سكن فوق الذهب .. أسماء أحمد
سكن فوق الذهب
قصة قصيرة
أسماء أحمد
على طرفه الشرقي شيد نفق للمشاة يصل سوق الخضار والجامع الكبير ومعظم الشطر القديم من الحي بالشطر الحديث يفصل بينهما "الاوتستراد" الجديد.
ركن سيارته في أول الشارع أمام عمارة حجرية حديثة البناء.
سالم في الأربعين من عمره طبيب ناجح وأب لأربعة أطفال أنتجهم في سنوات زواجه الست. يقول دائماً: " إنهم أجمل أخطائه، وأنه لاذنب له فزوجته خصبة، وإن هو مشى على السطح يفاجأ بحملها".. تلمع عينا أمه الحاجة بخبث محبب، وتطول رقبتها فخراً، إنه وحيدها على سبع بنات.
دفعه الطفل الذي فيه ليعبر الحارات والأزقة التي لعب فيها وركض مع الأولاد خلف كرة قماشية صنعتها الأم، أمام إلحاح صغيرها البارع في تسديد الأهداف، بين شجرتي الكينا اللتين زرعتهما يدان مجهولتان على حافة ساقية للري تعبر الساحة وقد ردمت من زمن بعيد بعد تحول الحقول إلى كتل اسمنتية.
جمع ظل الكينا نساء الحي في جلسات تبصير لفناجين القهوة التي شربنها بينما الأولاد يلعبون وسالم يسدد الأهداف ويصرخ عاش "بيليه".
سار واضعا ًيديه في جيبي سرواله يتفحص كل زاوية بذكرياتها الحلوة والمرة.
كان "للقضامة" طعم مميز تلك الأيام مازال تحت أسنانه، جعله يقصد دكان " أبي مروان " الذي بات سمعه ضعيفاً ودكانه على حالها، إنهما من علائم الحي!. رفع رأسه المدفون في دفتر الحسابات المهترئ، لاشتباهه أن أحدهم ألقى التحية عليه، بلع ريقه وشهق كعادته، وبصوت عجوز رحّب: دكتور سالم، يامرحبا.. كيف الحال.. والله زمان.. كيف الوالد؟. مازال نظره جيداً!، فكر سالم بينما تابع أبو مروان: يارجل كنتم ترقدون فوق الذهب ولاتعلمون!؟.. أقسم أنني رأيت بأم عيني رجالاً يخرجون صندوقاً مليئاً بالليرات الذهبية العثمانية.. إنه كنز يابني، كنز كان معكم (تحتكم) كل هذا العمر!.
لم يستوعب سالم ماسمع في البدء، فغر فاه واحمرٌ وجهه بعد غليان الدم في عروقه، غرق في الصمت.. نسي طعم القضامة الحلوة.
اندفع يسير بخطىً يسابق فيها سيل الأفكار الذي جرفه حد الموت، وتلك العبارة اللازمة التي احتلت عقله " كنا نسكن قوق الذهب" ثم يضحك بصوت مسموع يقمعه كي لايوصم بالجنون من قبل من يراه.
" كنا نسكن فوق الذهب ".. !
رأى نفسه طفلاً في طريقه إلى المدرسة بمريوله القديم وحذائه المكشر عن إصبعين!
" كنا نسكن فوق الذهب"... !
أخته الصغيرة المريضة أخرجت من البيت لفافة بيضاء ، لأن الدواء اللازم تأخر...
" كنا نسكن فوق الذهب ".. !
عيد بلا ملابس جديدة، كلها أحلام ملونة كقطع الحلوى التي تأملها طويلاً خلف زجاج المخبز..
وجه والده المغضن يهده العمل والهموم... جحيم سهر ليالي الشتاء عندما لبس كل ثيابه ليتقي برد ليلة امتحان لأن شبه المدفأة بالكاد تكفي نفسها..
لم يدرك الوقت الذي أمضاه وهو يسير بحالة هستيرية لايلوي على شيء.. أمام أطلال البيت الكبير الذي يعامل كموقع أثري، توقف..
هنا دفن أحدهم ذهباً كان ليحيل حياته إلى الثراء ويقبر الفقر إلى أبد الآبدين..
" ماكان والدي ليحتفظ بالذهب، كان ليسلمه إلى الجهات المختصة لتحفظه في مكان مجهول..؟؟؟ أمين...!!!
تذكر يوم دفق دلوا ًمن الماء في حفرة كانت خلف باب غرفته تحت العتبة، أوحت إليه بشيء لم يفهمه عندما غلٌ الماء إلى عمق كبير فقال لأمه:" الله يخلصنا من هالبيت إنه آيل للسقوط لامحالة لابد أن الجرذان تقوم بالمهمة..."
" كنا نسكن فوق الذهب ".. !
على الجدار في فسحة الدار.. يدان طفلتان رسمتا وجه صبي ولونته بالطباشير، شعر أسود وعينان خضراوان وفم أحمر.. بقي الجدار واقفاً بين الركام ، يحمل وجهاً موشوماً يبهت شيئاً فشيئاً.
للحظة رأى الوجه يبتسم ويسأله بخضر عينيه المغسول بدمعة بريئة ويسأله لمَ تركتني هنا؟؟
أسماء أحمد
31/5/2008
التسميات: قصة قصيرة
1 تعليقات:
قص جميل .. الله على إبداعك صديقتي أسماء . قرأ القصة مرات لأستزيد من المتعة . مجرد ذكر الذهب جرد الحياة من رونقها وبهجتها . وتلك هي القيمة المضمرة في النص الجميل . نقطة التحول والانقلاب في النص هي العبارة التى فاه بها أبو مروان .. " كنتم ترقدون فوق الذهب ولاتعلمون " .. حتى قيلت تلك العبارة حفل النص بالعلاقات الحميمة بين الجيران , والمتع الراقدة في ذاكرة سالم الطبيب الأربعيني الناجح عن ملاهي الطفولة , وظلال أشجار الكينا. وطعم " القضامة " المحبب . أما بعد نقطة الانقلاب فلم نعد نرى من خلال ذاكرته إلا المريول القديم, والحذاء الممزق, وجثمان الأخت التي قتلها العجز عن توفير الدواء. ووجه والده المغضن يهده العمل والهموم. أما العبارة المحورية .. " كنا نسكن فوق الذهب " ,, فقد استخدمتها صديقتي أسماء ببراعة وحرفية لتؤكد القيمة المضمرة في القصة .. تحياتي وتقديري لإبداعك صديقتي العزيزة .
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية