الخميس، 25 مايو 2017

السمك المخنوق .. قصة قصيرة .. محمود السانوسي .. مصر

ثراء النسيج القصصي 
قراءة في القصة القصيرة "السمك المخنوق"
محمود السانوسي
مصر / أسوان



محمود السانوسي



يعود ثراء النسيج القصصي للنص إلى كون الكاتب لا يرصد الحدث من على سطح الذاكرة، ولا منفصلا عن السياق العام للمكان والزمان.
ربما كانت الحكاية هي العماد الرئيسي للنص، لكنها في الواقع مجرد تكئة لاستعراض ماهو أعمق. البيئة، والنمط الثقافي السائد سواء مايتعلق منه بالسكان أو بالسلطة. فثمة تماس يسلط الضوء علي فكر بيروقراطي يسم العلاقة بين السلطة ممثلة في لجنة الري، وبين الرعية ممثلين في الراوي وأسرته. فالسلطة ممثلة في اللجنة ترش كميات مهولة من الكيماوي في مياه الترعة دون أن تحفل بتوعية الأهالي، أو الحيلولة بينهم وبين الأسماك المسمومة. إنما ينصب اهتمام أفرادها على تبرئة ساحتهم أمام رؤسائهم. متنصلين من تبعة إهمالهم.
أما البعد الأكثر عمقاً، والأكثر فاعلية في إثراء نسيج النص فهو مايتعلق بالعلاقات بين أفراد الأسرة والصراعات الداخلية بين عناصرها. ودور الأم في ضبط الأمو، كذلك نمط العلاقة بين الأسرة ككيان مستقل وبين الأسر المجاورة فيما يتعلق بالصراع الدائر حول مناطق التقاط السمك النافق.
في الوقت ذاته ينتظم ذلك الزخم السردي قضية أكثر عمقاً، تتمثل في الصراع المحتدم حول قضية خاسرة، فالقرية تستيقظ عن بكرة أبيها على خبر وصول اللجنة، فيتأهب الجميع في احتشاد برع الكاتب في تصويره، إذ يهمل الخال والخالات واجباتهم المعتادة في رعاية الحقول، وفي جمع طعام الماشية، وتنبري الجدة ملقية الأوامر والتنبيهات لضمان كسب الصراع حول الغنيمة التي هي في الواقع سم زعاف.
وهي قضية تشير إلى السلوك السلبي للمجتمعات المتخلفة التى تهدر طاقاتها في سبيل قضايا خاسرة.
 أما البعد الإنساني في الخاتمة فهو ماتوج النص .. " لم تمت القطط " .. أبعد الخال الكلب عن التهام اللحم السموم، أما القطط فقد تركت لمصائرها. بينما راحت الخالات تراقبها في انتظار نفوقها. ولما أجهزت القطط على القرموط، وانتحت تلعق شفاهها مطمئنة بالتخمة، التاعت الخالات، فلحم القرموط الذي أنضجته نار الفرن الطيني، وضمخته روائح الثوم والبهارات لم يقتل القطط. كيف يمكن لموت الحيوانات أن يعادل الحرمان من الأكلة الشهية؟ . هل يمكن اعتبار الموقف دليلاً على القسوة وتحجر القلب؟
العبارة " لم تمت القطط " ، لا تؤدي فقط وظيفة خبرية، إنما التكرار في العبارة التى تلتها .. " لم تمت " يجسد اللوعة والغيظ اللذين استوليا على الخالات اللوات أستطيع تصور كيف أنهن رعين القطط ببقايا الطعام على مدار الأيام. فكيف يمكن تفسير تلك الرغبة التى وصلت بهن إلى مقام اللوعة لمجرد نجاة القطط من التسمم؟
 إنه الإنسان في تناقضاته الفطرية التي جبل عليها, والتي تقرر أن أن اعتبارات الرحمة والغفران التي تسم الإنسان الطبيعي تتوارى وتحتجب عندما يقف عائق ما أمام إشباع الرغبات الملحة والعارمة. وفي ظني أن تلك المشاعر السلبية إنما هي وليدة لحظة عابرة، سرعان مايستقيم أمر الإنسان بمجرد عبورها, لكن تظل تلك اللحظة كاشفة للتناقض الإنساني الذي أعده واحد من أعمق خصائص الإنسان .
 ويعد ثراء اللغة من أبرز مظاهر ثراء النص. فقد برعت اللغة في استحضار نكهة المكان , بل وعكست سمات الشخصيات . فالطشت، والماجور، وجرباح النخيل , والقش والتبن ، ومطرحة زوجة الخال ، حتى الخال بكلثومه إلى مافوق الركبة، وسديريه المفكوك الأزرار، وحتى مظاهر تقسيم القرموط المشوي مناصفة بين طبلية للرجال، وأخرى للنساء. والجبن القريش ، والمش الذي يتحرك فيه الدود، كلها مفردات وصور تعكس أخص خصائص البيئة الريفية. وقد برع الكاتب في توظيفها بمهارة بحيث أغنت النص عن الكثير من الشروح والتعريفات بالمكان والشخصيات.
 على أني ألفت نظر صديقي الجميل محمود السانوسي إلى بعض العبارات الزائدة التي تخللت السرد بما لا يضيف إلى التجربة القصصية , بل قد ينتقص مما ميزها من تدفق الأحداث وسلاستها :
 - العبارة الاستهلالية .. " لجنة تطهير الترع والمصارف ..حافظت لكثير من أهالي القرى على وجبة من الحم الطري " لم تبد استهلالاً جيدا لنص جيد . فالأولي استهلال القصة بعبارة " جاءت اللجنة باكراً " .
.. " عبارة زائدة . ليرى الوجوه التي طردته من الماء ..حرمته من رؤية أشعة الشمس المنكسرة ..أبعدته عن كذا وكذا ..- "
أحضرت مسرعة طشتاً ) (
( حاولن خالاتي / حاولت )
(وبهمة خالاتي ..أنقذوه / أنقذنه )
(أخرجوه على طبلية / أخرجنه )
( يبرءون ذمتهم / يبرئون )
(وكان الجسمان المغسل / الجثمان )
ربما أعتبره من أفضل النصوص التي نشرت في الواحة في الفترة الأخيرة , تمنياتي بالتوفيق لصديقي محمود السانوسي الذي أراقب تطوره من نص إلى نص بكثير من السعادة . 
 
نص القصة

لجنة تطهير الترع والمصارف ..حافظت لكثير من أهالي القرى على وجبة من الحم الطري . 
 تلك اللجنة جاءت باكراً ..قبل أن يذهب خالي إلى زرعه ..وقبل أن تحمل خالاتي الصغيرات أجولة الصبغ الفارغة ..حيث يرجعن

قبيل الظهر معبأة فوق رؤوسهن تلك الأجولة بحصاد من الحشائش النابتة بين أعواد القصب ، قرر خالي ألا يذهب ذلك الصباح وقال لجدتي : لقد مررت عليه أمس ..سأتابعه في المساء ..
 جدتي أحضرت مسرعة طشت من الصاج وحلة واسعة من الألمونيوم ..بحثت بجدية كل خالة عن وعاء تحمل فيه بدلاً من حشائش البهائم ..السمك الطازج ، لم تفتعل امرأة خالي أي معركة مع خالاتي وحملت (الماجور) وحدها لحلب الجاموسة ..متخيلة سمك 
 (القرقار) وهو يتماوج في (الطشت ) ..حتى أنها جهزت القش والتبن والحطب و( جرباح ) النخيل الناشف ..قربت مطرحتها وأعدت الفرن لتحمير السمك ( المطجن ) ..
 حملت كل خالة حلتها ..يتبعهن خالي ( بكلثومه ) الذي رفعه إلى فوق ركبته ..و( السديري ) المفكوك ( الزراير ) ..يده في يد أبنه الصبي الأقرع ..
 تحاصرهم جميعاً عين جدتي المترقبة .. توصي وتحذر وتؤنب ..: لا تجعلوا أحداً يصطاد من حوضنا ، زعقت خالاتي واحدة تلو أخرى ..في بعض الجيران ..حتى استحوذن على حوض المياه المقابل للمنزل .. 
كل أهالي البلدة يقفون في مواجهة الترعة ..
كل رجال القرية يحملون أواني وعصى للشجار أو ضرب القرموط الكبير إن تملص من أيديهم ..
وكل العاملين بالتطهير يؤلمهم القيظ ..يرشون كميات مهولة من الكيماوي الخانق ..
 وكل السمك بأنواعه المختلفة يقفز إلى سطح الترعة .. ليرى الوجوه التي طردته من الماء ..حرمته من رؤية أشعة الشمس المنكسرة ..أبعدته عن كذا وكذا ..
خالي لم يبذل مجهوداً كبيراً في حصد الأسماك من بذورها المائية 
 خالي فقط أجهده القرموط الكبير وهو يتلوى محاولاً الهرب من ذلك المهاجم ..ولكن الماء يلفظه ..استسلم القرموط ونام على صدر خالي ..
 كان خالي متعباً من وزنه ..قال خالي ضاحكاً : نام نومه العروس ..وترك الأسماك فوق شط الترعة ..وفر جارياً إلى البيت ..وضع القرموط الكبير في (الحوش) الفسيح ..تأملته جدتي مندهشة فرحانة ..وفكرت ..أين الطاجن الذي يكفيه ..حاولن خالاتي أن يستعرن ( طواجن ) الجيران ..وطواجن الجيران ممتلئة على أخرها ..وقف خالي يفكر ..وقررت زوجة خالي أنها سترش عليه الردة وتملأ فراغ أحشاءه بالثوم والبهارات اللازمة ..وضعته في الفرن الطينية ..قلبته بالأسياخ ..وبهمة خالاتي ..أنقذوه قبل أن يتفحم ..أخرجوه على طبلية للرجال ..وطبلية للنساء ..كان الكلب ينبح ..وكانت القطط تموء .. وكان الجيران يولولن ..يصرخن صراخ الجنائز .. وكانت (العدودة ) تقول ) جات الحزينة تفرح // ملقتلهاش مطرح ) ..وكانت السمكة تقول : سأحول فرحكم إلى جنازة ..وكان موظفي لجنة التطهير ..يبرءون ذمتهم أمام أهالي البلدة والمسئولين : ( هذه الترع محفورة لري الحقول والمزارع وليس من السليم أن يصطاد الأهالي الأسماك المسمومة ..عليهم شراؤها من السويقة المخصصة لذلك ..) ..وكان الجسمان المغسل ..سبيلاً لسعادة الحيوانات التي التهمت كل الأسماك المحمرة والمشوية ..وكان خالي يزعق : ( ابعدوا الكلب قبل أن يتسمم ..نحن نحتاجه ) وكانت القطة والقط العجوزان وذريتهما يلتهمون القرموط حتى ذيله ..وجدتي تجهز فوق الطبلية الجبن القريش والمش الذي يتحرك فيه الدود والعسل الأسود ..وخالاتي يتساءلن بينهن : ها هي القطط أكلت ولم تمت بعد ..والأيدي المتداخلة تمتد مضطرة بغير رغبة إلى غداء الطبلية ..مرددة بغيظ ومهابة : لم تمت القطط ..لم تمت

التسميات:

الأربعاء، 24 مايو 2017

وخز وتراتيل .. قصة قصيرة .. رسول يحي .. العراق



قراءة في القصة القصيرة 
وخز وتراتيل
للأديب / رسول يحي 
العراق



كما أستمتع بالنصوص، أستمتع أيضاً بالتعليقات الذكية التي تقع بمهارة على فجوات البناء في النص .
أتفق مع صديقي عامر العيثاوي فى ملاحظتيه، فصديقي رسول يحي يتميز بمهارة التقاط اللحظة القصصية, كما يمتلك حساً إنسانياً متفوقاً، لذلك ترى في نصوصه الإنسان عارياً من الزيف في لحظات نادرة تتضافر فيها عناصر السمو الإنساني مع عناصر الضعف - وربما الخسة - ..
 يبرع صديقي رسول في اقتحام تلك المنطقة والتعامل معها بفهم ودراية، وهي في ظني المنطقة التي صنعت عمالقة القص المعروفين، فما برز قاص على المستوى العالمي أو المحلي إلا من تلك المنطقة شديدة الحساسية منذ معطف جوجول. صديقي رسول لا يزجي خطابات تعبوية، ولا يؤطر لمفهوم أيديولوجي، ولا يسعى إلى الترويج لفكرة يتبناها، بل يطرح الإنسان عارياً من الزيف في لحظة واقعية نادرة لا يلتقطها إلا قصاص يعي روح القصة القصيرة وجوهرها.
 على أني أتفق أيضاً مع الملاحظتين اللتين أبداهما صديقي العيثاوي بشأن الاستهلال فالقصة يمكن أن تبدأ ببساطة مع الجملة ( طغى هدوء غريب على المكان) مع الاستغناء عن القفقرة التي سبقتها. وبشأن ما أسماه العيثاوي ( المبالغات اللفظية في السرد . )، تلك المبالغات التي سبق أن أشرت إليها في النص السابق بعنوان ( المقصلة ) .. ولقد قلت بالنص :
 " لكني أود أن أشير إلى ظاهرة أجدها في كل نصوص صديقي رسول يحي . وهي الإفراط في الصور البلاغية, والإزاحات اللغوية بما يتعارض مع مقتضيات التكثيف في القصة القصيرة .
 لا شك أن تلك العبارات ترفع من مستوى اللغة . لكن يمكن الاستغناء عنها جميعاً دون أن يختل سياق النص ".
وهاأنا أشير إلى عبارات مشابهة في النص ( وخز وتراتيل ) :
- يحرقني صمت سرطاني جاثم في دوامات الماضي والحاضر
- في زمن تعرى من كل الألوان في عبث محترق بدون خلاص
- ّ يداعب قنوات الدمع بحزن أعمق وبهضيمة أكبر
- الخوف من السقوط في بحر السراب والرمال اللامعة بلا ماء يروي العطش ويطفئ شواظ الحر.
- أفواه مقابر مشرعة على مصرعيها وحفر تحتضن أشلاء أجساد وعيون ما فترت .........
- في زمن لا يعرف كيف يدار.
 أظن أن نصوص صديقي رسول يحي يمكنها أن تقف بثبات إلى جوار نصوص عمالقة القص بما تتضمنه من تجارب إنسانية متفردة وأصيلة، لو أنه تخلص بجرأة من المبالغات اللغوية.
تحياتي وتقديري لك صديقي العزيز المتميز رسول يحي

نص القصة 

يحرقني صمت سرطاني جاثم في دوامات الماضي والحاضر، لا ينقضي ولا يشكل فارقا في زمن تعرى من كل الألوان في عبث محترق بدون خلاص. توابيتنا متحركة في كل زاوية وجانب تصطدم فيما بينها في عز النهار وتركد وتستكين وتتلوى على سرير الجوع والحرمان في الليالي المتحجرة. أنفاس فائرة تتلصص من النوافذ العالية تسرق لحظة حياة بعدد لا يعد ولا يحصى من الحسرات والدموع المحبوسة بين الجدران.
صدى الأصوات يخترق أذنيّ يداعب قنوات الدمع بحزن أعمق وبهضيمة أكبر. صنعت سورا من المقاومة من خلال خلق جوٍ أتعايش معه يبعدني عن ألم المعاناة، فوجدت العيش مع الجولات الأولى من الذاكرة أشد حدة وعذاباتها أكثر إيلاماً.
طغى هدوء غريب على المكان لم أعرفه من قبل عند سماع كلام العقيد؟!. الوجوه الشاحبة والكالحة مذهولة من وقع الخبر الذي نزل كالصاعقة والعيون تكاد تخرج من محاجرها والحدقات أخذتْ بالأتساع حتى كادت تنفجر من انتفاخها غير مصدقين الكلام.
- سيغلق ملف الأسرى نهائياً...
نعم نطق أخيراً بعد سكوت طويل وعيناهُ الوقحتان تتجولان في الوجوه، كأن شللاً أصابه وهو غارق في استجماع قواه والتفوه بها. كلمات استغرقت عشرة أعوام من العمر في انتظار النطق بها بعد انتهاء الحرب!.
فتح الأبواب .. انفكاك القيد.. الحرية .. مهاجرة الفراغ.. وولع الارتماء، الخوف من السقوط في بحر السراب والرمال اللامعة بلا ماء يروي العطش ويطفئ شواظ الحر. رسمت خطا فاصلا بين نقطتين، أعادت تلك الحيرة والخوف وأنا أقف أمام شط العرب أُخيّرُ نفسيّ بين أن أعبر الشط أو اِستسلم لقدري ، فأنا لا أجيد السباحة ولم يسبق لي أن سبحت في بِرْكَة ماء؟!.
مسافات لا تشغلها سوى خطوات الموت في حال هرولة وهيجان وطواف . جزع.. حزن.. بكاء.. موت لم أعِ لماذا كل هذا في حينها؟!.
أفواه مقابر مشرعة على مصرعيها وحفر تحتضن أشلاء أجساد وعيون ما فترت تغلق وتفتح أهدابها على مدامع مسفوحة.
نداء التوسل يلطم ضفة الشط وعيون بائسة وخيار مرّ إما الموت غرقاً أو ذل الأسر.
- محمود دعنا نجلس ننتظر مصيرنا. الأسر أشهر معدودات .. أفضل من الموت.
رعاف مدينة تزفر دماً ينزلق كسيل مدمر معلنة تمردها تفكُّ جدائلها تخنق خطواتنا وتضيق بنا فترمينا على ساحلها منبوذين. أتشبث برجاء الوجود وطفولتي تهرب لائذة تمسك بشباك الضريح بيدي رجل عملاق .
أرواح تفور وعيون شاخصة تتكدس على شكل مجاميع في زمن لا يعرف كيف يدار. انهيار يجعلك تخرس في تراتيل صماء
حاولت تفكيك مغاليق الفراغ وهضم كلمات زميلي الآن فوجدت طعمها مراً بعد ستة عشر عاماً من الأسر. وسؤال هل يوجد جواب يختصر أثام الزمن؟!
يد رحيمة لامست كتفي من الخلف التفت فوجدت زميلي يبحلق وعلى وجهه ابتسامة لا تخفي حيرته ومخاوفة هو أيضاً أراد بها إبعاد هواجسي ومخاوفي ليثبت أنه قوي وصلب عكس ما بداخله من ألم وحسرة.
- ألم أقل لك بالأمس أن الله قريب ويرانا فرحمته وسعت كل شيء.
- لم أرغب بإطلاق رصاصة الرحمة وتبديد ابتسامته بمخاوفي فخرجت كلماتي مرتجفة ركيكة : الحمد لله.. الحمد لله على كل حال.

التسميات:

آخر ما سمع .. قصة قصيرة .. ميسون سعدي .. سوريا


قراءة في القصة القصيرة 
آخر ما سمع 
للأديبة/ ميسون سعدي
سوريا 

ميسون سعدي




 أغدق علينا العصر بالكثير من النعم. قربت ثورة الاتصالات المسافات، ووفرت الكثير من وسائل الرفاهية. لكنها استلت من بين جوانحنا إحساساً بالحميمية والتٱزر الإنساني لا يعرفه إلا من عاش الزمن الجميل الذي سبق هبوب عاصفة التكنولوجيا. 
 هاهو الراوي تأخذه سنة من نوم يتذكر خلالها طقوس التواصل مع صديقه عبر الرسائل البريدية. حميمية الكتابة، الخطوات الى صندوق البريد، وأشواق الانتظار .. يجتر في غفوته حلاوة زمن التواصل الإنساني الجميل . لكنه يصحو على قسوة الواقع. قد كان يحلم بهاتف سلكي ليستمع إلى ضحكات صديقه، ويدرك تلميحاته، فلما أغدقت التكنولوجيا من خيراتها في صورة مواقع للتواصل جعلت العالم عند أطراف الأصابع، غاب الصديق وأعرض، واحتلت القلب وحشة.
 والصديق في النص الجميل هو معادل للصداقة في عمومها. فالقضية التي تبدو فردية في النص هي في حقيقتها قضية عامة في ذهن الكاتبة التي برعت في استخدام العبارات الدالة لكي ترفع من مستوى التجربة إلى المستوى أعم.
الاصدقاء الباهتون - 
- كأنه يجلس معه في الأزمان السابقة
نعيش عصراً اغدق علينا بالنعم ( لاحظ نبرة التهكم ) ) -
- قرر أن يزيل أصدقائه واحداً واحداً . 
 والقارىء يشارك الراوي وجدانياً في تجربته. فالصديق يتجاهل رسالته. وكلما أتته إشارة بوصول رسالة يسارع بتفقدها عساها تكون من صديقة فلا يجد إلا سيلاً من رسائل تافهة عن إعلانات وفرص وهمية، وترهات لا تعنيه. أما الرسالة التي ينتظرها فلا تأتيه أبداً رغم دلائل وجود الصديق أون لاين. عالم مزيف. وفرت فيه التكنولوجيا الوسائل. واستلت القيمة، والبهجة، والمعنى. 
 والخاتمة الموحية تعبر عن القلق وعدم الرضى اللذان يمثلان قدر الإنسان المعاصر. فحتى عندما قرر رفض هذا العالم المزيف، لم يستطع أن ينهي تعلقه به. فبينما يعالج سكرات الموت الاختياري، يظل يداعبه الأمل في أن الرسالة التي يعلن الجوال عن وصولها ربما تكون هي الرسالة المنتظرة من الصديق .
 نص جميل. يحمل فكرة مضمرة في ثنايا الأحداث، ويعجبني في نصوص ميسون اهتمامها وتعبها على الحبكة وقدرتها على توظيف الخيال لخدمة الفكرة دون أن تسقط في المباشرة أو التقرير.
أرجو فقط من صديقتي أن تراجع الفقرة التي تبدأ بجملة ( تذكر عبارة متداولة ..... ) . 
 كذلك الفقرة التي تبدأ بجملة ( أرجع ظهره إلى الوراء ...... ) 
فأراهما فقرتان زائدتان، شارحتان للمعلوم إضماراً. .
 كذلك أرجو أن تعيد صديقتي النظر في تكنيك الانتقال بالسرد مابين الحلم والواقع، فلم يبد لي متقنا كفاية. 
 أما القصة إجمالاً فأعدها من القصص المتميزة البارعة في عرض قضية عامة من خلال تجربة شخصية مغرقة في الخصوصية. 
تحياتي لإبداعك صديقتي ميسون
 ________ 



نص القصة 

 في سريره يتقلب ، يتذكر زمنا مضى ، كيف أنهى رسالته ، قرأها بصوت خافت ، قرأها بصوت عال . علت وجهه ملامح الفخر والإعجاب ، عاد وأضاف عليها عبارة رقيقة هنا وأخرى هناك ، وضعها في المغلف ، لبس ثيابه ، تأكد من وجود النقود في جيبه ، ثم انطلق إلى البريد كي يتم تلك المهمة الجميلة .
 عاد إلى غرفته سعيدا ، للحظات ... تمنى لوعنده هاتف .. لتكلما طويلاً ، تمتم : أسبوع أسبوعان وتأتي الرسالة ، إذا كنتُ مسافرا يضعها ساعي البريد عند البقال وأنا عند مروري كل يوم أسأله عن الرسائل .
آخ .... لو كان هناك هاتف .. كنت سمعتُ ضحكاتنا معا والتعليقات والتلميحات ...
 لو كنا معا ، كم كنا سنتمشى في الشوارع ونسهر مكررين نفس القصص ، ناسين أننا كنا معا عند حدوثها .
 استيقظَ مرة أخرى على نغمات جواله تُعلمه بوصول رسالة ، نعم ها هو صديقه يرد على رسالة البارحة والرسالة التي قبلها .
يقرأ : يبدأ التوقيت الصيفي بتاريخ 1/44 ، يقرأ الرسالة التي سبقتها : أسعار مخفضة بمناسبة الأعياد50% ... لا يكمل ، يعود للنوم ممتعضاً ، وفي نفس اللحظة يبتلع إمتعاضه كأنه يوقف شعوره قبل أن يستقر في ذاكرته وقلبه .
يستيقظ ، ينجز الكثير من الأعمال المهمة المتراكمة ، يأخذ كأس الشاي بين يديه ،
يجلس مستقرا في مكانه اليومي ، متخذا كل مايحتاج لجلسة طويلة .
 أنهى أعماله على الإنترنت ، تفقد المواقع التي تهمه ... شبكات التواصل الإجتماعي الأصدقاء الباهتون نوعا ما . بنظرة متفحصة منه يدرك أن صديقه الذي أرسل له رسالة البارحة موجود على موقع التواصل ، يستطيع أن يراه ويكلمه كأنه يجلس معه كما في الأزمان السابقة ، يكرر كما في الأزمان السابقة ، تدمع عيناه ، تزحف أصابعه باتجاه الأزرار ، يتراجع للحظة .
يرن هاتفه ...
 إحدى صديقاته المقربات تتصل تطمئن عليه ، تخبره بالكثير الكثير ، تنهي المكالمة يجلس لحظات يفكر بما قالته ، يعود للهاتف ، يتصل بها ، يخبرها ما عليها أن تفعله
 ناصحاً ، ينهي مكالمته بـ أخبريني فورا ماذا يحصل معك .. اتصلي بي بأي وقت دون إحراج أو تلكؤ .
 يعود إلى مكانه متمتما لا .. بين الأصدقاء لا يوجد .. لقد إتصلت أنا مؤخرا ولم يتصل بي حتى الآن . المهم أن نسمع بعضنا في زمن الإختراعات الجميلة .
كم نحن محظوظون .
 هيأ كل أسباب الراحة كي تكون جلسته مريحة ، دقت أصابعه برشاقة وسرعة على الأزرار ، تواصل الرنين ... لم يجبه أحد .
 للحظة فكر بعذر له ، خاصة أننا نعيش عصرا أغدق علينا بالنعم ، كل شيء فيه واضح جلي لايحتمل التساؤل مثل : لم يرَ إتصالي .
تشنجت تعابير وجهه ، تحسس ظهره شاعرا أنه جزآن .
تذكر عبارة متداولة ( لقد إنقسم ظهري ) ! ...
كان يسمع تلك العبارة عندما يفقد أحدهم إبنا أو أخا .
 شهق شهقات متكررة كي يستطيع أن يتنفس ، إمتعض بكل جوارحه ، أحس بما حوله دون أي ستار ، دائما كانت تلك رغبته ، غمره الهدوء والفرح ، كل أنواع السكينة ، تحسست أصابعه أزرار الحاسوب ، قرر أن يزيل أصدقاءه واحدا واحدا . توقف عند صديقه القديم ، إمتدت أصابعه كي تتصل المرة الأخيرة ، لم يفعل أيضا لم يزله .
أرجع ظهره للوراء ، تمدد متحسسا ظهره .
تمتم ساخرا .. إذًاً .. هذه هي حياتنا .. مهزلة وقذرة أيضا .
وضع بعضا من حبوب كان يتناولها في كأس الشاي ، نظر إلى العلبة .. أفرغ كامل محتوياتها .
كانت الخيالات تتوالى عليه وهو ذاهب إلى البريد واضعا الطوابع على رسالته .
 كم تمنى أن لا يكون آخر ماسمعه .. رنينه المتواصل لصديقه في زمن النعم .

التسميات:

شعور زائف .. قصة قصيرة .. اسماعيل مسعد .. مصر

قراءة في القصة القصيرة 
شعور زائف 
للأديب / اسماعيل مسعد 
مصر 

اسماعيل مسعد



لفت نظري أمران في النص.
 أولا : مايتعلق بالتوجه الحداثي في النصوص الأخيرة لإسماعيل مسعد، وأنا ألتقط تعبير ( الحداثي ) من مداخلته على تعليق الجنابي.
أما الثاني: فهو متعلق بما أثارته الجملة الختامية من جدل.
 أما عن التوجه الحداثي فهو مابدا أنه تأثر بأسلوب تيار الوعي. فالنص لا يسعي إلى طرح أو بلورة فكرة محددة، بل يبدو أن هاجس ما هو مايسيطر على حركة تدافع الأفكار في ذهن الراوي, ويشارك العقل الباطن في استثمار الصور البسيطة والعادية التى تحيط بالشخصية لكي يوجه مسار السرد في اتجاه تفتيت وتحليل الفكرة.
 فالحداثة إنما تعني هجر النمط القديم الذي يعتمد فيها البناء على تطوير الحدث في اتجاه عقدة وحل، لتركز المعالجة القصصية على الأعماق النفسية للشخصية، وليتم إقصاء كل الشخصيات المصاحبة، فلا تبدو إلا كونها مجرد محرك يطلق الأفكار من عقالها. والنص بهذا الشكل يسير في خط متوازي مع القارىء، بحيث لا يحقق التماس إلا في منطقة اللاوعي. ولذلك تتحقق التجربة القصصية في النصوص المعتمدة على تيار الوعي في نجاح عملية انتقال الهاجس من الراوي إلى المتلقي.
 وهاجس النص ربما يتماس مع استعارة الكهف لدى أفلاطون والتي تقرر أننا مقيدون بجسمنا لا نستطيع أن ندرك إلا ما هو محسوس. وبالرغم من أن هذا المحسوس لا يمثل إلا ظل للحقيقة التي لا يمكن بلوغها في العالم الواقعي إلا عن طريق التحرر من قيود الحواس والجسد.
 فإذا كان الكهف يؤكد أن صور المدركات الخارجية زائفة ومضللة, فالنص يفيد أن المحسوسات الداخلية بدورها لا تعبر عن حقيقة الواقع. ونحن نعرف أن المريض يستمر في الشعور بأصابع القدم المبتورة.
 لكن النص لا يقتصر دوره على التعريف بالحقيقة البيولوجية, وإلا لبدا مسطحاً بما يفقده جل قيمته. ويقودنا هذا إلى الشق الثاني المتعلق بالجملة الختامية : " هذا شعور زائف " .. وقد فطن أستاذنا المصطفي إلى العلاقة العضوية بينها وبين جملة الاستهلال : : لا بأس عليك اليوم " .
 فما بين الاستهلال والختام يتشظى وعي الشخصية بين تداعيات الذاكرة بما يتعلق بالحادث المروري الذي قاده إلى غرفة العناية الفائقة , وبين ما يتخلل ذلك التداعي ويحول مساراته فيما يشبه التهشيم المستمر . من تداخل أقوال الطبيبة وتدخلاتها العلاجية، وسطوع المؤثرات البصرية والحسية على سطح الوعي. من مشهد الأجهزة بأنابيبها " الغبية "، ومظاهر أناقة الطبيبة، وملمس الوسادة الهوائية. وأخيراً الرغبة الزائفة في التبول.
 يقول المصطفي بلعوام : (لو نربط مستهل النص " لا باس اليوم عليك " بنهايته " هذا شعور زائف " سنجد أنفسنا ربما أمام مفارقة متعددة الأبعاد بين ملفوظ الطبيبة وملفوظ المريض داخل النص ..
واذا حذفنا الجملة الأخيرة ، فلن يبقى إلا ملفوظاً مبتذلاص لا قيمة له إزاء معناه ) ,
وتقنية التداعي المرتبطة بتيار الوعي بما ينتظمها من تهشيم للخط الرئيسي للحدث تقود القارىء إلى الانتقال بمستوى التجربة القصصية إلى أفق أبعد من التجربة الشخصية. ليبلور رؤية تشاؤمية لمصير العالم. فالتقنية العالية والمتفوقة لمحتويات الصورة, والتعافي الظاهري للراوي الذي مر بمرحلة الصعقة الكهربية التي أنقذت قلبه من غفوة أبدية, لم تخف حقيقه أنه غادر غرفة العناية الفائقة مدفوعاً فوق كرسي مدولب " على إحدى الطرق اإقليمية " .. يصاحبه حفيف كلمات الممرضة " تحت الكمامة الطبية " , وهو رغم تعافيه الظاهري لا يمكنه التخلص من صورة .. " الردهة الرخامية الباهتة المشبعة بالموت والمغلقة بإحكام " ..
 فما بين الاستهلال، والختام . تتحقق الصورة التي تجسد الهاجس. بما يتجاوز المصير الشخصي للراوي ، لينسحب بشكل ما على مستقبل العالم .
 الملاحظة الوحيدة تتعلق بضبط مرجعية المونلوج، فبعض الأقوال التي بدا نسبتها إلى الطبيبة في النص يجب في رايي معالجة سياق السرد بحيث تبدو منسوبة الى الشخصية.
وفي ظني أن الجمل الثلاث الأتية فقط هي ما يتناسب وموقع الطبية في وعي الراوي .
- لا بأس عليك اليوم ,
- وظائفك مستقرة .
 - لديك خط أنابيب يمر حتى عمق مثانتك .. هذا شعور زائف.
أما العبارة .. " إذا لم تستطع الذهاب إلى الحمام، فليأت إليك الحمام " . فأراها متكلفة ولا تفيد , بل كونها متناصة مع القول المأثور يحدث تأثيراً سلبياً على استقبال التجربة .
 تحياتي لإبداعك صديقي العزيز اسماعيل مسعد . . 

 _______
تص القصة
( شعور زائف )
لا بأس اليوم عليك. قالت:
 أنت الآن تتشافى ذاتيا، مع بعض الدعم الدوائي وبضع قطرات من المكملات الغذائية، يتم حقنها تباعا فى عبوات المحاليل المعلقة فوق المشجب المقام، لا تزال مولودا لتوك من رحم غرفة العناية الفائقة، إثر حادث سير شنيع قد مزق أمعاء محرك سيارتك الألمانية العنيدة، ولا تزال عناية الرب تحيطك.
 عقبت وهي تقلب مطبوعات ملونة بعناية: وظائفك مستقرة، وسوف تنتهي تلك المعركة الوجودية لصالحك، إن أحسنت التصرف. ولم تستجب لآلامك.
طبيبة ذو اطلالة رائقة، نحيفة البنية وهشة كقطعة بسكويت.
 كانت سبابتها بيضاء ونحيلة كقلم رصاص، تنتهى بظفر مخضب بالحناء. تشير نحوي كمعلمة تعيد وتكرر فروضها المدرسية لتلميذ ليست لديه أية طموحات.
فقط وسادة هوائية باردة تحت جسد مسجي، فترات رقود مطولة ومنتظمه بقبح.
 الغرق فى التفاصيل كان الشعور الثاني بعد الخوف الأولى من الموت، علاقتي بالأشياء، آمالي القتلى تتشبث بالحياة عبر بضعة أنابيب شفيفة بغباء تتيح مشاهدة صديد وبول مخضبان بحمرة قاتمة، ونفث جراح، تمر فى قوافل ودفقات مرتبطة طرديا بأنفاسي.
 قياساتي الحيوية تتفاوت على شاشة مسطحة وبصورة فائقة الجودة، نغمات منتظمه بطبقات صوت رقمية ومطمئنة..
 فرحتى العارمة كفرحة طفل بدراجتة الجديدة وأنا مدفوع فوق كرسى مدولب عبر ردهة مركز الطوارىء على أحد الطرق الإقليمية، أغادر غرفة العناية الفائقة فى اليوم السابع، قالت احداهن فور استجابتي لصعقة كهربية عنيفة أيقظت قلبي الذى كاد أن يغفو للأبد. لقد عاد من الموت، هذا رجل محظوظ لا يزال فى عمره بقية. كان حفيف كلماتها تحت الكمامة الطبية لا يزال صداه يتردد فى الردهة الرخامية الباهتة المشبعة بالموت والمغلقة بإحكام..
هل أستطيع ان أذهب إلى الحمام؟
أجابتنى بابتسامة منقوصه وعبارات أخذت تنمقها فبدت كمسكنات:
إذا لم تستطع الذهاب إلى الحمام، فليأت إليك الحمام.
لديك خط أنابيب يمر حتى عمق مثانتك..
 هذا شعور زائف ...!

التسميات:

الاثنين، 15 مايو 2017

قراءئة في القصة القصيرة .. " صلاة " .. للأديب / سليمان جمعة

قراءة في القصة القصيرة 
صلاة
الأديب / سليمان جمعة 
لبنان 



سليمان جمعة 




حطت النحلة على حجر، لم تحط النحلة فوق بتلات الزهرة تتلمس الرحيق.
هل خاصمت النحلة الزهرة؟ ، فاستبدلت بها حجرا؟.
مالها النحلة تبكي؟، يعتصر قلبها حزن دفين، تساقط لواعجه قطرات من عسل مصفى، يسيل على خميل الورد.

- اتبكين؟
وكأن الوردة المشتاقة لدبيب النحلة قد هيج فؤادها العسل المسكوب انسكاب الدمع.
في السؤال هلع، وحزن. وفي انتشار الأريج - يبوح بالحزن ويعكسه - توق والتماس للعون لدى عناصر الطبيعة والكون، علها تهدهد أحزان النحلة، وترتق جروحها.
لكنها - الطبيعة - ليست رحيمة في كل ٱن، للطبيعة مسارات لا تحكمها لواعج الحزن، ولا استشرافات الأمل. 
نحل البادية الفظ يمتطي صهوة الشوق، مسفراً عن نهم وحشي لالتهام العسل المسال، لا يردعه رفيف أجنحة شفيفة تنعي الأهل والخميل، والصحاب، ولا شذى يسعى ملتمساً العون في الأرجاء.
يلتهم النمل سكراناً بالنشوة روح السكر المذاب. تدوي صرخات النشوة من بين فكوك شرسة عطشى للمتعة المجانية. يرتاح السراب إذ اتخمته صرخات البهجة واللذة.
لك الله ايتها النحلة، قدرك أن تصير ٱلامك وأحزانك صدىً تتجاوب به الأرجاء. يحمله الأثير من واد إلى واد ، ليزهر أينما حل ألماً يولد من رحمه أمل جديد.

يمتلك صديقي القصاص الشاعر سليمان جمعة  زاداًمن مهارات اللغة، ومن القدرة على فهمها، واستيعاب ماتختزنه الكلمات من طاقة قادرة على تفجير اللحظة الشعورية المطلوبة للقصة القصيرة، والتي يمكن تسميتها البؤرة، أو لحظة الأزمة.
تأمل كيف عرٍِِّف الفنان زهرة البنفسج تعريفاً 
واضحاً جلياً بالألف واللام، باعتبارها الشاهد الموثق للحدث، بينما جهَّل النحلة.. " حطت نحلة ". أما الحجر فتركه مابين التعريف والتجهيل، حيث يمثل الحجر العالم الذي تدور فيه الأحداث، ومناط التأمل، فلم يعرفه إلا بنسبته إلى زهرة البنفسج ،" يعلوها بقليل " .
- تامل المزج بين الدمعة تنحدر من العين، وبين قطرة العسل تتهاوي فوق الخميل، وهو مزج في الصورة من حيث حركة الكتلة، لكنه ينطوي على إحساس كثيف بالمرارة من حيث تحول قطرة العسل المصفى خلاصة البهجة والشفاء والارتواء، إلى صورة السائل الملحي الذي يعبر عن الكدر والحزن، والهم. وهو تصور على ماينطوي عليه من دلالة التقابل يحتوي على ثراء تعبيري إذ يشرك أكثر من حاسة لاستقباله.
كذلك التقابل في " الصراخ اللذيذ " .. و " نشيد الالم " . 
تلك المهارات التعبيرية استطاعت أن تشحن النص القصير بدفقة من الدلالات والإيحاءات مزجته بطاقة شعرية، وارتفعت بمستوى التجربة القصصية إلى مايتجاوز الحدث البسيط إلى مصاف القاعدة الكونية التي اشرت إليها، واقتربت بالتجربة مما يشبه الصلاة .. صلاة من أجل عذابات - لا أقول الإنسان


- بل عذابات الكائنات.
صديقي المبدع سليمان جمعة نسيج وحده . 
كل التحية والتقدير له.


نص القصة 

صلاة أتبكين ؟ارتعشت زهرة البنفسج قبالة نحلة حطت على حجر يعلوها بقليل..باح عطرها وانتشر اعلانها عن حزن النحلة التي،وحيدة بعد تدمير قريتها ،استمرت بالرفيف الدامع...وتساقطت قطرة العسل على خميل الورد الحيي...اكتسحها نحل البادية الفظ و.....التهمها . ارتاح السراب مكتظاً بالصراخ اللذيذ ... اعتل الصدى المزهر يبوح بنشيد الالم ..

التسميات:

الجمعة، 5 مايو 2017

الميزان .. قصة قصيرة .. محمود السانوسي .. مصر

الميزان 

قصة قصيرة 
محمود السانوسي

 مصر 




محمود السانوسي



 عندما أصلحت الميزان ضربني، وعندما فرزت الفاكهة التالفة ونحيتها جانباً ضربني، وعندما خيرت الزبون بين أن يختار بيده بعدما تتأكد عينه من سلامة الفاكهة قال : أنت خسارة عليَّ وطردني.

 أجمع بقايا الخضار أخر اليوم، أحمل على ظهري أقفاص وشكائر خيش إلى سقيفة الأغنام، وأتذكر شتائمه : أنت مثلها تأكل ولا تفهم، قلت: ماذا يريد أبي غير أن يغش الناس، قال الشيخ : هذا حرام، وقال أبي : من عقني ليس مني، وقال الحديث الشريف : من غشنا فليس منا، وقال الزبون : لا تفضحني ... وجدت نصف الفاكهة تالفة فقلت أختلس حقي.
 قلت للمأذون: حاول أن تصلح بينهما، قال أبي غاضباً: لا تتدخل فيما لا يعنيك، ونظر للمأذون وحدثه وأخرج له نقوداً ورقية، وكان المأذون مقتنعاً بكلام أبي، قال الشاب لأختي: اضطررت أن أقدم لكي شبكة عيار 14 واتفقت مع تاجر المصوغات أن يوهم أهلك أنها من عيار 21، ليس لدي أموالاً تكفي لكل هذه الجرامات الذهبية التي طلبها والدك – وبكى – وقال لها سامحيني، ونظرت له أختي بحزن ومودة وقالت له: لو سامحتني أسامحك. اعتذر والد العريس لأبي وقال له: وأنتم ألم تفعلوا كذا وكذا، وشعرت أمي بالحرج، وحاولت أن تدافع عن أبي، فقالت لأم العريس: نحن مضطرين ...زوجي على باب الله وأخيها ما زال بالتعليم ... والمظاهر والعادات تطالبنا بالمفروشات والمطبخ، وما لا طاقة لنا به، ثم صمتت برهة وهي تتلصص رد فعل أم العريس وأكملت حديثها بثقة: وإن كانت هناك أدوات مستعملة من أختها المطلقة فهذا لا يعني أننا خدعناكم، وانتهى كل شيء على لا شيء.
 ولكن أبي أصبح يتكلم معي ويدافع عن رأيه ويصر عليه، ولم يعد يستخدم معي الضرب والبصق والشتائم، قال لي أخر مرة: أصلح حالك قبل أن تصلح الميزان، وكنت كلما أسمع هذه الجملة وتتبعها نظرات حادة كاشفة من أبي، أنكس رأسي وانصرف صاغراً متبعاً الأوامر والتعليمات، قلت لها: تعالي ، لا تخشي شيئاً... أبي ينام القيلولة، وكانت تقول: الخضار غير طازج، وكنت أقول لها بلهجة مهتاجة وعينين واثبتين: أنت كل الطزاجة، وكانت تضحك وتملأ سلتها بالخضار والفاكهة، بينما كفتي الميزان يحركهما الهواء صعوداً وهبوطاً. 


 محمود السانوسي عبادي

التسميات:

الخميس، 4 مايو 2017

فشة خلق .. قصة قصيرة .. مصطفى الحاج حسين .. حلب

فشّة خُلق 
قصة قصيرة
 مصطفى الحاج حسين .
حلب



مصطفى الحاج حسين


مابوسعِ المعلّم " عدنان " أن يفعلَ  إذاكان بيته يبعد كثيراً عن المدرسة التي يعلّمُ فيها ؟ .. وعليه أن يستقلَّ حافلتينِ للنقلِ الدّاخلي  .. ثمَّ يتابع طريقه سيراً على الأقدام مدَّة دقائق  .
وماذا يفعل إذا عَلِمنا بأنّ الحافلة الأولى التي سينحشر بداخلها  لا تأتي قبل السّادسة والنّصف ؟ ، ولا يصل إلى محطّةِ
 المنشيّة إلّا بحدودِ السّابعة ، ثمّ عليهِ أن ينتظرَ الحافلة الثّانية  .. ولا وسيلةَ نقلٍ أخرى  يمكنه أن يستعملها  سوى " تكسي الأجرة " ويعجز راتبه بالتأكيد عن تغطية
نفقاتها  .
وما بيده إن حاول باستماتةٍ، ورغم كلّ الواسطات التي لجأ إليها كي يعيّنهُ المُوجّه في مدرسةٍ قريبةٍ من سكنهِ، لكنّ المُوجّه يعتذرُ بحجّةِ أنّ لا شاغرَ لديهِ .
ثمّ نوّهَ بأنَّ نقل الأستاذ " عدنان " من منطقةِ " عين العرب " إلى حلب ، بعد، بحدِّ ذاته شيئاً عظيماً وغير قانوني ، لأنّ دفعة زملائه في التّعيينِ  لم يصدر قرار نقلهم رغم أربع سنوات على غربتهم.
وما حيلته إن كان قد طلب من مديره أن يعفيه من إعطاء الحصّة الأولى كي لا يتأخّر على طلابه  .. لكنَّ السّيد المدير اعتذر  متذرعاً بالبرنامج المدرسي  الذي لا يمكن تغييره .
فكرة أن ينقل مكان سكنه إلى منطقة أقرب مرفوضة بالتأكيد، ذلك لأنّه يقيم وزوجته وابنتيه الصّغيرتينِ في غرفة خانقة وضيّقة عند أهله، ولا مال لديه للإيجار أو غيره، فقد تزوّج بالتقسيط ، ولم يزل يدفع من مرتبه ومرتب زوجته الأقساط المترتّبة على عنقيهما.
السّيد المدير غارق إلى شحمة أذنيه بالبيروقراطية والاستبدادية، وهو في الحقيقة لا يصلح إلّا أن يكون محقّقاً  بارعاً في الطّعن والانتقام ممّن يتجاسرون عليه،
 وممّن ينصاعون إليه أيضاً، فما من معلٌمٍ خدم في مدرسته إلّا وكتب بحقّه أكداساً من التّقارير، واقترح بشأنه آلاف العقوبات والانذارات ، مستعيناً بالآذن " عبد الفتّاح " ،
الذي أطلق العنان لأذنيه وعينيه ومنخاره، لرصد ما يحدث داخل أسوار المدرسة وخارجها.
فما إن يصل المعلّم " عدنان " إلى المدرسة، ويدخل الصّف، حتّى يقتحم عليه
الآذن الباب حاملاً استجواباً خطّياً من السّيد المدير:
- ( بيّن سببَ تأخرك المتكرّر يا أستاذ عدنان . ) .
كان يرتبك ويحمرّ وجهه خجلاً أمام طلّابه، يجلس خلف طاولته ليردّ على الاستجواب ويقدّم اعتذاراته الشّديدة التّهذيب، وكان ينسب تأخّره بالطبع إلى سوء تنظيم المواصلات ، لكنّ المدير لم يكن يقبل هذه الاعتذارات، فيبادر إلى كتابة تقرير مفصّل بحقِّ المعلّم ويرسله برفقة الاستجواب إلى المديرية مع اقتراحات
عديدة، منها إعادة الأستاذ " عدنان " إلى الخدمة في الرّيف، إلى جانب الحسومات من راتبه.
وكان المدير الذي يتظاهر بعشقه للنظام يسجّل ملاحظات التّأخير في دفتر الدّوام
، وكثرت الملاحظات من الموجّه بحقّه.
ضاق بمديره وتقاريره ذرعاً، وفكّر بتقديم استقالته، لكنّ دموع زوجته، ومنظر ابنتيه الصّغيرتينِ منعاه من اتّخاذ القرار، فماذا يمكن له أن يعمل إن استقال.
واليوم وصل متأخراً كعادته، يبدو منزعجاً بسبب اقتطاع أكثر من ربع مرتبه الذي قبضه أمس، وما كاد يدلف إلى صفّه، حتّى اقتحمه الآذن " عبد الفتاح "  حاملاً
الاستجواب الأزلي :
- ( بيّن سبب تأخّرك المتكرّر يا أستاذ عدنان  ...) .
تناولَ الورقة بعصبيّةٍ واضحةٍ، ولم تُخفَ هذهِ الحركة على " عبد الفتّاح " بالطبع ، فقد تمكّنَ من رصدها وحفظها، جلس المعلّم خلف طاولته، وشرع في الإجابة بعد أن تجرّأ وأشعلَ سيكارة، ممّا فجّر الدّهشة والاستغراب على وجه الآذن وعلى عينيهِ الثّعلبيّتينِ ، ولم يعرف ما يفعل .. هل يهرع إلى السّيد المدير ويطلعه على ما يحدث .. أم ينتظر ريثما ينتهي المعلّم من ردّه، لكنّه في النّهاية فطنَ إلى ضرورةِ البقاء
 كي لا تفوتهُ أيَّة حركة من تعابيرِ وجهِ المعلّم الذي شرع في الرّد :
- السّيد مدير المدرسة ، المحترم :
نعلمكم عن سبب تأخّرنا لهذا اليوم ...
أيقظتني زوجتي كالعادةِ ، كان الفطور جاهزاً إلى جواري، ازدردتُ لقمتينِ على عجلٍ ، ثمّ أشعلتُ سيكارة لأنفثَ دخّنها على رشفاتِ الشّاي السّاخنة، كانت زوجتي تهمُّ بارتداءِ ملابسها لتلتحقَ بمدرستها هي الأخرى، وقعت عيناي عليها، فأثارتني، مددّتُ يدي وشددّتُها، طوّقتها بذراعيّ، حاولت أن تتملّصَ منّي، جذبتها بقوّةٍ، قالت :
- سنتأخّر .
قلتُ :
- طُز .
- سيقطعونَ عنّا الرّاتب .
هتفتُ :
- طُز.
صاحت :
- ومديركَ .. ومديرتي ! .
أجبتُ :
- طُز.
- سترتفع بنا التّقارير.
- طُز.
احتضنتها وصراخها ينبعث :
- مديركَ يا عدنان .. ومديرتي .. لن يرحمانا اليوم .
وكنتُ أهمسُ كالمحمومِ :
- طُز منهم .. واللعنة عليهم .. وعلى مدارسهم ، وتقاريرهم ، وأذانهم .. فليطردونا، وليقطعوا عنّا الرّاتب، بل ليقطعوا أعناقنا..
لكنّي لن أترككِ تفلتينَ منّي .
وهكذا ياسعادة المدير المبجٌل ، أمضينا ربع ساعة من أروع لحظات العمر، استرجعنا خلالها تلكَ الأيّام الجّميلة، فأنا يا جناب المدير كثيراً ما كنتُ أغفو قبل أن تتفرّغ إليّ زوجتي بسببِ طفلتينا، أغفو وأنا على جمرِ الانتظار، لأنّكَ يا جناب المدير سرعانَ ما تبرز أمامي لتذكّرني بضرورةِ النّوم باكراً، والاستيقاظ باكراً، لألهث خلف الحافلات.
أعترفُ بأنَّ سبب تأخّري اليوم هو الاستهتار منّي واستسلامي لشهوتي، ويمكنكَ يا جناب المدير أن تفعل ما تراه مناسباً، وليس بإمكاني سوى أن أردّد لجنابكم
- طُز .. والسٌلام .
وقرأ المعلّم " عدنان " الكلمة الأخيرة بتلذّذ عالي النّبرة. ففتحَ الآذن " عبد الفتّاح"
باب الصّفّ بقوّةٍ ، وخرجَ مذعوراً ، مسرعاً،
 راكضاً، لاهثاً، وكان الممرّ الضّيق الطّويل، وبوابات الصّفوف، والدّرج المؤدي إلى الإدارة، وسائر جدران المدرسة، والمقاعد، وقطع الطّباشير، وكلّ مافي المدرسة من أثاثٍ، تهتفُ خلفَ الآذن، وبصوتٍ جماعي قويّ يشقُّ عنان الصّمت، تلك الكلمة التي
ارتفعت حتّى ارتطمت بعيون السّيد المدير وهو يقرأها فاغراً فمه على مصراعيه :
 - طُز .. طُز .. طُز .
مصطفى الحاج حسين .
حلب

التسميات:

الأربعاء، 3 مايو 2017

ظلال لا تعني شيئاً .. قصة قصيرة .. محمد عبد الحكم .. مصر

ظلال لا تعني شيئاً
قصة قصيرة 
محمد عبد الحكم 
مصر



ما الذي يشعل الصليل في بيت جارنا، جارنا الذي ما أرانا النهار وجهه ولا أنبأت عن قدومه العصافير، فيتقشر الظلام عن امرأة تنحني كإوزة، تنخل تراب البيت وتنفض، فتتعارك أشباح التراب وتتسلل من الباب الموارب، حيث جذع النخلة قابع كعجوز أمام البيت، تحاصره أسراب النمل وتنبت فوقه حكايا العابرين..
قالوا كانت فوقه نخلة مائلة، تدلي جريدها المنفوش على بيت جارنا، تصافح فضاءه وضوءه الشاحب وظلين لجارنا وزوجته، وهما يتماوجان على وقع أكف ومواويل وعبق توابل، يروحان ويجيئان، هما الظلان " متباعدين .. متقاربين، ومتقوسين .. منفردين .." هكذا على صفحة الجريد، والنخلة تنحني كلما زاد التماوج، فتتسع عيون تطل من تحت السطوح وقباب الأفران والبيوت المتلاصقة، وتنسج الأفواه خيوط حكايات تنبدر عبر الدروب والموارد والأسواق والبلاد البعيدة، تقابل جارنا أينما ذهب، تتشابك المواويل والضحكات ورقصة الليل، دائرة تلتف حول المرأة وتحاصرها، تتبعها القهقهات والغمزات من خلف الأبواب المواربة وجذوع الأشجار ونقوش الظل، فتنكفئ وتعتدل وتكبكب جرتها على صدرها اللاهث وأنينها المتقطع .
والنخلة تلم ظلها وتعتدل في وجه النهار، وكأنها لم تراقب البيت وجريدها لم يرو الحكايا .
إجتثها جارنا ونحن في أحضان أمهاتنا لا نعلم شيئا، فقط نسمع خبطات بلط تنحر في لجج الظلام، لهاث متتابع وأنفاس محاذرة، أزيز ينمو كالرعد يسحق الآذان المتنصتة، والنخلة تطقطق ثم تميل شارخة رماد الظلام، تخبط على تراب الشارع اللدن، فتطير يمامة مختبئة، وتختبئ حمامات أخرجت رؤوسها من البناني، يلتئم الفراغ وتحتضر خيوط الضوء في بحر الظلام، وفي الصباح ما رأينا جارنا ولا عشرات البلط، ولا الدهشة على وجه المرأة وهي تحمل جرتها وتمضي صوب النهر، ولا نخلة كانت هنا، كان التراب مخربشاً، والشارع فارغاً إلا من زرازير تتخطف أشياء لا نراها، وتنط محاذرة الأبواب المواربة.
جارنا يسوق حماره ويسرح بخرجيه في غبشة الفجر، يغوص في اللزوجة والندى وانحناءت الطرق حيث البلاد البعيدة، فلا نرى سوى مواضع حوافر حماره خارجة من البيت تلتحم وخربشات العصافير، ونشم عبق التوابل.
وجارتنا التي ما عطست أبداً .. تسبح في نهر الشارع، تجر طرحتها السوداء وتمضي ككتلة الظلام العجوز، وعلى الشاطئ تنحني وتتنصت، ثم تملأ على مهل، فلا تسمع سوى قعقعة الماء المتدفق في بطن الجرّة، تعود خفيفة كاليمامة، تغلق الباب على لمبة تحتضر وحزم وأعشاب معلقة على الجدار، وفرن مسود الحواف، ودجاجات ينخلن البيت بعشرات المناقير، وديك يتابع القفز فوق أجسامهن المستسلمة، وباب يصطك في وجوهنا المتطفلة.
فرس الضوء الشقي يجوب الشوارع، تتجلى بهجة الأشياء، ونلتف بحكايتنا حول جذع النخلة، ورائحة
بخور، وباب يغلق في وجوه أمهاتنا اللاتي افترشن ملاءة الشمس ورحن يقزقزن الحكايات عن نخلة كانت هنا، تتماوج عليها ظلال مبهجة، فتسهر البلدة حتى الصباح، ترى وتشتهى وتنسج وتحكي عن جارنا الذي يسرح في غبشة الفجر، يبيع بعيداً ويعود وحيداً متدثرا بالظلام ، يتحسس محفظته المنتفخة، يفضحه نهيق حمار يجلجل في قرية نائمة، ورائحة توابل تعبئ فراغات الشوارع، يقتحم مستطيل الضوء ويصفع الباب في وجه الظلام، يقشر الطرحة عن وجهها الطفولي، فتجلجل ضحكاتها ملء الحقول، وكأنها ما كانت صامتة ولا وجهها متلفحاً، والذي كان يشق الظلام صامتاً كحجر، يتجرد الآن من صمته الأبدي ويغزل
المواويل، تلف عصاه العوجاء مخربشة وجه الفراغ، وتدك قدمه تراب البيت، فيتطاير عبق التوابل وينتشر تحت سطوح البيوت، تتعالى قهقهاتها وخشخشة كردانها والغوايش، وجسدان يروحان، ويجيئان في ساحة البيت، وظلال شاحبة في بحر الظلام لا تعني شيئا.



التسميات:

