الخميس، 8 ديسمبر 2016

النعناع والإمام .. محمد لغريسي

ا لــــنـــــعـــنــــاع و الإ مــــــــام 

قصة قصيرة

محــــمــــد لغـــــريــــســـــــي

 ا لمــــغـــــــــرب

محمد لغريسي

ها أنا أتبختر وحيداً فوق حصانـــي الأزرق، يتحـدث معــي ويحكي لي حكـــايات جمـــيلة، وأنا أتمنــى أن أكـــون ذكراً مــثله يصهـل ويصهـــل ويسـرق الـــنساء.
وضعت عمــتي برنوس الأفراح على كتفـي، في رجلي بلغة بيضاء كأنها ثلـج ناصع، على هامتي تاج الملوك كلها. كحلت خالـتي "إيــطو"عيني اليمنى، والحصان الذي يتكلم كالبشر، يثب بي كالامطار. النساء خلف"الطبالة" و"الغياطـة" يغردن، يمسكـــن في اليد شمع الزاوية القادريـــة، أمداح وأدكار ورائحـــة "الجـاوي" تلعلع، وميــض كالبــــرق. كعيد يأتي مــن مكـة نحو تاجـي ويزوق بلغـتي وبرنوسي، فــتعـم البهـجة حــــول الراقصات والراقصيــن. بهجة تشبه الأفاعي وحروف النون.
العــــازبات االمتغـنجات كالنشوة، يرششـن برنوسي الشاسع بالقرنفــل ويغمـزن لي، الأطــــفـال خلـــف حفــلتي، يلطخـــون ظهر حصاني الأزرق بالطـبشـــورة التي ســرقوها من المــدرسة البعــيدة. البخــور يتعالى مــن المجامـرالمعدنـية ويسافــــر بـي إلى باب الخــيال، أوراق الورد الحـــر الطازج تتــيه من حــولي وتطيـــربلا جناحــــين، والشيـــوخ يدخنون وفـي قلــبهم غصـة ما كان..ربما تعطـــل مفعـــول نعناعهم في وسط الطريق، ولهذا يدخنون كمصانع سيدي قاسم دون انقطاع. 
وضعتني"إيــــطــــو" في قعــرالقصعة المنحوتة، كلقـمة كسكس،لطخت كل وجهي بالزعفران الفاقع، مازال صـوت"الغيطة" والطبل يرتفع مدوياً كالرصاصات الحية. مازال يدفن أنيني فــي قاع القصعة...
وهـن يرقصن. ينشدن:
"آلحجام عار عليك
راه وليدي بين يديك"
وأمي تبكي وسطهن
على رأسها شال مطرز بحروف مسمارية. وفي يدها خلخال "آيت زيان".


**********
رهط عارم مـن النساء كن يصفـفن شعـرأمي في بيت بعيدة من غرقتي، يبللن سواده الحاتمـــي بحناء ورزازات، ويحجبن بهائه بخمار مزركش بعــقيق يشع كمادة نووية. لكنهن يتركن خصــلة شاردة لــــي :أقـرأها. ألحسها. أفسرها وأجد لها لوناً كلون الوشم والفلسفة في رأسي..
مازلن يرددن الصلاة و"التسليم"على النـــبي:طه-العدنان. وأنا غائب عن هذا العالم، لا أفهم القصــة. ولا أبحث في تفاصيـل المسألة.
غبياً كنــت هذه الليلة.
أطلق جدي حمامة بيضاء أمام بصري، ولم أفهم..
قال لي:
- انظر إلى الحمامـة إنها تضحك لك.
وكنت غبياً كذلك.
حجبني الإمام بكتفه الهائلة جداً، شل كامل حركتي بصدره الثقيل، وفتك بقسوة بنعناعي.
وأخيــراً ضحك الإمام معي بمكر،
وقال:
-بعد أيام قادمة. يا أمير سجلماسة.سيخضر النعناع بين سيقانك الصغيرة..قريباً.. قريباً. لذا لن ترفضك النساء، و لن يهـربن من ريشـك وفراشك. لأن النعناع بـدون عطر قشة يابسة فقـط . الفتيات يعشقـن الشاي المعـتق الممزوج بالنعناع. يا "محـمـــد". ستشتبك أنت بأفخاذهـن ذات يوم. لو هــربت اليوم من مقــص الإمام. لسخرت بائعـات التفــاح منك ...
ولـم تضحك الحمامة.
وكنت غبياً...
وقهقه جدي حتى ظهر نابـه الذي أكله الزمن..
والألم بين أفخاذي يشتد ويشتد.
بعد دقائق مرت كتاريخ العصرالحجـري الأول على قلبي. قـدمت جارتنا نحــوي ووضعـت في فمــي مرق الدجاج "البلــدي" المنكـه بــرأس الحانوت، ملأت خبزتي برؤوس البصل والــزبيب. ولأنني كــنت جائعـاً كبغل "السانيـة"، نسيت قصتي التعيســـة، وتقدمت إلى معركــتي، ألتهـم كوحش الفـــلاة أفخـــاذ



الإوزاالمحـلاة بالقرفة.
أكلت"الثــريــد"الشهي أكلاً سريعاً وأطرافي ترتعـش، صبت المرأة الضخـمة حليباً بقريا في طربوشـــي الأحمر... 
فشربت 
وعادت الحمامة الضاحكة.. ألماً قوياً إلى أطرافي.


**********.
الـناس كنـمل/ هاجوج"و"ماجوج" / سكـارى الحومة / وكل اللصوص الذين عادوا من فيافي "طانطان" و"كلـميـم"/ البؤساء..كلهم جالسون حوالي يهضمون الكسكس التقليـدي بهدوء والعرق الوفـير يتصبــب من نصـف جبهتهـم العريضة، أما الخالة الثانية فـقد كانت كفيـلسوفة غارقـة فــي "هـمها الثقافـي"،وهـي تحملق فـــي طربوشي السلطاني.
يمـــلأ الإمـام شدقــيه بماء بارد وينفث لعابه الشريف على كامل وجهي الباهت، وعلى حزمة النعناع المذبوح كذلك. حتى تبلل سروالي التقلــيــدي الذي اشتـراه أبي من "شالـــة " ويهمس لي الإمــام كأنه يشجعني أو يعزيني:
- ستصبح إماماً مثلي، تكتب التمائــم للنساء، وتعالج مفاصلهــن فـي فصل الشـتاء، وتخـط لهـن طلاسم السعــادة.
أما أبي المتلألىء فكان فـي الركــن البعيـد هناك. يلهو بالسبحة الطويلـة. ويرتـل دعاء اللطيف، عــيناه صارتا جمرتيـن فائضتيـن، شفتاه ترتعشان...
قال مهدداً :
- اسمع أيها"الإمام الهرم ، إذا أصيب نور فؤادي وتاج رأسي بمكروه.فإني سوف ألتهـم لحمك اليهودي في " كنيسة الخميسات " . أتسمع 
مازال أبي يلعب بالسبحة وشفته ترتعش وترتعــش، وأنا أعاتب في صمتي هذا الإمـام الهـــرم الذي غدر بي..وأقول:
- حقاً على يديك تعلمت أول حروفـي وتعلمت كيف أسجد لخالقي وكيف أناجـي الله في البحـــر، وفي السماء وفي الجبال. حقاً أنت علمتني كـيف أحفـظ ألـواحي القرآنيـة الزكــية، وأمسحها بصلصال " وادي عـكـراش " أنت أنرت لي الطريق، وسلمت لي المفــتاح.
لكنك من أين أتيت لتعدبني وترسم وشمك على تاريخي؟
في المساء.ملأ الراقصون تاجـي الروماني بقطـع نقديـة حتى تكاثـرت الأمطـــار في البادية والمديــنة وكثــرت أعـراسهــما، فـــاض نهـرأبــو رقراق كذلك، وانبثــق نهـر "الغنـباز" في بهو منزلنا، والنحــل داءنا من الشاوية، يقفز من زهــرة الياسمـين إلى زهرة بلعمان، إلى أن وصل إلى بيــتي وبدأ يمضــغ معي خـــبزتي المعســـلة بالزبيب . 


**********
أقبلت" إيطـو" 
وكانت كلها مملوءة بالوشم كانها حنبل من" تـازناغــت ". عرفت بعـد ذلك أن جدتي قد حفـرت في جلد قطتها عمــيقاً. عمــيقاً، ورسمــت فوق جلدها الترابي بالرماد والإبرة الرديئة.
فعلـت ذلك:
لتكبر"إيــطـو"بسرعة في عيون الخيل الذي يصهل، فيهرعون إلى أحمر شفـاهها .ويسقطون في البـئر.
سرقت "ايـــطـو" كل رزقــي ومزقت طربوشي الأحمر، ودفنت نجمته في سطل الزبل...
كنت نائماً.
سألتها:
-أين مالي يا حفيدة الثعلب..
ردت:
-أنت جميل كحرف النون وصوتك كالحصان. أتريد أن يفترسك الغول الذي يسكن بغابة "المعمــورة"
قلت: 
- أريد ثروتـي التي كانت فـي تاجي المـملوء. كـي أشتري جزيــرة أرتاح فيها من ضجيج عرسي وألم جسدي
قالت إيطو:
-عندما سينمو شاربك،سأشتري:
لك قميصا بلا أزرار.. 
افــتحه جيداً كـي تطير إلى الآفــاق،وتزوركـل المــدن الـتي تحب أن ترسمها على تاجك السلطاني:
هل زرت الأهرامات؟ 
هــل زرت سور "البابا"؟
هل زرت بلد الغـول؟
هل زرت مغارة السندبـاد؟
أفصحت لها:
-لا..لا أنت تكذبيـن.
عندما ستموتين يا عمتي ستلتهم نار الملحدين بدنك وسيقذف بـك "البابا "من أعلى جبل مهترىء، لأنك لصة: 
أنـــت ســرقــت تاجي، وسرقت ذلك الصحن الفخاري من باب"عـبـدة" ، وسرقـــت بيض النعامـة من "واد الذهب" ، وسرقت الخزامى من تاجر "مـــوغادور"...


.**********
لما عاد الناس إلى صناديقهم في المدينة والقرية، بقيت وحدي في غرفـتي، تحدبت ظهري لمدة طويلة والناس يشيرون بأصابعهم الطويلة نحو جلبـابي القصير، ونعناعي الملطخ ب:"الـدواء الاحمر"ومسحوق الأسبرين. عشت في رعـب طويل. تربصت بي أشباح إفريقية وأنا أتوسد وسادتي..وجزار الحومة الدي ذبح ديك عمتي خفت أن يذبحــني كذلك، لأن أكتافه كانت تشــبه أكـتاف الأمام الذي كان..


**********
حين اشـتد عودي. قبلـت يد الأمام عند ملتقى الطرقات وشكرته لأن أعانـني بمقصه الشريف، وشجعني على تذوق أصابعهن وجعلني أسبــح في مـــروج الغزلان.

التسميات:

1 تعليقات:

في 8 ديسمبر 2016 في 7:45 ص , Blogger واحة القصة القصيرة يقول...

لله در المغاربة.
يدركون كأنما بالفطرة ماهية القص. يعون دور التجربة الإنسانية في السرد القصصي.
تتمتع نصوصهم بالفرادة، والأصالة. الفرادة من حيث كونها لا تشبه سواها. ولا تجرى مجري المألوف في المعالجة والصياغة. والأصالة من حيث كونها تعبير عن استقبال ذهنية مستقلة لحدث ما من زاوية غير مسبوقة, تنقل الواقع دون أن تشابهه أو تحاكيه . بل تصنع عالما موازياً يتمتع بقواعده الخاصة .
" الحصان الأزرق . يصهل، ويصهل، ويسرق النساء " . تلك أحلام صبي على عتبات المراهقة. تلخيص مكثف لحكايات المساءات على ألسنة الجدات والشيوخ. نرى الأحداث بعيني الصبي الذي سيق وسط جو احتفالي نجح في إلهائه حتى استقر بين يدي الإمام الذي شل كامل حركته ، وفتك " بقسوة " بنعناعه.
ولا شك أن الإشارة بالنعناع إلى مكمن الذكورة لدي الصبي يعود إلى التراث الشعبي المغاربي . كما نشير إليه في مصر بلفظ " البلبل " ، أو " الحمامة " .
ومايلفت النظر في النص هو تلك الضفيرة المجدولة ببراعة ومهارة من أحداث الليلة معكوسة على ذهن الصبي وتخيلاته ، ومن الطقوس الاحتفالية التي وإن خالفت في تفاصيلها طقوس الختان في الشرق ، إلا أن جوهر الاحتفال واحد بتماسه مع الشريعة الإسلامية , وبالبهجة التي تغمر العائلة وأصدقائها بانتقال الصبي إلى عالم الرجولة.
كما يلفت النظر مهارة استخدام التناص. والإشارة إلى معالم البيئة المغاربية . حيث نجح الكاتب في إثراء النص باستدعاء كل من الموروث، وجغرافية المكان . دون أن يسقط فيما يقع فيه بعض الأصدقاء من حشد صور من التناص ، والإحالة إلى موضوعات تراثية وتاريخية غير ذات صلة بموضوع التجربة القصصية ، الأمر الذي يشتت انتباه القارىء ويجعل خيوط التجربة تتفلت من بين يديه . والمتأمل للنص لا يجد إشارة إلى مكان أو طقس يمكن اعتباره منبت الصلة بالتجربة.
ومن أبرز التقنيات التي برع الكاتب في استخدامها الانتقال على مدار السرد من وعي الشخصية المحورية / الصبي ، إلى وعي شخصيات أخرى مرتبطة بالحدث . كالخالة , والأم , والجدة , والأب , ورهط النساء, والإمام . وبدا وعي تلك الشخصيات إما عن طريق الحوار ، أو عن طريق وصف سلوكهم , أو سرد أقوالهم .
تساوت جميع الشخصيات في السرد من حيث الأهمية , حتى لا تكاد تجد فارقا بين أي منها, وبين شخصية الراوي التي تمحورت حولها الأحداث , لكن البطولة المطلقة إنما تحققت في النص للمكان . تسري روح المكان بما عليه من بشر وأحداث لتحتوي القارىء، وتدمجه في تيار السرد . ما يحقق متعة التلقي .
تحياتي لصديقي محمد لغريسي.

 

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية