شعور زائف .. قصة قصيرة .. اسماعيل مسعد .. مصر
قراءة في القصة القصيرة
شعور زائف
للأديب / اسماعيل مسعد
مصر

اسماعيل مسعد

اسماعيل مسعد
لفت نظري أمران في النص.
أولا : مايتعلق بالتوجه الحداثي في النصوص الأخيرة لإسماعيل مسعد، وأنا ألتقط تعبير ( الحداثي ) من مداخلته على تعليق الجنابي.
أما الثاني: فهو متعلق بما أثارته الجملة الختامية من جدل.
أما عن التوجه الحداثي فهو مابدا أنه تأثر بأسلوب تيار الوعي. فالنص لا يسعي إلى طرح أو بلورة فكرة محددة، بل يبدو أن هاجس ما هو مايسيطر على حركة تدافع الأفكار في ذهن الراوي, ويشارك العقل الباطن في استثمار الصور البسيطة والعادية التى تحيط بالشخصية لكي يوجه مسار السرد في اتجاه تفتيت وتحليل الفكرة.
فالحداثة إنما تعني هجر النمط القديم الذي يعتمد فيها البناء على تطوير الحدث في اتجاه عقدة وحل، لتركز المعالجة القصصية على الأعماق النفسية للشخصية، وليتم إقصاء كل الشخصيات المصاحبة، فلا تبدو إلا كونها مجرد محرك يطلق الأفكار من عقالها. والنص بهذا الشكل يسير في خط متوازي مع القارىء، بحيث لا يحقق التماس إلا في منطقة اللاوعي. ولذلك تتحقق التجربة القصصية في النصوص المعتمدة على تيار الوعي في نجاح عملية انتقال الهاجس من الراوي إلى المتلقي.
وهاجس النص ربما يتماس مع استعارة الكهف لدى أفلاطون والتي تقرر أننا مقيدون بجسمنا لا نستطيع أن ندرك إلا ما هو محسوس. وبالرغم من أن هذا المحسوس لا يمثل إلا ظل للحقيقة التي لا يمكن بلوغها في العالم الواقعي إلا عن طريق التحرر من قيود الحواس والجسد.
فإذا كان الكهف يؤكد أن صور المدركات الخارجية زائفة ومضللة, فالنص يفيد أن المحسوسات الداخلية بدورها لا تعبر عن حقيقة الواقع. ونحن نعرف أن المريض يستمر في الشعور بأصابع القدم المبتورة.
لكن النص لا يقتصر دوره على التعريف بالحقيقة البيولوجية, وإلا لبدا مسطحاً بما يفقده جل قيمته. ويقودنا هذا إلى الشق الثاني المتعلق بالجملة الختامية : " هذا شعور زائف " .. وقد فطن أستاذنا المصطفي إلى العلاقة العضوية بينها وبين جملة الاستهلال : : لا بأس عليك اليوم " .
فما بين الاستهلال والختام يتشظى وعي الشخصية بين تداعيات الذاكرة بما يتعلق بالحادث المروري الذي قاده إلى غرفة العناية الفائقة , وبين ما يتخلل ذلك التداعي ويحول مساراته فيما يشبه التهشيم المستمر . من تداخل أقوال الطبيبة وتدخلاتها العلاجية، وسطوع المؤثرات البصرية والحسية على سطح الوعي. من مشهد الأجهزة بأنابيبها " الغبية "، ومظاهر أناقة الطبيبة، وملمس الوسادة الهوائية. وأخيراً الرغبة الزائفة في التبول.
يقول المصطفي بلعوام : (لو نربط مستهل النص " لا باس اليوم عليك " بنهايته " هذا شعور زائف " سنجد أنفسنا ربما أمام مفارقة متعددة الأبعاد بين ملفوظ الطبيبة وملفوظ المريض داخل النص ..
واذا حذفنا الجملة الأخيرة ، فلن يبقى إلا ملفوظاً مبتذلاص لا قيمة له إزاء معناه ) ,
وتقنية التداعي المرتبطة بتيار الوعي بما ينتظمها من تهشيم للخط الرئيسي للحدث تقود القارىء إلى الانتقال بمستوى التجربة القصصية إلى أفق أبعد من التجربة الشخصية. ليبلور رؤية تشاؤمية لمصير العالم. فالتقنية العالية والمتفوقة لمحتويات الصورة, والتعافي الظاهري للراوي الذي مر بمرحلة الصعقة الكهربية التي أنقذت قلبه من غفوة أبدية, لم تخف حقيقه أنه غادر غرفة العناية الفائقة مدفوعاً فوق كرسي مدولب " على إحدى الطرق اإقليمية " .. يصاحبه حفيف كلمات الممرضة " تحت الكمامة الطبية " , وهو رغم تعافيه الظاهري لا يمكنه التخلص من صورة .. " الردهة الرخامية الباهتة المشبعة بالموت والمغلقة بإحكام " ..
فما بين الاستهلال، والختام . تتحقق الصورة التي تجسد الهاجس. بما يتجاوز المصير الشخصي للراوي ، لينسحب بشكل ما على مستقبل العالم .
الملاحظة الوحيدة تتعلق بضبط مرجعية المونلوج، فبعض الأقوال التي بدا نسبتها إلى الطبيبة في النص يجب في رايي معالجة سياق السرد بحيث تبدو منسوبة الى الشخصية.
وفي ظني أن الجمل الثلاث الأتية فقط هي ما يتناسب وموقع الطبية في وعي الراوي .
- لا بأس عليك اليوم ,
- وظائفك مستقرة .
- لديك خط أنابيب يمر حتى عمق مثانتك .. هذا شعور زائف.
أما العبارة .. " إذا لم تستطع الذهاب إلى الحمام، فليأت إليك الحمام " . فأراها متكلفة ولا تفيد , بل كونها متناصة مع القول المأثور يحدث تأثيراً سلبياً على استقبال التجربة .
تحياتي لإبداعك صديقي العزيز اسماعيل مسعد . .
_______
تص القصة
( شعور زائف )
لا بأس اليوم عليك. قالت:
أنت الآن تتشافى ذاتيا، مع بعض الدعم الدوائي وبضع قطرات من المكملات الغذائية، يتم حقنها تباعا فى عبوات المحاليل المعلقة فوق المشجب المقام، لا تزال مولودا لتوك من رحم غرفة العناية الفائقة، إثر حادث سير شنيع قد مزق أمعاء محرك سيارتك الألمانية العنيدة، ولا تزال عناية الرب تحيطك.
عقبت وهي تقلب مطبوعات ملونة بعناية: وظائفك مستقرة، وسوف تنتهي تلك المعركة الوجودية لصالحك، إن أحسنت التصرف. ولم تستجب لآلامك.
طبيبة ذو اطلالة رائقة، نحيفة البنية وهشة كقطعة بسكويت.
كانت سبابتها بيضاء ونحيلة كقلم رصاص، تنتهى بظفر مخضب بالحناء. تشير نحوي كمعلمة تعيد وتكرر فروضها المدرسية لتلميذ ليست لديه أية طموحات.
فقط وسادة هوائية باردة تحت جسد مسجي، فترات رقود مطولة ومنتظمه بقبح.
الغرق فى التفاصيل كان الشعور الثاني بعد الخوف الأولى من الموت، علاقتي بالأشياء، آمالي القتلى تتشبث بالحياة عبر بضعة أنابيب شفيفة بغباء تتيح مشاهدة صديد وبول مخضبان بحمرة قاتمة، ونفث جراح، تمر فى قوافل ودفقات مرتبطة طرديا بأنفاسي.
قياساتي الحيوية تتفاوت على شاشة مسطحة وبصورة فائقة الجودة، نغمات منتظمه بطبقات صوت رقمية ومطمئنة..
فرحتى العارمة كفرحة طفل بدراجتة الجديدة وأنا مدفوع فوق كرسى مدولب عبر ردهة مركز الطوارىء على أحد الطرق الإقليمية، أغادر غرفة العناية الفائقة فى اليوم السابع، قالت احداهن فور استجابتي لصعقة كهربية عنيفة أيقظت قلبي الذى كاد أن يغفو للأبد. لقد عاد من الموت، هذا رجل محظوظ لا يزال فى عمره بقية. كان حفيف كلماتها تحت الكمامة الطبية لا يزال صداه يتردد فى الردهة الرخامية الباهتة المشبعة بالموت والمغلقة بإحكام..
هل أستطيع ان أذهب إلى الحمام؟
أجابتنى بابتسامة منقوصه وعبارات أخذت تنمقها فبدت كمسكنات:
إذا لم تستطع الذهاب إلى الحمام، فليأت إليك الحمام.
لديك خط أنابيب يمر حتى عمق مثانتك..
هذا شعور زائف ...!
( شعور زائف )
لا بأس اليوم عليك. قالت:
أنت الآن تتشافى ذاتيا، مع بعض الدعم الدوائي وبضع قطرات من المكملات الغذائية، يتم حقنها تباعا فى عبوات المحاليل المعلقة فوق المشجب المقام، لا تزال مولودا لتوك من رحم غرفة العناية الفائقة، إثر حادث سير شنيع قد مزق أمعاء محرك سيارتك الألمانية العنيدة، ولا تزال عناية الرب تحيطك.
عقبت وهي تقلب مطبوعات ملونة بعناية: وظائفك مستقرة، وسوف تنتهي تلك المعركة الوجودية لصالحك، إن أحسنت التصرف. ولم تستجب لآلامك.
طبيبة ذو اطلالة رائقة، نحيفة البنية وهشة كقطعة بسكويت.
كانت سبابتها بيضاء ونحيلة كقلم رصاص، تنتهى بظفر مخضب بالحناء. تشير نحوي كمعلمة تعيد وتكرر فروضها المدرسية لتلميذ ليست لديه أية طموحات.
فقط وسادة هوائية باردة تحت جسد مسجي، فترات رقود مطولة ومنتظمه بقبح.
الغرق فى التفاصيل كان الشعور الثاني بعد الخوف الأولى من الموت، علاقتي بالأشياء، آمالي القتلى تتشبث بالحياة عبر بضعة أنابيب شفيفة بغباء تتيح مشاهدة صديد وبول مخضبان بحمرة قاتمة، ونفث جراح، تمر فى قوافل ودفقات مرتبطة طرديا بأنفاسي.
قياساتي الحيوية تتفاوت على شاشة مسطحة وبصورة فائقة الجودة، نغمات منتظمه بطبقات صوت رقمية ومطمئنة..
فرحتى العارمة كفرحة طفل بدراجتة الجديدة وأنا مدفوع فوق كرسى مدولب عبر ردهة مركز الطوارىء على أحد الطرق الإقليمية، أغادر غرفة العناية الفائقة فى اليوم السابع، قالت احداهن فور استجابتي لصعقة كهربية عنيفة أيقظت قلبي الذى كاد أن يغفو للأبد. لقد عاد من الموت، هذا رجل محظوظ لا يزال فى عمره بقية. كان حفيف كلماتها تحت الكمامة الطبية لا يزال صداه يتردد فى الردهة الرخامية الباهتة المشبعة بالموت والمغلقة بإحكام..
هل أستطيع ان أذهب إلى الحمام؟
أجابتنى بابتسامة منقوصه وعبارات أخذت تنمقها فبدت كمسكنات:
إذا لم تستطع الذهاب إلى الحمام، فليأت إليك الحمام.
لديك خط أنابيب يمر حتى عمق مثانتك..
هذا شعور زائف ...!
التسميات: زاوية النقد
1 تعليقات:
قراءة جميلة جدا وواعية لنص راق ومبدع ، تحياتي للاستاذ محسن الطوخي والاستاذ اسماعيل مسعد...
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية