السمك المخنوق .. قصة قصيرة .. محمود السانوسي .. مصر
![]() |
محمود السانوسي |
ربما كانت الحكاية هي العماد الرئيسي للنص، لكنها في الواقع مجرد تكئة لاستعراض ماهو أعمق. البيئة، والنمط الثقافي السائد سواء مايتعلق منه بالسكان أو بالسلطة. فثمة تماس يسلط الضوء علي فكر بيروقراطي يسم العلاقة بين السلطة ممثلة في لجنة الري، وبين الرعية ممثلين في الراوي وأسرته. فالسلطة ممثلة في اللجنة ترش كميات مهولة من الكيماوي في مياه الترعة دون أن تحفل بتوعية الأهالي، أو الحيلولة بينهم وبين الأسماك المسمومة. إنما ينصب اهتمام أفرادها على تبرئة ساحتهم أمام رؤسائهم. متنصلين من تبعة إهمالهم.
أما البعد الأكثر عمقاً، والأكثر فاعلية في إثراء نسيج النص فهو مايتعلق بالعلاقات بين أفراد الأسرة والصراعات الداخلية بين عناصرها. ودور الأم في ضبط الأمو، كذلك نمط العلاقة بين الأسرة ككيان مستقل وبين الأسر المجاورة فيما يتعلق بالصراع الدائر حول مناطق التقاط السمك النافق.
في الوقت ذاته ينتظم ذلك الزخم السردي قضية أكثر عمقاً، تتمثل في الصراع المحتدم حول قضية خاسرة، فالقرية تستيقظ عن بكرة أبيها على خبر وصول اللجنة، فيتأهب الجميع في احتشاد برع الكاتب في تصويره، إذ يهمل الخال والخالات واجباتهم المعتادة في رعاية الحقول، وفي جمع طعام الماشية، وتنبري الجدة ملقية الأوامر والتنبيهات لضمان كسب الصراع حول الغنيمة التي هي في الواقع سم زعاف.
وهي قضية تشير إلى السلوك السلبي للمجتمعات المتخلفة التى تهدر طاقاتها في سبيل قضايا خاسرة.
أما البعد الإنساني في الخاتمة فهو ماتوج النص .. " لم تمت القطط " .. أبعد الخال الكلب عن التهام اللحم السموم، أما القطط فقد تركت لمصائرها. بينما راحت الخالات تراقبها في انتظار نفوقها. ولما أجهزت القطط على القرموط، وانتحت تلعق شفاهها مطمئنة بالتخمة، التاعت الخالات، فلحم القرموط الذي أنضجته نار الفرن الطيني، وضمخته روائح الثوم والبهارات لم يقتل القطط. كيف يمكن لموت الحيوانات أن يعادل الحرمان من الأكلة الشهية؟ . هل يمكن اعتبار الموقف دليلاً على القسوة وتحجر القلب؟
العبارة " لم تمت القطط " ، لا تؤدي فقط وظيفة خبرية، إنما التكرار في العبارة التى تلتها .. " لم تمت " يجسد اللوعة والغيظ اللذين استوليا على الخالات اللوات أستطيع تصور كيف أنهن رعين القطط ببقايا الطعام على مدار الأيام. فكيف يمكن تفسير تلك الرغبة التى وصلت بهن إلى مقام اللوعة لمجرد نجاة القطط من التسمم؟
إنه الإنسان في تناقضاته الفطرية التي جبل عليها, والتي تقرر أن أن اعتبارات الرحمة والغفران التي تسم الإنسان الطبيعي تتوارى وتحتجب عندما يقف عائق ما أمام إشباع الرغبات الملحة والعارمة. وفي ظني أن تلك المشاعر السلبية إنما هي وليدة لحظة عابرة، سرعان مايستقيم أمر الإنسان بمجرد عبورها, لكن تظل تلك اللحظة كاشفة للتناقض الإنساني الذي أعده واحد من أعمق خصائص الإنسان .
ويعد ثراء اللغة من أبرز مظاهر ثراء النص. فقد برعت اللغة في استحضار نكهة المكان , بل وعكست سمات الشخصيات . فالطشت، والماجور، وجرباح النخيل , والقش والتبن ، ومطرحة زوجة الخال ، حتى الخال بكلثومه إلى مافوق الركبة، وسديريه المفكوك الأزرار، وحتى مظاهر تقسيم القرموط المشوي مناصفة بين طبلية للرجال، وأخرى للنساء. والجبن القريش ، والمش الذي يتحرك فيه الدود، كلها مفردات وصور تعكس أخص خصائص البيئة الريفية. وقد برع الكاتب في توظيفها بمهارة بحيث أغنت النص عن الكثير من الشروح والتعريفات بالمكان والشخصيات.
على أني ألفت نظر صديقي الجميل محمود السانوسي إلى بعض العبارات الزائدة التي تخللت السرد بما لا يضيف إلى التجربة القصصية , بل قد ينتقص مما ميزها من تدفق الأحداث وسلاستها :
- العبارة الاستهلالية .. " لجنة تطهير الترع والمصارف ..حافظت لكثير من أهالي القرى على وجبة من الحم الطري " لم تبد استهلالاً جيدا لنص جيد . فالأولي استهلال القصة بعبارة " جاءت اللجنة باكراً " .
.. " عبارة زائدة . ليرى الوجوه التي طردته من الماء ..حرمته من رؤية أشعة الشمس المنكسرة ..أبعدته عن كذا وكذا ..- "
أحضرت مسرعة طشتاً ) (
( حاولن خالاتي / حاولت )
(وبهمة خالاتي ..أنقذوه / أنقذنه )
(أخرجوه على طبلية / أخرجنه )
( يبرءون ذمتهم / يبرئون )
(وكان الجسمان المغسل / الجثمان )
ربما أعتبره من أفضل النصوص التي نشرت في الواحة في الفترة الأخيرة , تمنياتي بالتوفيق لصديقي محمود السانوسي الذي أراقب تطوره من نص إلى نص بكثير من السعادة .
لجنة تطهير الترع والمصارف ..حافظت لكثير من أهالي القرى على وجبة من الحم الطري .
تلك اللجنة جاءت باكراً ..قبل أن يذهب خالي إلى زرعه ..وقبل أن تحمل خالاتي الصغيرات أجولة الصبغ الفارغة ..حيث يرجعن
قبيل الظهر معبأة فوق رؤوسهن تلك الأجولة بحصاد من الحشائش النابتة بين أعواد القصب ، قرر خالي ألا يذهب ذلك الصباح وقال لجدتي : لقد مررت عليه أمس ..سأتابعه في المساء ..
جدتي أحضرت مسرعة طشت من الصاج وحلة واسعة من الألمونيوم ..بحثت بجدية كل خالة عن وعاء تحمل فيه بدلاً من حشائش البهائم ..السمك الطازج ، لم تفتعل امرأة خالي أي معركة مع خالاتي وحملت (الماجور) وحدها لحلب الجاموسة ..متخيلة سمك
(القرقار) وهو يتماوج في (الطشت ) ..حتى أنها جهزت القش والتبن والحطب و( جرباح ) النخيل الناشف ..قربت مطرحتها وأعدت الفرن لتحمير السمك ( المطجن ) ..
حملت كل خالة حلتها ..يتبعهن خالي ( بكلثومه ) الذي رفعه إلى فوق ركبته ..و( السديري ) المفكوك ( الزراير ) ..يده في يد أبنه الصبي الأقرع ..
تحاصرهم جميعاً عين جدتي المترقبة .. توصي وتحذر وتؤنب ..: لا تجعلوا أحداً يصطاد من حوضنا ، زعقت خالاتي واحدة تلو أخرى ..في بعض الجيران ..حتى استحوذن على حوض المياه المقابل للمنزل ..
كل أهالي البلدة يقفون في مواجهة الترعة ..
كل رجال القرية يحملون أواني وعصى للشجار أو ضرب القرموط الكبير إن تملص من أيديهم ..
وكل العاملين بالتطهير يؤلمهم القيظ ..يرشون كميات مهولة من الكيماوي الخانق ..
وكل السمك بأنواعه المختلفة يقفز إلى سطح الترعة .. ليرى الوجوه التي طردته من الماء ..حرمته من رؤية أشعة الشمس المنكسرة ..أبعدته عن كذا وكذا ..
خالي لم يبذل مجهوداً كبيراً في حصد الأسماك من بذورها المائية
خالي فقط أجهده القرموط الكبير وهو يتلوى محاولاً الهرب من ذلك المهاجم ..ولكن الماء يلفظه ..استسلم القرموط ونام على صدر خالي ..
كان خالي متعباً من وزنه ..قال خالي ضاحكاً : نام نومه العروس ..وترك الأسماك فوق شط الترعة ..وفر جارياً إلى البيت ..وضع القرموط الكبير في (الحوش) الفسيح ..تأملته جدتي مندهشة فرحانة ..وفكرت ..أين الطاجن الذي يكفيه ..حاولن خالاتي أن يستعرن ( طواجن ) الجيران ..وطواجن الجيران ممتلئة على أخرها ..وقف خالي يفكر ..وقررت زوجة خالي أنها سترش عليه الردة وتملأ فراغ أحشاءه بالثوم والبهارات اللازمة ..وضعته في الفرن الطينية ..قلبته بالأسياخ ..وبهمة خالاتي ..أنقذوه قبل أن يتفحم ..أخرجوه على طبلية للرجال ..وطبلية للنساء ..كان الكلب ينبح ..وكانت القطط تموء .. وكان الجيران يولولن ..يصرخن صراخ الجنائز .. وكانت (العدودة ) تقول ) جات الحزينة تفرح // ملقتلهاش مطرح ) ..وكانت السمكة تقول : سأحول فرحكم إلى جنازة ..وكان موظفي لجنة التطهير ..يبرءون ذمتهم أمام أهالي البلدة والمسئولين : ( هذه الترع محفورة لري الحقول والمزارع وليس من السليم أن يصطاد الأهالي الأسماك المسمومة ..عليهم شراؤها من السويقة المخصصة لذلك ..) ..وكان الجسمان المغسل ..سبيلاً لسعادة الحيوانات التي التهمت كل الأسماك المحمرة والمشوية ..وكان خالي يزعق : ( ابعدوا الكلب قبل أن يتسمم ..نحن نحتاجه ) وكانت القطة والقط العجوزان وذريتهما يلتهمون القرموط حتى ذيله ..وجدتي تجهز فوق الطبلية الجبن القريش والمش الذي يتحرك فيه الدود والعسل الأسود ..وخالاتي يتساءلن بينهن : ها هي القطط أكلت ولم تمت بعد ..والأيدي المتداخلة تمتد مضطرة بغير رغبة إلى غداء الطبلية ..مرددة بغيظ ومهابة : لم تمت القطط ..لم تمت
التسميات: زاوية النقد