الثلاثاء، 2 مايو 2017

قصة قصيرة بعنوان .. " متلازمة الرداء الأبيض " .. للأديب / اسماعيل مسعد .. مصر

متلازمة الرداء الأبيض 
قصة قصيرة 
الأديب / اسماعيل مسعد
مصر 

اسماعيل مسعد




 يتألف الكون من قصص، وليس من ذرات أو هيولى، والله وحدة هو الذى يمنع المحن أن تاتي دفعة واحدة، تتجاوز صفحات الإنترنت المفهرسة تعداد نجوم السماء بعدة مراحل، اقتراب موتي عند شاشة لمسية، وأدلة تمر عبر الأبواب المغلقة، توضع بين ثنايا الحروف حبات من التوت البري، ومن المفترض أن يذهلنى ذلك، أنفى حمراء داكنة مثل سمكة شبوط، وزهرة قلنسوة تركية على حافة شرفة مقابلة، جاء طائر الطنان ذو الحنجرة الملونة، تبا لأحلامى التى لا تتوقف ولا تتحقق أيضا، كان المنطق هو السبيل الوحيد لابتكار حلول فاسدة، إذهب لخارج الصندوق، عبارات لا تنفك تذكرني بغبائها، كل ما أحبه أو أريده، يأتينى فى توقيت غير مناسب، طبقا لقانون مورفي، من ذا الذى قال أن كل شىء على ما يرام؟
 مرت رصاصة داخل ثقب قديم فى قلبى، استجاب للدعم الطبي وتدليك خفيف، رغم خشونة يد الممرضة. من أجل ذلك أواصل الحياة.
 أما الحظ السيء حين يأتى، فلن يغادر قبل أن يتأكد أنه حطم كل شىء، تزوجت مرتين، الإنسان انطباعي التأثير، طلقت الأولى وخلعتني الثانية، أمى تقول من الجيد أن تغرق السفينة داخل المرفأ، لأن كل شىء يذهب للإتجاه الأسوأ تحديداً، آمل أن تثير تلك النقطة تفكيرك.
طباع غريبة...
 محاولاً أن أكون شخصاً لا يفوته شيء، أحرص على أن أثير اهتمام الجميع، هل تتصرف كما تحتم عليك مبادئك، أو كما يملي عليك. مؤمناً بالصفة الأسمى لأشكال الترابط، وسهولة تفسير السلوك داخل روايات الوعي. ومرضى اللمباجو. 
 قال الطبيب الفاسق: هذيان واضح ومستمر، ميجالومينيا، قابليات استثنائية وعلاقات مهمة وأموال طائلة، الفرح يزيد عن الحد، كل الظروف مهيأة لاستقبال منظومة هذيانية.
إرادة شديدة فى فى إشباع رغبات ملحة، إلحاح تيار من الفشل والإحباط الذاتي..
 هل تعتقد أنك المسيح..؟ هل تحب أن تلحق بذاتك الأذى.؟ أم أنك الأمير تشارلز ولى عهد المملكة المتحدة.؟
يا إلهى لا تدع ملائكتى تبتعد كثيرا، عبوات ناسفة داخل رأسي!
أخبرهم أن يبتعدوا، أنت فى القميص الأصفر ناولنى مسدس...!
قررت تدوين تجربتي الخاصة، من وجهة نظر داخلية، سأكتب على الغلاف، قراءة بعد استشفاء أول،
هل تتعاطى المخدرات؟ .. أنا ! مستحيل. أتعرف جيدا على الأشكال والأماكن والزمن.
 أكتب مذكراتى دون دعم دوائي، وأعمل بدوام كامل، وأتحمل مسئوليات وأغني فوق السطح، دعونى أطفو !!
 أهتز بهدوء، ثم أئن برفق، جسد مرتجف، أشجار برتقال وليمون، تفجير شنيع لا يساعد على النجاة أبداً.
 تسلل شخص ما وسط تلك الفوضى، فقام بزرع رقاقة من السيليكون داخل رأسي، كان خطأ فادحاً نحوي، إذابة الحبوب المنومة فى رحم كوب من العصير، أو تفريغ العبوات الجيلاتينية على مرقة الدجاج، استقلت أم أنهم رفدوك؟ الجميع مصاب بالفصام، زوجاتنا وأصدقاؤنا وزملاؤنا فى العمل.
 الانهيار أمام الجميع يمنح تجربتك عمقاً، ويشغل ذهنك بقضايا معقدة، حركة الأجرام، وألوان السراويل الداخلية تحت الأردية البيضاء لطواقم التمريض.
 الحصول على علاج ملائم فى توقيت مناسب، هناك حبة تبتلعها فتشفيك دفعة واحدة ( بعض المعلومات الواردة هنا تحتاج إلى تدقيق )، ما أريده هو نفس ما يريده الجميع!
زوجتى تتحمل ذلك، سبعون فى المئة، سأخبر الله بكل شىء! من يملينى رقم هاتفه؟
 العبور من طريق الآلام النفسية، مستوى الصوديوم فى الدم خمسة أضعاف المعدل، أوركسترا سيمفونى مات قائدها إثر حادث تصادم بقسوة، انفصال المعنى عن الشعور، طبيب غبي وأسرة مريضة، لغتهم غريبة، زوجة باعثة على الفصام، من يتحمل مسئولية ذلك، متناقض ومشوش، لديها مصطلحات قادرة على إحداث خلل بمستوى الأنسولين فى الدم.
 أجراس عنيفة تدق داخل رأسي، رائحة كرنب مسلوق، تطلب الأمر جهداً كى أحظى بطفلة، أخلد للنوم. لا توقظونى مرة أخرى.!
 أنت بحاجة للذهاب إلى المشفى، تسعون ساعة يوميا داخل القيود، هؤلاء معاقون بخطورة.. إنهم قنابل قيد الإنفجار!
 تبكى مثل أرغن حزينة، بجوار زهرة سوسن ببتلات ثلاث، أثمر توت السياج يا أبي، ثم هدبة عين وزفير حار، ورغبة شديدة فى اجتياح بكائى، عناق وتنهيدة. أبوك عديم الفائدة، أريد مساندتك يا صغيرتى.


 ألن تأخذوني معكم إلى المنزل هذه المرة، أنا أفتح الباب للآخرين كشخص بالغ، وأقوم بالرد على الهاتف، القليل من المجاملة يعنى لى الكثير..
 أنت بحاجة ملحة للبقاء داخل المشفي!

التسميات:

قراءة نقدية بقلم د/ حمد حجي. في القصة القصيرة جداً .. " ثلاث ورقات " للأديب عبد السلام هلال

قراءة نقدية بقلم الدكتور/ حمد حجي
في القصة القصيرة جدا
ثلاث ورقات 
للأديب / عبد السلام هلال 
عبد السلام هلال

د. حمد حجي



الله ... الكتابة على نمط الكبار و العالميين .

لو كانت القصة لي لتمنيت ان أعنونها : القصة يمكن تسميتها القصة الكاملة، على طريقة الجريمة الكاملة للروسي الكبير
 النص حقا راق لي ... بباب التناص .. الذي يرفع النص ويؤدي نصية النص
 ـــــــــــــــــــ تكتب صديقي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على طريقة القاصة (شيرلي جاكسون) التعالق النصي : 
1- قصة عنوانها يانصيب :The Lotteryللكاتبة :  SHIRLEY JACKSONلقد أبدعت (شيرلي جاكسون) في تصوير يومٍ صيفي جميل مليء بالصخب ولعب الأطفال وجميع ألوان السعادة، وجعلت القارئ يعيش في أجواء سعيدة ينتظر فيها نهاية لطيفة ويانصيبٍ ممتع. وفجأة يُصدم القارئ بالنهاية الوحشية المتمثلة في رجم السيدة هاتشينسون حتى الموت.
  جمالية نصك تتمثل في انك :
استعملت نفس طريقة السرد : بدأت القصة عندما تجمع الناس لحضور اليانصيب وانتهت بانتهاء عملية السحب .الكاتبة تركت الاطفال يلعبون لكنني أراك تقحم الأطفال باللعب وبذلك تجاوزت قصة الكاتبة الكبيرة شيرلي جاكسون. رأيت الطفل هنا يلعب اليانصيب بين 3 صور وأقحمت تأثير القمار في الغدر بالبيع للناس المغشوش ... هذه روعة نصك بتقديري ..
ــــــــــــــــــــــــ تكتب صديقي ـــــــــــــــــــــــــــــ على طريقة سرد الرواية..بالحذف الزمني (رواية Lord of the Flies للكاتب (ويليم غولدنغ))
2- رواية Lord of the Flies للكاتب (ويليم غولدنغ)وهذا يذكرني برواية 

Lord of the Flies للكاتب (ويليم غولدنغ)، والتي تبدأ بلعب الأطفال واستكشافهم للجزيرة التي يعيشون فيها بعدما وقعت طائرتهم في المحيط، وتنتهي بتحول جماعة من الأطفال إلى بربريين متوحشين يقتلون بعضهم....
ـــــــــــــــــ وها أنت حوَّلت الطفل الى أكبر غشاش هنا حين تبخيس ما يقدم من مبيعات مغشوشة ..وحذفت ايثالات السرد ..
ـــــــــــــــــ أبدعت بهذا النص ...تمنيت أن لا يكون تشكيل النص خطيييييييييييييييييييييي....
الجملة فيه متتالية كالقطار تثقل رؤية القارئ ..
ــــــــــــــــــ رؤية ماذا لو كان التشكيل البصري للنص هكذا :


قصة قصيرة جدا 


ثلاث ورقات
تأسرني اللعبة كلما دخلت ساحة المولد ، 
أرتادها ..
للارتزاق واللعب ،
 في كل مرة أفقد بعض الجنيهات التي أكسبها من السوبيا التي أبيعها للبسطاء الذين يرضيهم طعم السكر ورائحة بقايا جوز الهند .
تأخذني حماسة اللعب عن مراقبة يده التي تخفي صورة البنت ، 
وأظل أحلم أن أهزمه 
وأعوض خسائري اليومية ..
لا أجد تعويضا إلا تخفيف السكر في خلطة السوبيا ....

جميل النص ... بوركت

د / حمد حجي .. المغرب 
____________   

نص القصة 
ثلاث ورقات .
 تأسرني اللعبة كلما دخلت ساحة المولد، أرتادها للإرتزاق واللعب، في كل مرة أفقد بعض الجنيهات التي أكسبها من السوبيا التي أبيعها للبسطاء الذين يرضيهم طعم السكر ورائحة بقايا جوز الهند.
 تأخذني حماسة اللعب عن مراقبة يده التي تخفي صورة البنت، وأظل أحلم أن أهزمه وأعوض خسائري اليومية. لا أجد تعويضاً إلا تخفيف السكر في خلطة السوبيا.
عبد السلام هلال 

التسميات: