ليتني ما أكلت اللحم .. كمال عطا
ليتني ما أكلتُ اللحم
قصة قصيرة
كمال عطا

كمال غطا
مصر
كنت دون الخامسة بقليل حين سألتُ أمي وهي ترتق جلباباً لأبي : لماذا لانأكل اللحم ؟ ، فقالتْ دون أن ترفع ناظريها لي : فلتسأل أباك. ذهبتُ إليه أسأله بينما هو يعتلي سلماً خشبياً عتيقاً، يرمم فتحة واسعة في سقف العِشة التي تأوينا ، فقال ضاحكاً - وربما ساخراً - دون أن يلتفت لي : غداً تكْبُر، وحينها سوف تعرف.
كنتُ أسمع عنها وأنا أنصتُ إلى أحاديث الكبار، وربما رأيتها وهي معلقة في سوق القرية، لكني - أبداً - لم أكن قد لمستُها أو تذوقتُها حتى هذه السن !. كل من حولنا لحسن حظنا كانوا في مثل حالنا، فلم نشم يوما رائحة لطبيخ غير ماتعودنا عليه.
ويبدو أن الله شاء لي أن أكبر بأسرع مما توقع أبي، كي أعرف. فبعدها بأسابيع قليلة أنجبتْ الزوجة الثانية الجديدة لشيخ القرية طفلاً ذكراً, توجتْ به صبره على خمس بنات من زوجته الأولى. أوفى الرجل بنذره وذبح خروفاً، كان نصيبنا منه طبقاً من الفتّة فوقه قطعة في حجم بيضة الحمامة من اللحم. وإن شئنا الدقة أكثر، فقد كانتْ كتلة من دهن الضأن تختبيء داخلها قطعة ضئيلة الحجم من اللحم الأحمر.
حين وضِع الطبق أمامنا فوق الطبلية، مدّت أمي يدها تقتطع نتفة صغيرة من اللحم كي تذوقها، إلا أن زمجرة أبي ونظرته الغاضبة جمدتها في مكانها، فما كان منها إلا أن تراجعتْ وسحبتْ يدها سريعاً، ليتركا لي قطعة اللحم وحدي .
يا الله .. لقد كان طعمها رائعاً وطيباً، أحلى من أي طعام ذقته من قبل.
ولكن، تأتي الرياح بما لاتشتهي السفن. انحشرت نسيرة من اللحم بين أسناني، فضايقتني كثيراً، وفشلتْ كل طرقنا التقليدية من خيط ونكاشة خشبية في استخراج تلك النسيرة اللعينة من بين أسناني. اصطحبني أبي إلى حلاق القرية الذي أخذ يحفر بين أسناني ولِثْتي بإبرة يعلوها الصدأ حتى تمكن أخيراً من استخراجها، واستخراج مايقرب من نصف دمي نزيفاً من اللثة.
في وسط صراخي من الألم، ورعبي من الدم النازف، كان أبي يقول لي مؤنباً: هل عرفتَ الآن، لماذا ؟.
في اليوم التالي، صحوتُ على مغص شديد جعلني أتلوى من الألم، وإسهال أصابني بالجفاف، قال أبي أنه من جراء دهن الضأن الذي لم تتحمله أمعائي. كنتُ أصرخ، وكان أبي يبكتني: هل عرفتَ الآن، لماذا ؟.
بعد يومين تورم خدي ووجهي من جراء تلوث والتهاب اللثة، فنظر أبي إلى وجهي وقال: هل عرفتْ الآن ؟.
بعدها بأيام، عقرني كلب ضال من كلاب الشوارع- دوناً عن أترابي الذين كانوا معي - وحين عُدتُ باكياً، قال أبي: شم الكلب رائحة اللحم في عَرَقك، فهاجمك، فهل عرفتَ الآن، لماذا لانأكل اللحم ؟.
بعدها بأسابيع، ألقى طائر عابر - مصادفة - بفضلاته فوق رأسي، فضحك عليَّ الأولاد، فعدتُ باكياً، فقال أبي ضاحكاً : هل عرفتَ الآن ؟، فصرختُ وأنا أزعق - بينما أمزق جلبابي المهترئ - : نعم، لقد عرفتُ .. نعم ، قد عرفتُ !!.
التسميات: قصة قصيرة
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية