الثلاثاء، 4 أكتوبر 2016

خمس قصص قصيرة .. محمود عودة

خمس قصص قصيرة
الأديب/ محمود عودة
فلسطين

محمود عودة


أحلام

ضاهت أحلامه عنان السماء، لن يعمل سائق أجرة لدى الغير,
تناسى مايثقل كاهله من ديون مقسطة، فقد امتلك سيارة.
غمرت فرحته وسعادته أفراد أسرته التي باركت مهللة، ازدحمت السيارة
بأفراد الأسرة العشرة، انطلق بهم وبفرحهم وسرورهم يجوب المدينة وأصواتهم تصدح
بأغاني المرح والبهجة.  وقف على ربوة عاليه تحيط بها الربوع الخضراء وقرص الشمس
الأحمر يميل إلى الغروب، هبط الجميع يتراقصون ويركضون بين اشجار الزيتون، ينظر
إليهم بفخر واعتزاز إلى شفاههم المبتسمة ويستمتع قهقهات ضحكاتهم، اندمج معهم في لهوهم، لم يأبه نظرات مجموعة المستوطين الحاقده، سرقتهم نشوة الفرح، باختفاء ضوء النهار خلف ستائر
الدجى، مضى وقت السعادة سريعاً، تلاشت الفرحة وعبست الوجوه أما واجهة السيارة المهشمة، ركبوا
السيارة بدموع الحزن التي انهالت كمطر الشتاء، اختلط عويلهم بصوت كركعة الأجزاء المحطمة، داخل البيت انكفأوا على وجوهم العابسة، جافت عيونه النوم وفكره يسرح بعيداً في إصلاح السيارة وتكلفتها، انهت أحلامه و آماله، أيقظه من أفكاره المتسارعة طرق شديد يكاد يحطم باب البيت، ركض مهرولاً يفتح الباب صرخ بأعلى صوته في مجموعة الجنود الصهاينة، أنا لم أدهس أحد، سيارتي التي تحطمت بأيد حاقدة، قاوم أياديهم وهي تقبض عليه بقوة، تمرد لوح بيديه، انهارت مقاومته أمام تكاثرهم، جرجروه إلى سيارة عسكرية وسط نواح الأسرة وتكفل ونش بجر السيارة المهشمة. 


إصرار


قد يصنع الإنسان قدره بيده أو تتكالب عليه مثالب الدهر فتقهر إرادته
فترديه في سراديب المجهول، هذا ما حدث مع شمعة التي عاشت حياتها
لاجئة فلسطينية متنقلة عبر مسافات الشتات مع أسرتها منذ ولادتها حتى
زواجها مستقرة مع زوجها في غزة تتقاسم معه هموم الحياة اليومية والمعاناة
التي تعتصر أسرة لم تثمر كينونتها بهجة الحياة الأسرية .
تدثرت حياتهما الأسرية الجديدة بالسعادة والهناء ناسية أو متناسية عدم الآنجاب
وانغمسا في أعمالهما كل في مجاله غير عابئين بعيون الحساد أحيانا والمشفقين
أحيانا أخرى، كانت المفاجأة التي قسمت ظهر بعير الشعب الفلسطيني
غزة بحكومتها ورام الله بأخرى مما أربك حياة الشعب وخاصة الموظفين الذين
دخلوا صراع نفسي رهيب بين العمل مع الحكومة الجديدة في غزة مما يغضب
الحكومة الأخرى المتحكمة في رواتبهم وقوتهم اليومي مما اضطر عدد كبير
منهم إلى عدم التعاون مع الوضع الجديد في غزة وترك أعمالهم والجلوس في بيوتهم
أمام المضايقات التعسفية من مسئوليهم الجدد وتحقيرهم وإلقاء شتى الألقاب البذيئة
عليهم واتهامهم بالكفر والخيانة .
كانت شمعة أحد هؤلاء الموظفين المضطهدين وقررت بإرادتها تشكيل حياتها واستغلت
فراغها بالدراسة الجامعية متناسية مؤهلها المتوسط الذي تعمل به وبمثابرتها تمكنت من
الحصول على الشهادة الجامعية بتقدير مما شجعها إلى الدراسات العليا, وانتقلت مع زوجها
وانهمكت في دراستها وأقلقلها وأرهقها الروتين القاتل والممل الذي يتطلب حصولها من البلد
المضيف على موافقة أمنية لاستمرارها في الدراسة بالشكل الرسمي, ولم تصل الموافقة رغم
قرب انتهاء عامها الدراسي الأول, ووجدت نفسها محشورة بين ضلفتي باب حديدي لا تقوى
على فتح احدها لتتفادى الانزلاق في المشاكل رتبت وضعها وبمساعدة زوجها على صرف
راتبها ببطاقة الصراف لتتدبر أمورها الحياتية والدراسية بلا مظلة واقية من أمطار الروتين الرسمية
في البلد المضيف وباتت في حيرة وقلق فلا تستطيع العودة إلى غزة بدون أوراق رسمية ولا ترك
الدراسة رغم ما عانىته من فقد احد أفراد أسرتها دون تواجدها وتحاملت وصبرت حتى جاءت
الطامة الكبرى بقرار جائر بوقف صرف الراتب من خارج الوطن , تاهت في صحراء قاحلة
تغرق في بحر رمال الروتين المتحركة لتبتلعها وتبتلع أمالها ومجهودها الدراسي ولم تجد أمامها
من سبيل سوى التعلق بحبل المغامرة المرعبة لإنقاذ مصدر رزقها مع رغبتها الملحة لاستمرار
مجهودها الدراسي ، اصطدمت بصخرة الروتين بضرورة البقاء خارج بلدها ثماني شهور
متتالية حتى يتعرف بشهادتها الدراسية ، برقت في ذهنها ومضت المغامرة والمخاطرة الجسيمة
لقهر الروتين والسفر بالطريق الصعب والممخض بالرعب والغير مشروع لتمخر عباب الصحراء
وذئاب الليل البهيم عبر نفق بجسد مرتعش وأرجل متصلبة يحركها الإصرار والتحدي أمام جشع
المهربين وتعقيدات الجهات الرسمية ، قضت ليلة كاملة بنهارها مغبرة مشتتة الفكر وغاصت في
جوف النفق ،تتلفت حولها تتوقع في كل لحظة انهيار سقفه أو احد جدرانه ، مسافة أكثر من نصف كيلو
كانت بمثابة أميال من السير لعنت اللحظة التي جعلتها موظفة وتراود نفسها بين لحظة الأخرى
العودة وترك مصيرها للقدر أو ترك الدراسة والعودة بخفي حنين ولكن تسيطر إرادتها وإصرارها
على فكرها ، وتشغل نفسها بكيفية العودة في الغد بنفس الطريق وتسأل هل ستقوى على عبور
هذا النفق المرعب بنفس القوة الجسدية والنفسية .
قهرت المستحيل وتغلبت على الصعاب وحافظت على مصدر رزقها وعادت بروح التحدي وسط
أمواج المخاطر بمجاديف العزيمة والإصرار لتحقيق أحلامها .



البحر .. يضحك


عاش حياته مقاتلا لاستعادة بيته، خاض معارك وحروبا طاحنة يطلب 
الشهادة او قريته وبيته .. جاهد للحاق بوالده الشهيد الذي سقط شهيدا تحت
انقاض بيته المسروق.
وسط زمهرير الشتاء والرياح العاصفة والأعصار وهدير البحر وارتفاع 
امواجه، مات فجاءة على فراشه البسيط داخل غرفته في المخيم ..
علت امواج البحر وهطلت الأمطار بغزارة واشتد الأعصار, غمرت المياه 
بيته، هرب اخوانه وابناؤه للنجاة، جرفت المياه العاتية جثته والقت بها في
احضان امواج البحر الهادرة، اختفت وتاهت مع تلاطم الأمواج .
هدأت العاصفة، وخف هدير البحر وانخفضت امواجه .. عاد أهل المخيم
واخوانه وابناؤه الى بيوتهم، بعد ان تفقدوا حاجاتهم والخراب الذي حدث
في بيوتهم، بحثوا عن جثته دون جدوى.
اهتز المخيم لوفاته, انتفض الأسرى واعلنوالحداد، اقيمت المآتم في كل مكان 
وارتفعت الرايات السود، دوت الحناجر بالتمجيد والرثاء .. أمواج البحر
تتلاحق بهدوء وتبتسم ضاحكة بينما الأصوات تنطلق في المخيم والمناطق
المجاورة تتشدق بالأمجاد والرثاء والشهداء وتضحياتهم, والأسرى وصمودهم
البحر تتسع ابتسامته، ضحك عاليا ، قهقه، وهويرنو الى الجبال العالية البعيدة
وهي تزهو تحت أشعة الشمس الدافئة بألوانها الخضراء والصفراء.




الكابوس



ليلة شتوية باردة جدا، السماء صافية، تتلألأ النجوم في كبد السماء، الصقيع ينبش في الأرض

تجمدت اواصل جسدي، تشققت شفتاي، تصدعت بشرتي .. تصلبت يدي القابضة على بندقيتي

فقدت الأحساس بأصبعي المتشبث بالزناد .. لم تسعفني البطانية المتلحف بها .

من بعيد نمر شرس يطارد غزال جميلة، تركض بسرعة ورشاقة، النمر وراءها بكل اصرار

وعناد.. قفزت الغزال برشاقتها وخفتها من فوقي وتلاها النمر بضخامة جسده ووحشيته ..

فزعي ورعبي حرك اصبعي المتشبث بالزناد .. انطلقت رصاصة .. خر النمر على الأرض يتضرج

في دماءه .. نجت الغزال وفرت هاريه .

تسللت خيوط الشمس الذهبية من النافذة ، نهضت من فراشي مسرعا ، دون أن يشعر أحد في المنزل

حملت شباكي ومعدات الصيد، وخرجت مسرعا الى البحر .. لا أريد النظر في عيون اولادي الجائعة
ا
الملم شتات فكري وجسدي المحطم من اثر الكابوس .. أرفع اياد مرتعشة إلى السماء مترنماً بالدعاء

إلى الله أن يرزقني .
  
بعجونة


بعجونه .. هذا اسمها الذي الصقه بها والدها، بلا ذنب سوى أنها الشقيقة الخامسة, وأنعم الله عليها
جمالاً خارقاً .. اسمها المزعج جعلها مثار سخرية بين صديقاتها في الحارة والمدرسة، هجرت اللعب وانكفأت على نفسها وحيدة في المدرسة وحبست نفسها في البيت منذ صغرها .. فشلت في دراستها .. مع تسلل الأنوثة المبكرة الى جسدها، زوجها والدها لشاب من عائلة ميسورة الحال.
في يوم من أيام نيسان الربيعية بزهوره اليانعة والمبتسمة مع صباح مشرق يعبق بأريج زهر البرتقال ..
خرج معظم سكان المدينة إلى شاطىء البحر الساحر للأحتفال بيوم أربعة ايوب ( يعود تاريخ هذا اليوم الى النبي أيوب عليه الصلاة والسلام اعتقادا منهم انه في هذا اليوم اغتسل في بحر غزة فبرىء من سقمه )
جلست مع عائلتها على شاطىء البحر تنظر الشمس تنثر جدائل شعرها الذهبي على لجة المياه ، وتداعب
بأرجلها موجاته المتلاحقة بهدوء، تركض وتمرح مع ثلة من الفتيات كبقية الجموع الهائلة التي يعج بها الشاطىء، تتسلى ببعض الأطعمة وما توفر من المسليات حتى غروب الشمس، موعد الغطس والأغتسال
في مياه البحر حسب المعتقدات المتوارثة .. يتمتمون بالدعاء والأبتهال الى الله لتلبية حاجاتهم التي جاءوا من أجلها.
لم يراودها شك أو خطر ببالها أنها ستعود بعد سنوات قليلة من هذه الرحلة الصبيانية والطفولية،
لتغطس بجسدها الغض في جوف المياه الباردة نسبيا مع غروب الشمس راجية أن يرزقها الله الأولاد حسب
رغبة حماتها .. وكان هذا خيارها الأخير بعد أعجزها الطب والسحرة والدجالين.
تحركت أمام نظرات حماتها اللاسعة، تجر اقدامها بملابسها وخمارها وسط الأمواج، وعينها تتجول على صفحة المياه القرمزية تشكو همومها وتعاستها التي بدأت مع والدها ثم صديقاتها وأخيرا حماتها .. أوغلت المشي في عباب البحر رغم عدم معرفتها السباحة حتى غطت المياه معظم جسدها ولم تسمع تحذيرات الرجال والنساء
على الشاطىء مشدوهين بعيون ساهمة وافواه فاغرة .. غرق كل جسدها في الماء، ألقت فيه همومها واحزانها
واخرجها المنقذون جثة هامدة .


التسميات:

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية