهها ممزوجة بروائح الثوم والتوابل وبراز طفلها الذي لم يحول بعد :
-السلطان يا غبية منشغل بصيد العصافير، آثار أقدامه تمحوها سعفة النخيل التي لا تفارق يده ! نهاره كله بين المرجة الزرقاء و مخبئه تحت أكوام التبن .يلج الأسود في عمق الأبيض: يقصد مولاي السلطان مخازن القمح ، صيد الجرذان هناك وفير، قطعان القطط تنتظر ما سيجود به عليها !
تسري ضحكات مكتومة بينهن ،يتخللها سعال مفتعل لإضعاف تأثيرها في نفسية أم السلطان خوفا من ردة فعلها القاسية .
تلذغها عاقلتهن من فخذها بظفر كشولة عقرب هائج وتهمس في أذنها:
-لسانك ! لسانك ! يا بليدة، ضعيه في الحنك ! احكمي رباطه: قريبات مولاي السلطان يتجسسن عليكن، اصمتي يا امرأة !
تظاهرن بالفرح: زغرودة قوية تصم الآدان، تتبعها ركزة لأرداف ثقيلة على القعدة تثير النقع فوق الرؤوس، خشخشة الحلي والجواهر تعزف أنشودة التباهي، تتبادل الأرداف الرقص على القعدة. ويشتعل التحدي وإظهار المهارات وإبراز المفاتن. يتحول بيت الحريم في (الدار الكبيرة) إلى فوضى موسيقية مرتبة من حيث الإيقاع، نشاز من حيث الكلمات. تلوح طلائع موكب العروس تحفها الأهازيج الشعبية المحمومة بين أهل العروس والعريس:
-آ عويشة يا المرضية ~~~~~~~زين الرجال ديتيه انتيا !*
-آ عويشة يا المرضية ~~~~~~~بنت الرجال المحضية !*
محاطة بحاشية متنافرة من صديقات وبنات عمومة وقرينات. حلم هذا اليوم يذغذغ خيال العانسات منهن والمراهقات وحتى المطلقات. طفلات صغيرات جميلات نقيات طاهرات ، ينثرن تحت أقدامها مسحوق الورد والحناء، الورد يجلب الحظ والحناء تجلب المال والبنات والبنين .
تقتلع العروس نفسها من عقدة مستواها الاجتماعي. تجلس على عرش مملكتها في شموخ وإباء. و يستمر الرقص على القعدة ممزوجا بالثرثرة وصراخ الأطفال في ظهور أمهاتهن غير المباليات.
تدخل أم مولاي السلطان متأففة، تضع خلطة الحناء و القرنفل على صدغيها ،تتضوع منها رائحة تقليدية طيبة، تحس بصداع حاد يعتصر رأسها من القفا إلى الناصية، لم تحتمل رؤية الأجير يقطع رؤوس العجول أمام عينيها. على مضض ترحب ترحيبا باردا بهذا السرب من النساء الثقيلات الظل،المنافقات، فور رؤيتها يبدأن في ذكر خصال العريس في سخرية تستنبط من سياق كلامهن ويتملقن أم السلطان .
-آ عويشة آ المرضية ~~~~ سيد الرجال ديته انتيا.
تهمس إحداهن في أذن أم العروس، تلتمس إشعال فتيل الفتنة :
- ما هذا العريس. إما مخبول ومعتوه أو أنه لا يرضى بابنتكم : حتى في ليلة الدخلة يشغله صيد الجرذان والعصافير. هذا لعب أطفال وليس زواجا.
وحيدة على عرش مملكتها توزع النظرات ومن حين لآاخر القبلات المصطنعة عبر الأثير وقلبها يكاد ينفطر ! به، بدونه سيان: زنوبيا حكمت تدمر بدون ملك ! وبلقيس حكمت سبأ بدون ملك ! امرأة حكمت مصر!التاريخ حافل بالملكات بدون ملوك. عويشة قمحية السحنة لا تقل أهمية عن سمرة زنوبيا . أو تقل شبقية عنها. هي أيضا لن تحتاج إلى هذا السلطان المعتوه، الذي يحكم مملكة القطط والكلاب الضالة.
اقتفى والده أثره، أخرجه من مخبئه تحت أكوام التبن ،أحضره إلى بيت العروس، أقحمه فيه وأغلق الباب بإحكام وهو يضرب فخذيه وينذب حظه العاثر: فالمشيخة, أصبحت في كف عفريت. ألصق المعتوه عينيه بالأرض وبحذر شديد بدأ يسرق النظر إليها وهي تتلاعب بخصلات شعرها الأشعث في تبرج العروس، ترتسم على شفتيها ابتسامة لا تخلو من شبقية، يهدأ روعه شيئا فشيئا ،يقترب منها حتى تعانق أنفاسه أنفاسها، يركل قلبه في صدره ، ولم يكن ينظر إليها ،عويشة أكثر جرأة منه تعبد أمامه الطريق بحركاتها وتجعل الممر سالكا، يحس بانتفاخ يجذبه إليها، يقترب منها، يدس أنفه في مهوى قرطها ولهاثه يسمع خارج البيت: قبلة سريعة، يشعر بارتعاش لذيذ: انفجار ساخن. يعض على شفتيه. امرأة بصوت رخيم تناديه باسمه عبر فتحة الباب الموصد بإحكام ، تصم أذنيه ، تسري قشعريرة باردة في جسمه، يحس بالبلل يغمره من رأسه إلى أخمص قدميه ،يقفز مذعوراً من النافدة، يسابق الفراغ، ويمتصه جنح الليل وهو يصرخ ويصرخ: النداهة . النداهة . النداهة, يعانق أشجار الدفلة الكثيفة ،شيء ما هناك :
شبح امرأة ، ربما عروس البحر، أو عروس النهر، أو عروس البر: لم يكن يشعربشيء ،كان مسلوب الإرادة: مومياء متخشبة بدون روح ،يغوص ذلك الشيء المتحول في ماء المرجة الزرقاء الضحلة وهو يردد بصوت مسموع، مفضوح يدغدغ طبلة الأذن:
-" يوما ما ستكون لي وحدي " ! " ستكون لي وحدي "! ستكو ٠٠٠ستكو٠٠٠ويضمحل ذلك الصوت ويتلاشى وتستوي صفحة الماء، تنعكس عليها هالة القمر.
~~~~~~
*من الأهازيج الشعبية .
○من حكم عبد الرحمان المجدوب من حكماء المغرب .
المشيخة: هي العمودية
القعدة: اداة شعبية للرقص
النداهة:
صالح هشام
التسميات: قصة قصيرة
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية