وتبقى الفزاعات .. قصة قصيرة.. محمد علي برباش .. مصر

- هيقبلنى يا امي .. بجد هيقبلني ؟
و أنا " أمط بوزى " إليها بفضولٍ عميق لمعرفة تنبؤاتها التي لا تخيب
فغداً سيصطحبني أصحابى فى دُغشة الفجر لأعمل معهم في فرقة كشافة " دودة القطن "
كنتُ طفلاً مدللاً ينتمي الى أسرة من تلك الأُسر التي تحسبها أغنياء من التعفف لذلك الى جانب نباهتى فى المدرسة لم يطلب مني أحدٌ قط أن أعمل فى هذا السن المبكر
و لكنها بدايةً رغبةً مني فى المشاركة و ثانياً و الأهم حكاوي أصحابي عن متعة العمل فى الحقول و لاسيما حينما أجد " لُطعة " و اموء بصوت متموج ممدود
- لووووطططعة .. لووووطططعة
تمددتُ على سريري أستحضر النوم و انا أجاهد فى رسم صورة لي غداً بين شجيرات القطن و هي ما زالت "
نوار " مسدلة الجفون
و أحسب أنني ما أغمضت عيني حتى سمعت صوتهم يتهادر بالخارج
- يا عبد الله ... يا عبد الله
فززت واقفاً و أيقظت أمي لتودعني كما كانت تفعل مع أبى قبل خروجه على المعاش
صنعت لى " صُرة " أكل آخذها معى لغدائي أرمق أبى بنظرة حانية و هو مغموس فى لحاف عملاق و أنطلق معهم يسيطر علي هاجس لجوج من ليلتي ضآلة حجمي أكاد أجزم بأنى لن أروق لهذا المشرف المسؤول عن تنقية الأولاد و فرزهم فأنا قصير القامة جداً نحيف بشكل مبالغ فيه و أبدو أصغر من سني سنوات ، إلى جانب حسن مظهري و نظافة هندامي
تجمعنا معشر الأولاد منتظرين هذا المشرف أناجيه فى صمتي الا يُشّمت فيَّ أحد و ألا يعيدني إلى أمي كما ذهبت
جاء أخيراً ، يفرز الأولاد واحداً تلو الآخر . أتصور أنه يختار الطويل فالأطول و السمين فالأسمن. لم يبق غيري
أيقنت أنه لن يخذلني و يجعلني أعود وحدي
- أنت ابن عم جمال السويسى ؟ . هكذا سأل
أومأت له بالنفي
- لا انا عبدالله ابو الشيخ
- و اية الهدوم اللى انت لابسها دى انت جي تتفسح ؟
- ممكن اروح البس غيرها " نطقت مرعوباً "
- انت كام سنة ؟
- عشر سنين . ." قلت فى ثقة "
- معتقدش ...
رد و هو يضحك بصوته السمج و تركني و أنصرف عني و الأولاد حولهُ كالذباب
أبقى وحدي كنعجة شاردة هجرها القطيع ، يساورني سؤال لماذا لم يأخدني ؟
هناك من هو أقصر مني قامة و انحف عوداً و ماذا لو أجبته بنعم أنا " فلان بن فلان " هل كان سيقبلنى ؟ ليتني كذبت
أتأبط " صرتي " و أعود أدراجي و عيني كمنابع نهر يصب فى حلقي لقد صدق حدسي فإن جئت للحق كنت أنا أصغرهم حجما فالأقصر طولا كان أعرض جسما و الأنحف جسما كان أطول قامة.. كان علي ألا أحاول من الأول
تنبهتُ الي شيءٍ فى طريق عودتي لم أره فى ذهابي أوقف نشيجي فزاعات متعددة الاشكال و الألوان كثيرة بشكل يفوق الوصف حتى خلتها أكثر من العصافير المراد أفزاعها فى خضرة المكان اللامتناهي أقارن على الرغم مني قامتها بقامتي فألفيتها تناطح السحاب
أصل الى امي محتضراً تحتضنني و تُربت على كتفي و تطلب مني أن انتظر للسنة القادمة حتى يشتد عودي
أدركت حينها ان الاحلام لا تفترش الأرصفة ليبتاعها الغائد و الرائح الفارس و المترجل و أن الفزاعات لا تُصنع هباءاً و ترفاً و لكن لا شك فى أنها فوق الحاجة
تذكرت هذا كله و أنا في طريقي الى عملٍ جديد تملؤني نفس الشكوك القديمة . لم يثير مخاوفي البنايات الشائهة على الجانبين و قد إلتهمت العصافير و الحقول و لا أن يتربع مركب نقصي مقتعداً الأرض فى نهاية الطريق و لا حتي الترقب لرؤية الفزاعات الحديثة بعد مرور أعوام و وقع منظرها علي و قد أشتد عودي بقدر ما كان من غياب " صُرة " الأكل تحت إبطي و تلك اليد التي كانت تُربت على كتفي بعدما أُملّي عيني بسحن الفزاعات
محمد على برباش
2/ 3/ 2017
2/ 3/ 2017
التسميات: قصة قصيرة
2 تعليقات:
أزال المؤلف هذا التعليق.
محسن الطوخي
نص بارع ومميز لصديقي محمد علي برباش، أشعر بسعادة غامرة كلما انضم إلى الواحة مبدع متميز يدرك زوح القصة القصيرة، وعوامل توهجها .
يمتلك الكثيرون من أصدقائي رؤية، وثقافة، ولكنهم أسرى الحكاية، لا ينقصهم إلا عبور ذلك الخط الفاصل بين الحكاية، وبين السرد.
يدرك صديقي برباش مهارات السرد، وبعرف كيف يحول الحكاية إلى نص ينبض بالحياة يمنح أكثر من مجرد المعنى أو العبرة. يشرك القارىء في التجربة، ويمنحه المتعة.
يلمح القارىء الفزاعات في كل انعطافة من انعطافات القصة ، حتى قبل أن يلتقي بها الصبي في طريق عودته مخذولا من حقل القطن . والفزاعة لمن لا يعرفها هي تلك الدمى المصنوعة من القش على شكل إنسان لإخافة الطيور والحيلولة بينها وبين التهام المحاصيل ، لكنها في القصة هي المخاوف التي تصنعها خيالاتنا فتمثل حائلا نفسياً يحول بين الإنسان وبين مقاصده . والمضمر في النص يمكن استنتاجه من الاستهلال البارع، فسلوك الأم رداً على تساؤلات الصبي يدعو القارىء إلى استحضار أحداث ماقبل الاستهلال، فصيحة الأم .. " اتخمد " .. ومبادرتها إلى إطفاء النور هما دلالة نفاد صبر . ودليل إلحاح الصبي في التعبير عن مخاوفه، وعدم اقتناعه مرة بعد أخرى بتطمينات الأم . يرسم الاستهلال إذن صورة للصبي تعكس ماأشار إليه الراوي - وهو الصبي ذاته بعد أن شب عن الطوق – في سياق تذكره لهذا المشهد.
لماذا استقر ذلك المشهد عالقاً بذاكرة الشاب ليرويه في لحظة فارقة من حياته، هي لحظة توجهه لاستلام عمل جديد؟ . في ظني أن تلك اللحظة التي امتدت فيها يد الأم إلى زر النور مصحوبة بالصيحة ذات الدلالة والموشاة بزخم الطبيعة الشعبية وإيحاءاتها قد شكلت مايشبه المحفز أو المحرك للصبي في كل مراحل حياته اللاحقة . وهو قد استعان بالمغزى الماثل في الفزاعات، وقرنه بتلك اللحظة . توهج ضمير الصبي بالمغزى إذ اكتشف الفزاعات – ربما للمرة الأولي – رغم تكرار مروره عليها آنفاً وهو بين عاملين ضاغطين ، رفض المشرف المهين، وسلوك الأم المعبر عن نفاد الصبر.
يستطيع القارىء أن يلمح هنا نموذج من أبرع نماذج نقطة التنوير في القصة القصيرة. إذ تنضج الضغوط الصبي في لحظة متوهجة بالإدراك، فيتحقق من أمر سيحول حياته بأكملها، فالفزاعات ليست أكثر من هياكل عاجزة عن الفعل ، ولا تملك إلا المظهر المهيب. ولو أدركت الطيور حقيقة الفزاعات لحطت فوق سطوحها بأمان ولما ارتدعت عن ارتياد الحقول والتهام الثمار.
ولأن صديقي محمد برباش يعي جيداً فنيات القصة القصيرة , فهو يعلم أين يفصح , وأين يلجأ للإضمار. بل وكيف يقود القارىء إلى استنتاج المضمر . فوضع السرد على لسان الصبي بعد أن بلغ مبلغ الرجال، في لحظة سعيه إلى الالتحاق بعمل جديد ، وهو إذ يعود بذاكرته إلى تلك اللحظة الأيقونية , فدلالة ذلك أنه قد وعي أزمته منذ تلك الحادثة القديمة ، وأنه بفضل ذلك الوعي قد استطاع التغلب على مركب النقص الذي لازمه صبياً غراً ، فهو قد أدرك من حينها أن المخاوف لا توجد في الواقع الخارجي، إنما داخل نفوسنا , وأن التغلب على المخاوف إنما يتحقق بالتحلي بالثقة في النفس ، فمهما بلغت الفزاعات من الضخامة والهيبة فإنها لا تمثل إلا أوهام بصرية، ونفسية , والمضمر يعني أن الصبي قد نجح في اجتياز صباه ومراهقته بنجاح ، حتى وفق إلى الالتحاق بعمل حقيقي .
في النص محاور عديدة تستوجب الدراسة . وما طرحته لا يمثل إلا جانباً من جوانب تميز القصة , ولعل لنا عودة قريبة لتناول باقي عوامل التميز في النص الممتاز . تحياتي وتقديري لصديقي المبدع الجميل محمد على برباش .
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية