السبت، 24 ديسمبر 2016

ماكان بالحسبان .. ميساء .. سوريا

ما كان بالحسبان
قصة قصيرة
ميساء
سوريا

العتمة لوّنت المكان، الظلام الحالك عَنون كل شيء أمامي، دوّرت عيني في الغرفة فأبصرت نوراً صغيراً قادماً من طرف الباب، سمعت صوتاً هامساً.. صوتاً متحشرجاً وشهقات متتالية.قمت إليها، كانت جواهر الدموع تتلألأ في عينيها المتورمتين ووجنتاها متوردتين، لأول مرة ألاحظ أن أمي تصبح أجمل حين تبكي. لم تنتبه لوجودي، كانت تهمس بتوسّل وانكسار: أرجوك.. أرجوك. لا أعرف كيف ولكن في لحظات وجدت نفسي أبكي في حضنها، أبكي لبكائها. ضمّتني وكأنها هي من كانت بحاجة إلى حضني أكثر من حاجتي إليها.
بعد ذلك اليوم طار النوم من عيني. حقاً هل النوم كائن يطير؟... مرة سألتُ معلمتي هذا السؤال، فسكتتْ، خُيّل إلي أنها كتمت ضحكتها ثم.. وجمت وحدّقت في الفراغ! هل النوم كائن يطير! أراه عصفوراً يقف قُرب عيني ينتظر سلاسل أفكاري أن تنتهي... لكنها تدور حول نفسها بلا نهاية!.. فيملّ المسكين ويتركني ، ومنذ ذلك الحين أصبح عصفور نومي حرّاً يطير متى يشاء ولا أستطيع الإمساك به....
لا شيء أجمل من دفء عائلة، من صخب أفرادها وضحكاتهم . عكّر صفونا صوت طنين، كذبابة تحوم حول وجوهنا، تلك الحاقدة تحوم في سمائنا، صوتها كان بعيداً فلم نخف إلا قليلاً، دعونا الله أن يكفينا شرها وأكملنا حياتنا على طبيعتها.
كانت أمي تحيك قماشة حريرية حمراء، أحمد اتخذ ركناً من الغرفة يلقّن أخينا الصغير أمجد حرف السين، يقول له قل سوريا فيقول ثوريةن, لمى وريم وكما العادة تركتا واجباتهن وتعاركتا على ملكية قلم أحمر. أما أنا فصدّعت رؤوسهم بترديدي لنشيدٍ كنت أحاول حفظه، فترك الجميع ما كان بأيديهم وراحوا يغنون معي." لا تنسَوا طفلاً محروماً أو طفلاً يحيا مظلوماً" كان النور يفيض من وجوههم والحياة تتراقص مع كلماتهم حتى أوقفنا صوت مقيت: لا تهتموا هي طائرة عابرة فقط، قال أحمد ،لكن صوتها علا وعلا ورغماً عنّا ومهما اعتدنا. ركضنا، لِمَ علينا الإختباء أسفل الدرج كلما سمعنا هدير طائرة، ذلك المكان المقيت يزيد خوفنا رعباً! ابتلعتُ كماً كبيراً من المشاعر وجلست القرفصاء، أليس غريباً !!.. كنت أضحك بلا مبالاة وأسخر من أخواتي الباكيات، وأردد مرة أخرى: لا تنسوا طفلاً محروماً أو طفلاً يحيا مظلوماً. نظرت إلى أحمد وأمي تمنيت لو أخشع مثلهما وأبتهل بالدعاء، لِمَ لا أشعر بالخوف، ربما من شدة خوفه أضاع طريقه إلي.
 مرّةً كنّا نلعب في حديقة المنزل، سمعنا صوت طائرة، قاومنا رعشة قلوبنا و تطلعنا بفضول إلى السماء، هتفت أمي بهرج : انظروا انظروا، إنني أرى الطيار، يرتدي قبعة ونظارات"وعميزْوِرْني*". باندهاش امعنّا النظر في السماء فلم نر إلا قطعة رمادية صغيرة. هل فقدَت أمي صوابها وصارت تتوهم أشياء لا أصل لها! كيف لها أن ترى الطيار وتنظر في عينيه أيضاً! ضحكتُ حتى انهمرت دموعي وصحتُ " أيها الطيار الوقح لِمَ تزْوِر أمي؟
 اخترقت تلك الحاقدة جدار الصوت وألقت حمولتها. أخيراً وجدني الخوف وعانقني حتى كدتُ أختنق ،دفنت رأسي بين ركبتي ولساني لا يتوقف عن الترديد كمسجلة قديمة: يا لطيف يا لطيف، لم يكن قلبي وحده من ينبض بل كان جسدي كله ينبض بضربات كادت تقضي عليّ، قلت لخافقي:أرجوك لا تتوقف، ليس بعد، ليس الآن, تحمّل..
 ثوانٍ، ساعات، قرون، كان طريق الصاروخ من السماء إلى الأرض..سقط وسقط قلبي معه، انفجر وانفجرت دمائي معه.
 كنا بحاجة لبضع ثواني لاستيعاب ما حدث، حدّقنا ببعضنا، لا زلنا أحياء! لم نُصَب بأذى! همست لمى بوجهها المرتجف كعصفورة مبللة:ربما سقط على جيراننا. ردت أمي بعد أن تفحصت سلامتنا واحداً واحداً :لا تتحركوا من مكانكم. كنا نتبادل النظرات، ونسترق السمع، لا شيء سوى الهدوء، لحظات أخرى وتعالت الصيحات، استغاثات، نداءات، تراءت أمامي صورة لما يحدث في الخارج، فسرت فيّ رعشة شيّبت شعري، كنت أجلس إلى يسار أحمد، حاولت الانغماس فيه بكل استطاعتي.. كان يرتجف، يعلو ويهبط ،وفي ذات الوقت شارك أمي عملية تهدئة إخوتي وإشعارنا بالأمان، وكيف لفاقد الشيء أن يعطيه.
 تنبّهت أمي لشيء ما، أبعدت أمجد عن حضنها ووضعته في حضن أحمد، قبّلت إخوتي وهي تتأملهم بحنو، أمسكت أمي بذراعي وأخذتني معها إلى المطبخ، نسيتْ أنها تركت موقد الغاز مشتعلاً، أطفأته وهي تحمد الله على تذكرها.
 اخفض رأسك، صرخت أمي، طعنني الزمن في ظهري طعنة قاسية، غدرني ذلك الحاقد، أقل من هنيهة كانت، عادت، هدرت، أسقطت، فجّرت. ووقع ما كان بالحسبان، لم أعد قادراً على التذكر، سوى أن شيئاً ما رفعني أمتاراً إلى الأعلى، شعرت بخفة جوارحي، خُيّل إليّ أنني صرت طائراً في الجنة، بياض عمّ حولي، هل متُّ لا أدري!... لا لا يمكن وصف لحظة كهذه، نشبت معركة ضارية، معركة لا يمكن لحيٍّ وصفها، حيث يتلاقى الموت والحياة ويتشابكان، ولا يحدد المنتصر سوى رب الحياة والموت، فإن كان الأجل انتصر الموت، وإن لم يكن انتصرت الحياة، فالنتيجة مكتوبة ولكن لا مناص من المعركة.
وفي معركتي وبعد طول قراع انتصرت الحياة أخيراً، لكنها أبت إلا أن تترك بصمتها فيّ،  ألحانها الصاخبة لم تصمّ أذني، لكنها لم تغادرها، أعاقت حركتي وجعلتني أسير على كرسيّ بغيض، لكنها حررت شيئاً ما كان حبيساً في جسدي، واخترت الاستمرار، الحياة التي أعاقتني جعلتها سلاحي ومضيت، مضيت لأعين قلب أمي الثكلى بعد أن فقدت أربعة من أطفالها وخطوات خامسهم، لم ينطق أمجد حرف السين، ولم نتعرف على ملكية القلم الأحمر، ولم أحفظ ذلك النشيد الظالم.. لكنّ شيئاً ما عاش بين الثنايا.


....................................................
** عميزورني أي يرمقني بالعامية السورية
ميساء.. سوريا.. 16 عاماً

التسميات:

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية