الأربعاء، 7 ديسمبر 2016

خيزرانة .. اسماعيل مسعد

خيزرانة
قصة قصيرة 
اسماعيل مسعد
مصر


اسماعيل مسعد




أشعلت جدتي السراج، لما أقبل الليل، أرحت رأسي علي فخذها النحيل، أخذت تمسد خصلاتي الفاحمة، أزاحت بسببابتها ما إنسدل منها علي جبيني، تلقفتُ راحتيها بشغف للدفء، حين أحاطت بهما وجنتي الباردتين، ثم تناولت كفي الصغيرة فلثمتها بقبلة حارة، جذبت نصف بطانية مهترئة، دثرت بها قامتي التي سكنت بين ساقيها الممددتين، كان دخان السراج يتسلل كخيط أسود صعودا نحو سقف الغرفة الخشبي الضارب في القدم، قطعتُ وحشة الصمت أجتر حديث جدتي الذي لا أنام دون سماعه كتراتيل لطقوس ما قبل الهجيع، ( قصي لي يا جدة قصتي، إحك لي حول أمي الخيزرانة، عن ثراء أبي، عن قبيلتي في شعاب الجزيرة، عن مذاق التمر بطعم القهوة العربية )، إبتسمت إبتسامتها المصطنعة ثم قالت، ( الخيزرانة إستمرأت الثريد والكبسة وظلمتي النقاب والخيمة، الخيزرانة تطعم الآن التيوس المخصية، وتجز الصوف وتستدر الضروع المتخمة، ذات بيعة حطت قدم نحيلة بهذا الفناء، وأشارت نحو باب الدار، رديف القدم حطت عصاة في قبضة شيخ ترجل من سيارة أشبه بسفينة، أقعده سائقه علي مقعد ينطوي كان يحمله، إرتاح الجسد يحمل رأسا تحت غطرة ثلجية تحيط وجها نالت منه قسوة الصحراء، مد ساعده متكئا علي عصاته السوداء التي إهتزت غير واثقة فوق الأرض، لاحت الخيزرانة مشرعة جفنها الجارح، ممتلئة الصدر تعبث بطرف ضفيرتها التي تجاوزت خصرها النحيل، ثم إستدارت بنصف ردف أسال لعاب الوافد الذي جذب طرف غطرته فجفف بها شدقية الباليتين، ألجأ ظهره لمقعده النقال ثم قال، أتيت ألتمس رفقة لديكم، والمال مال الله، والشريعة تسعُ من النسوة رابعة، ولكم مني أماناً من العوز
 والفاقة وحين تمرضون.





 رفضت ربطة من عملة ليست محلية قذفها لموضعكِ هذا، فرددتها عليه، أشار للخيزرانة أن تنظر رفض أمها الذي يجافي كل منطق، بعدها أثني سائقه المصري علي كفيله الذي إستخدمه منذ عمْر ولم يلق منه سوي رغد العيش، قاطعت الفتاة نوبة مديح السائق وأسكتت كل قول، إذ إمتص صدرها الربطة إمتصاص الجدب للمطر، فأسكنتها بين نهديها النافرين، وجدك قابع فوق الأريكة هناك، يمتص الأرجيلة ثم تعجز أنفاسه عن إطفاء فتيل هذا السراج، لسبعة أعوام غيبت البادية عذر الردف والنهد، وحين حثت التراب وفرغت من نوبة بكاء تحت شاهد القبر عادت البكر أرملة، إلتزمْتُها بعناق مشوب بترقب بدا بعينيها، ناولتها مغلفا بريديا إحتفظتُ بحوالاتها البريدية فيه، صرختْ ثم سودتْ النهار وهي تحصي ما ألفيته لها، قصدتْ دوار العمدة الذي إتشح بخفيرين لزوم فرض الهيمنة، وذهب لتوقيف عامل بريد القرية لسؤاله، والذي أنكر مقسما بالطلاق والعتاق أنه ما إختص نفسه بشيء من الحوالات التي مهرت بإشعار ( تصرف لحامله )، وبعد جلسة عرفية مطولة، لم يُعثر لخطو العامل علي أثر بالقرية، بكينا كثيرا علي اللبن المسكوب دون فائدة، إنقضت ثلاثة قروء قبل أن يفد لزيارتنا صديق والدك الوفى، قذف ربطتين ثم غابت أمك داخل قمرته عرفيا..

التسميات:

1 تعليقات:

في 7 ديسمبر 2016 في 8:57 ص , Blogger واحة القصة القصيرة يقول...

مرحباً بك صديقي اسماعيل قاصا بارعاً .. وتبدو ملامح براعتك في قدرتك على صنع تحفة سردية من موضوع متداول ومطروح كما ذكر أستاذنا محمود عودة . فالقضايا الاجتماعية في متناول الكافة , لكن القصاص المتمكن من فنه , هو فقط من يستطيع أن يصنع لوحة باذخة مثل نصك الجميل.
الخيزرانة ساقها الجهل، والفقر إلى أن تقع في الأسر مرتين.
تحكي الجدة المقهورة على ضوء سراج متهافت قصة الخيزرانة :
" الخيزرانة إستمرأت الثريد والكبسة وظلمتي النقاب والخيمة، الخيزرانة تطعم الآن التيوس المخصية، وتجز الصوف وتستدر الضروع المتخمة " .
التيوس المخصية هي تيوس مضمرة ، استؤصلت أحلامها وليست خصياتها . وهي تيوس تقودها الشهوة وسفه الثروة إلى سبي الحرائر اللواتي أذلهن الفقر.
الخيزران تاريخياً هي زوجة الخليفة العباسي المهدي. وأم خليفتين هما هارون الرشيد، والهادي . فأي مفارقة صارخة بين نموذج المرأة التى جلست على عرش الغالم , وبين سليلتها التى تبتاع بربطة من المال لأعرج في أرذل العمر .
وفنيات السرد تشي بقاص على وعي بوظيفة اللفظ الموحي في إنشاء الصورة القصصية .
" أشعلت جدتي السراج " .. استخدام السراج صاحب الضؤ الخافت المصاحب للسناج . تلك الشعلة الباهتة التى تتراقص بالريح وتنشر الظللا الباهتة. تمنح القارىء في الاستهلال مدخلا مناسباً لاستقبال شريحة من البشر لا يحيون فقط في عتمة مادية , لكنها عتمة شاملة من الفقر والعوز , وإهمال السلطات , كما سنرى لاحقاً في موقف الغمدة المتواطىء .
" أرحت رأسي علي فخذها النحيل " .. النحيل صفة لفخذ الجدة , لكنها ستنسحب على مدار القص على مصائر الشخصيات, وأبرزهم الأم ( الخيزرانة ) .
" خذت تمسد خصلاتي الفاحمة،" .. لفظ الفاحمة وإن كان يوحي بصفة من صفات الجمال إذا اختص يخصلات الشعر . لكنه في مقام السرد يتضمن علاقة ما مع ماينتظر الصبية في رحم مستقبل غير آمن .
" تلقفتُ راحتيها بشغف للدفء، " .. توحي بافتقاد الصبية للدفء . والمضمر هو دفء العاطفة , والأمان المفتقدان رغم توفر عطف الجدة، ورعايتها , لكننا سنرى من خلال السرد أن الجدة نفسها لم تملك سوى رفضاً باهتا لبيع الأم نفسها . ومالت إلى القبول تحت وطأة العوز والحاجة .
" ذات بيعة حطت قدم نحيلة بهذا الفناء " .. والبيعة يمكن استقبالها كمفرد مؤنث لواقعة بيع الفتاة للثري الخليجي , كما يمكن فهمها في إطار السرد على شاكلة المصطلح الذي ساد في الثقافة الإسلامية، كتسليم لأهل الحل والعقد , وهو إيحاء بعيد المدى يطال صميم الكرامة الوطنية في مقتل , لكنه يعبر بصدق عن واقع الحال.
تميز نص صديقي اسماعيل بحبكة متقنة , وبارعة استطاعت أن تشي لإضماراً بالصفات الخارجية، والداخلية للشخصيات , وأظهرت شخصية المكان , وطرحت المسكوت عنه بعبارات فنية , والخاتمة تعد بحق تتويجاً لتجربة إنسانية , فقد سعت الخيزرانة للمرة الثانية بظلفها إلى حتفها . " انقضت ثلاثة قروء قبل أن يفد لزيارتنا صديق والدك الوفى، قذف ربطتين ثم غابت أمك داخل قمرته عرفيا" .. تأمل لفظ الوفي في العبارة , فلمن ترى وفاء صديق الأب الخليجي . ألعلاقات الصداقة . أم لثقافة الخصيان ؟
تحياتي لإبداعك صديقي الجميل اسماعيل مسعد .

 

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية