الثلاثاء، 17 سبتمبر 2019

رؤية نقدية للقصة القصيرة : صوت الذاكرة - مدونة واحة القصة القصيرة



رؤية نقدية/ مدونة واحة القصة القصيرة



رؤية نقدية للقصة القصيرة


 صوت الذاكرة .. للأديبة/ صديقة صديق علي

بقلم الأستاذ الناقد / حيدر الأديب



حيدر الأديب
يشدد جورج بوليه على (( إن تنازل المرء عن نفسه أثناء القراءة، ليس سوى حيازة لنفس أخرى في الآن ذاته، وربط للوعي بوعي آخر، بالأخر الذي هو العمل، الأمر الذي لا يعني أن المرء ضحية، أو أن وعيه تعرض للخسران )).قصة قصيرة للاديب نبيل النجار
على هذا الضوء، سنناقش كفاءة النص، وأرجو أن يتفهم صاحب النص أن هذا الذي أقدمه هو قراءة ضمن قراءات، لأن النص هو ( قراءاته المتعاقبة ). فليست القيمة في صحة أو خطأ هذه القراءة. فما كان مبكياً لي، هو مضحك لغيري، والعكس صحيح، ولا يعني هذا تهافت القيم، واعتباطية الدلالات، بقدر ما يعني تمثل الذات القارئة كدلالة يحدها فهم معين إزاء نص هو مدلول، يعود لمرجعيات هذه الذات تحت سقف سياق النص، وبهذا المشترك يمكن التعاقد على معنى النص، وهكذا تعقبها قراءة أخرى وأخرى، والسطور التالية تتكفل بهذا الفهم، كأطروحة من عدة أطروحات، لذا فالدفاع عن النص، هو دفاع عن حصص دلالية مؤقتة، لاطائل تحتها>
*
طبق القش هذا لم يجب على حتمية الصراع الطبقي، تلك اللعبة الماركسية المطورة عن ديالكتيك هيجل، ولكنه كان ممراً لفسحة في الذاكرة، تكشف عن ضحايا هذا الصراع، استثمر فيها الوصف بجهد أراح السرد.. هذا المكر الذي لعبه الوصف، مؤزراً بصدى العنوان المترامي في الذكرة، سرعان ما يذوب أمام سطوة القول الفلسفي في مطلع القصة، (إن تاريخ كل مجتمع موجود إلى يومنا هذا هو تاريخ الصراع الطبقي)، ذلك أن القول الفلسفي ذا منطوق عقلي، فإذا ما جاور أي منطوق، تغلب عليه، أو أزعجه بسطوعه، وكما نعلم، فالأدب ذا منطوق تخييلي، جمالي، لذا إذا فات على السارد تذويب هذا المنطوق العقلي في المنطوق التخيلي، فإنه إن لم يفعل ذلك، يظل حاكماً عليه ... نعم هو لا يظهر مع تشغيل السرد حتى نهاية القصة، لكن بمجرد أن ينتهي السرد، يبرز للسطح ثانية، (إن تاريخ كل مجتمع موجود إلى يومنا هذا هو تاريخ الصراع الطبقي)، وكأنه متوالية تكرارية، والسبب أن السارد بعد أن أكده بأنه عنوان لمحاضرة، ثم زاده خطوة ب(من يذكر لي أسباب حتمية الصراع الطبقي ؟) تخلى عنه، غير ملتفت إلى اشتغال الاقوال الفلسفية في الخلفية على تدمير بنية السرد الأدبي، إلا في حالة محاصرته في سياق يضمن سكوته، وإلا فإنه يعمل على مزاحمة التلقي بين فينة وأخرى، ولعل هذا لا يظهر في مستويات القارئ البسيط، ولكنه لدى القارئ المطلع، يمثل إشكالية في البناء الجمالي للقصة.
 *
زمن القصة زمن نفسي، (قذف سؤاله بي / غبت) والزمن هنا هو الحدث، زمن القش
 *
يستعرض السارد جانباً من شخصيته الثقافية، والسلوكية، فعرض القول الفلسفي وتأكيده بسؤال هو له، لا للشخصية داخل القص، وهذا ما يبدو لي كذلك القول: (ركّزتُ نظري بعينيه مما أربكهُ.)، ويبدو أن هذين القولان هما لافتة قد تسللت من اللاوعي، إلى السرد مباشرة، لأن سياق القول، سياق تأكيدي، (محاضرتي / نظري)، فصوت الراوي متواجد أكثر من صوت الشخصية / هكذا يبدو لي /
 *
هناك تغييب متعمد لمحتملات الحدث داخل قاعة المحاضرة، تغييب لصوت المدلول الفلسفي / لصوت المعترض في كلتي حالتيه / تغييب المعترضون الاخرون، ومصادرتهم لجانب صوت الذكريات، وقد يقول قائل، إن المعترض شخصية ثانوية، أقول نعم لكنها خلخلت المستهل بنسق مضمر، وهو أفول الفلسفة الماركسية، ولعلها واعية، وغير ساذجة، كما صورها السارد لكنه غيبها.
كذلك نرى تغييباً لطبق الدش، كان من الممكن أن يزيد من كفاءة الدلالة الساخرة>
 *
أقول هذه الإشكاليات تقع داخل السرد، وهو يشتغل، فالسارد معذور، من جهة أنه يستهدف ذكريات مرصودة سلفا، توزعت وفق وعي داخل السرد، هكذا يراد لها، وأنه يتقصد طبق القش، ويرد عليه أن هناك أكثر من محتمل للسرد يغطي ما غاب عن هذا الشكل، وأن هذه النقلة غير موفقة تماما، فالوصف ذكي جداً، لكنه اشتغل بقوة في دلالة منغلقة على ذاتها، وإلا ماذا يراد من طبق القش، فإذا كانت المدلول لمجرد الذكرى، فهذا رصد شخصي، يتلاشى، لأنه لا يعد من المشتركات الإنسانية إلا في ذهن السارد، ومن له صلة بهذه الفسحة من الذاكرة>
*
 إن القراءة، هي عملية تحويل من الكاتب إلى المتلقي، فالأدب استكشاف في الذات، والأشياء، تتكفل اللغة تحويله إلى ذهن المتلقي كواقعة وعي، ينفتح على أكثر من تأويل، ولكن في هذا النص، نرى أن الدلالة منكفئة، وعائدة إلى ذاتها، فلم يعد المتلقي شريكا، أو كاشفاً لما خبأه النص، سوى براعة الوصف لحدث مخصص، أو قل لزمن نفسي معاد عبر الاسترجاع داخل الذات الساردة.
حيدر الأديب / العراق
قصة قصيرة للاديب نبيل النجار

نص القصة
صوت الذاكرة

إن تاريخ كل مجتمع موجود إلى يومنا هذا هو تاريخ الصراع الطبقي"
كتبت هذا -وكان محور محاضرتي- على اللوح والتفتُّ الى أعين لا أقرأ منها إلّا الجمود و عدم الاهتمام ...وكي انتشلهم من سباتهم ...سألت :
-
من يذكر لي أسباب حتمية الصراع الطبقي ؟
أتاني صوت احد المتندرين :
ـأي طبق تقصد ؟ ..طبق القش أم( الدشّ) ؟ويقصد الصحون اللاقطة،ركّزتُ نظري بعينيه مما أربكهُ.
قذف سؤاله بي إلى محيط طبق قش مصنوع من سيقان القمح ..تعلوه بسخاء أرغفة الخبز والقليل القليل من كل ماعداها. نتربع على حصير أنا وأخوتي الستة. تلاصقُ رُكَبنا ببعض يسهل علينا النكز، و بث رسائل التذمُّر، والسخرية، دون أن نلفت نظر والديّنا ...الّلذين لا ينتبهان لأحاديثنا المشفّرة إلّا إن فلتت من أحدنا ضحكة تكرج وراءها ضحكات متتالية كالدومينو، ما يستدعي تلويح العصا بيد أمي أو نظرة صارمة لائمة من أبي تُخرسنا .
تصل الى مسامعي همسات الطلبة المكبوته ...و تساؤلاتهم حول صمتي والجميع ينتظر حكمي ويتنقّلون بأعين الترقب بيني وبين من تجرّأ على السخرية بمحاضرتي سألته :
ـوهل رأيت يوما طبق القش ...؟
ودون ان أسمع جوابه غبت ، ...في لمعان صينية نحاسية مطعّمه بالفضة تتّكِئ بغرورها على حائط تفوح منه رائحة الكلس المنتشي مع الطين ...تبدو نشازاً وهي ترقب فقرنا و تحتقر هشاشة طبق القش وتتحدّى آمالنا في التحلّق حولها يوما ..لكن هيهات فأمّي تحرّم علينا المساس بأيقونتها الشاهدة على عزّ أبيها المنصرم أمام إسرافه ونزواته .
وحدها أختي كانت تلمسها لتنظف الغبار عنها ..وكانت لاتعني لها بشيء سوى كرهها لها ، لأنّها تضيف إلى أعبائها عبئاً تافهاً كما كانت تسمّيه ...أفهمتني فيما بعد أنّه لا قداسة لما نقوم بتنظيفه ولا نستطيع تناول قوتنا منه ،وهذا ما برّر لي تشفّيها من دائرة بيضاء كانت مُرتَسماً للصينية على الحائط لم يطَلها الاصفرار كما وجوهنا، يوم ولولت أمي إذ أفاقت على سرقة مجدها ،وهي تلوم أبي وتتّهمه بتسهيل السرقة من بابٍ تركه موارباً للّصوص كي يقطع جذورها ،يومها بكينا مع أمي خسارتها إلّا أختي فقد كانت شامتة.و كان أبي لا مبالياً.
قلت:
في العمق و باللاوعي عند أمّي.. لم تكن الصينية بقطرها الكبير هدية ثمينة من أمها و تاريخ زاخر من الطفولة كانت تهطل على ذاكرتها برداً وسلاماً فقط، بل كانت سلاحها الصامت المشهور دائما في وجه أبي، لتذكّره بتضحيتها العظيمة أمام حبّها الكبير المتهالك بأفواهنا .
صحوتُ على تصفيق الطلبة وأدركت أنني كنت أفكر بصوت يتابعونه بشغف.
صديقة صديق علي / سوريا

أقرأ أيضا: قصة قصيرة آخر البطولات- نص وقراءتان

التسميات:

السبت، 14 سبتمبر 2019

قصة قصيرة للأديب نبيل النجار - مدونة واحة القصة القصيرة



قصة قصيرة واحدة، ومعالجتان
للأديب : نبيل النجار / سوريا


قصة قصيرة للأديب نبيل النجار - مدونة واحة القصة القصيرة
نبيل النجار
المعالجة الأولى بعنوان (تزوير)

شقيق الكساد كان ورديف الملل، تسلية التجار وأولادهم، عصبي كجرذ وقع في مصيدة كصرصار يلاحقه خف،يدخل السوق صباحاً بثيابه المهلهلة ذات الماركات العالمية الشهيرة!.
ـ أبو زبلة..تعال،الشاي جاهز، يناديه أحدهم.
يرفع يده بحركة بذيئة: صرت تشرب شاي على حظي يلعن أبوك النتن.
يسارع تجار السوق إلى خارج محلاتهم ضاحكين
ـ تعال صياح قهوتك جاهزة، يناديه آخر.
ـ سمعت ..قهوة.. الناس الأكابر تشرب قهوة.
يمط شفتيه بقرف ويخرج لفافة تبغ طويلة يشعلها وهو يضع رجلاً على رجل .
حذاؤه المعوجة مقدمته كحذاء السندباد كان ملمعاً وكبيراً جداً على قدميه.
ـ ايييه ماهذه الشخصية المحترمة ياصياح والله أحسن من رئيس وزراء.
ـ اشتريت هذه البزة أم سرقتها أبو زبلة؟
ـ نفض رماد لفافته بعصبية: هذه أهدتني إياها أمك ياإبن الشرمو...
تعالت الضحكات لتجتذب مزيداً من المشاركين، هم يعلمون أنه يغضب من هذا اللقب.
ـ حلوا عن سمانا، كل واحد إلى محله، صاح بهم وقد تغضن وجهه الأسمر: لايوجد سينما هنا ولاراقصات، هيا كل واحد إلى عمله،أولاد القحاب.
تدخل صاحب المحل: إنتهينا ياجماعة دعوا صياح يشرب قهوته بمزاج.
انفض الجمع تقريباً بقي ثلاثة حول الطاولة.
مال التاجر على صديقه، سأله بصوت فوق الهمس بقليل: إنتخابات مجلس الشعب قريبة مارأيك أن نرشح صاحبنا؟!.
أشار بعينيه وبهزة رأس جانبية خفيفة تجاه صياح.
ضرب بقبضته على صدره مسهلاً طريق رشفة القهوة التي ضلت مسارها،سعل عدة مرات،تلون وجهه بالأحمر الداكن بينما كان صاحب الإقتراح يقهقه.
ـ علي تكاليف الحملة الإنتخابية قالها ضاحكاً بعد أن تمالك أنفاسه؛ ولكن ألا يجب أخذ رأي العريس!
عادا للقهقهة بصخب، ضربا أكفهما ببعض كتهنئة على الفكرة البارعة.
ـ مارأيك صياح؟ تترشح لمجلس الشعب؟
عرك عينه اليسرى التي خالطها دخان التبغ فغدت حمراء كخوخة،نفض الرماد المتساقط عن بنطاله
ـ اتركني بحالي لا مجلس شعب ولامجلس ضراط.
ـ بالعكس صياح. قيمة ومصاري وهيبة
كاد ينهض من مكانه ويغادر لولا أن أمسكاه.
ـ اسمع سأعطيك كل يوم مئة ليرة.
فكر بالعرض ملياً حك شعره الاشعث بقسوة: ولفافة شاورما.
مبتسما: لا كثير..هكذا كثير.
حاول سحب نفسه باتجاه المخرج: اتركني،اتركني
ـ بسيطة بسيطة،مئة ولفافة شاورما وحبة مسك تكرم عينك.
مد يده كمذراة: هات.

لأول مرّة في حياته يقتني صياح بزة جديدة؛ صحيح أنها وطنية الصنع ولكنها جديدة وعلى مقاسه تماماً،ذهبوا به إلى حمام السوق قشروه جلخوه أعادوا لون جلده الحقيقي.
الحلاق طالب بمضاعفة الأجرة مبررا:شعر أذنيه لوحده يحتاج لساعة نتف!
إنتشرت صور صياح الغزاوي كانتشار حبات الطلع في يوم ريح،كُتب تحتها عباراتٍ رنانة: نصير الكادحين! مكافح الفاسدين! عدو الاستغلال...
صورته بالشعر القنفذي اللامع كانت توحي بالعزم والصدق والموثوقية.
دبت الحياة في السوق من بعد موات طويل،وفود جاءت، مهرجانات أقيمت،الإقبال على مقر الحملة الإنتخابية كان ساحقاً بينما أقفرت مقرات المنافسين إلا من الأقارب وبعض المنتفعين.
انسحب من المنافسين على نفس الدائرة ثلاثة ولم يبق في الدائرة إلا صياح ومنافسه مرشح الحزب الحاكم.
وسائل الإعلام وضعت ظاهرة صعود المرشح الغامض في بؤرة إهتمامها وساهمت في زيادة إنتشاره،انهزم المحللون الرسميون أمام محللي المعارضة.
في اول خطاب شعبي لصياح صعد على منصة مرتجلة من صناديقٍ وطبليات؛لفافته على زاوية فمه؛تضيقت عينه اليسرى كالعادة من الدخان المتصاعد إليها،فاجأته الجماهير المحتشدة في الساحة بهتافها وتصفيقها، صاح ابن أحد التجار:
كلمة..كلمة..نريد كلمة.
ردد الحشد ذات الهتاف بحناجر ملتهبة.
نظر إليهم نفض الرماد المتساقط على ثيابه:
سأرخص لكم ال((كيري)) ستأكلون((كيري)).
نهرهم بذراعه ونزل عن المنصة.
خلال يومين فقط استلمت المحطات التلفزيونية جميعها إعلانا يقول: قطعتان إضافيتان وبنفس السعر القديم من جبنة كيري القشدية الرائعة.
استمرأ التجار اللعبة: صوروه يأكل أو يلبس أو يحمل منتجاتهم.
الإقبال على صناديق الإقتراع كان مدهشاً،لأول مرة كانت المراكز تمتلئ طواعية،رفض الناخبون أخذ الأوراق التي طبعت مسبقاً وعليها اسماء مرشحي الحكومة، أخذوا أوارقاً فارغة كتبوا عليها إسماً واحداً والإبتسامات تزين وجوههم.
مد المذيع الشهير يده لضيفه:يقول أنه حتى أصوات الأموات وصناديق البادية لم تكن كافية لينجح مرشحكم بالإنتخابات، كيف ترد عليه؟
يعدل الضيف من جلسته يتصنع صوتاً مخشوشناً أبيا: الحكومة غير مضطرة لهذا التزوير، مرشحنا فاز بالتزكية.
ـ ياراااجل..ياراااجل..يقاطعه المذيع وهو يفرد أصابعه في وجهه: كل من راقبوا الانتخابات قالوا أن نسبة 99.99%من الأصوات كانت لصالح صياح الغزاوي.
ـ يادكتور هذا المرشح ليس له وجود، لم نجد ملفه عند لجنة الانتخابات..غير موجودة..لم يتقدم بأوراق أو ثبوتيات.
يستدير المذيع باتجاه ضيفه الثاني الذي رسم إبتسامة عريضة هازئة بكلام نظيره: يقول لك مرشحكم ليس له وجود، شبح،مارأيك بهذا الكلام رد عليه! رد ياأخي رد!
ـ ياسيدي بماذا تريدني أن أرد؟اضبارته كانت عندهم وأخفوها! واضحة،انت تعرف أساليب الحكومات الإستبدادية.
*****************

المعالجة الثانية بعنوان(حقائق ستبقى طي الكتمان)

رمى ذلك الملف المرقون بسري للغاية على الطاولة بانزعاج واضح.
ـ ماهذا ياأفندي..مكتبة كاملة؟قلنا لك دراسة تقرير!هل تظن أننا نحن أو القيادة عندنا كل وقت الدنيا للقراءة؟
الموظف الذي لم يُدع للجلوس كان في قمة الإضطراب والتبعثر.
ـ سيدي كتبت لحضرتكم ملخص من صفحتين.
عدل نظارته بعنجهية ظاهرة أشار للملف وللموظف المرتبك بحركة واحدة.
بسرعة أخرج الملخص المطلوب قدمه بيد مرتجفة وتراجع مسرعاً لمكانه الأول.
السيد المدير وضع نظارةً بديلة بعدساتٍ صغيرة شفافة،هز رأسه الكبير الحليق تماماً فبدا كمصارع يتهيأ للإنقضاض الشرس،اربدت جبهته اهتزت أرنبة انفه،تغير موقع نظارته.
بدا الموظف المسكين وهو يراقب إنفعالات رئيسه كأنما يتوقع تهاوي سقفٍ متصدع فوق رأسه ،شحب وجهه غارت الدماء عن وجهه، خشعت ركبتاه كاد يتهاوى.
ولأن دقائق المواقف المحرجة تمتد دهوراً؛فقد شارك الزمن بقسوة في جلسة التعذيب المضنية.
ـ يئست منك. هز رأسه كمن يقرر حقيقة واقعة.
ـ ل..لماذا..س.. سيدي؟ زاد جفاف حلقه في تلجلج كلماته.
أربع سنوات ومازلت لاتفهم طريقة عملنا،تحليلاتك خرقاء،تعال..اقترب.. أنظر؛ أمسك قلماً كأنه يستعد لتصحيح ورقة امتحان.
سحب الموظف حذاءه الملتصق بالأرض رافضاً التقدم بصعوبة،كادت عضلات ساقيه أن تخذله مثل كل شيء في يومه المكفهر هذا، وقف ذليلاً كتلميذ لم يكتب الواجب المدرسي،كان قلبه يخفق بدعاء الفرج.
ـ أنظر هنا ـ أشار برأس القلم لأول سطر في التقرير الملخص: بدأت الحادثة كمزحة بين التاجر حامد المعجون والتاجر مصطفى الجوخدار وأتفقا على ترشيح المجنون صياح الغزاوي لعضوية مجلس الشعب، وضع ثلاثة خطوط نزقة تحت كلمة مزحة.
ـ مزحة؟!..مزحة؟! أين تفكيرك؟ هذه مزحة؟ هذه مؤامرة.
بدأ العرق البارد يتسلل عبر مسام جسده شعر بدوار خفيف وكادت تغيم عيناه: مؤامرة..؟!
ـ طبعا مؤامرة، هؤلاء البورجوازيون ينتظرون فرصة لإسقاط نظام الحكم.. أية مزحة تجعل أحدهم يتبرع بتكاليف الحملة والآخر يجعل مستودعه مقراً لحملة إنتخابية؟ ومن قال لك أصلاً أن الغزاوي مجنون؟
ـ اعتمدت على التحريات سيدي،هذا بالإضافة إلى أنهم حتى لم يقدموا أوراق الترشيح..الرجل مجنون لايملك أوراقا ليقدموها،تقارير المخبرين سيد..
رمى بالقلم بانزعاج واضح:
-
مخبروك أغبى منك..مزحة ومجنون..ياللغباء!.
بدأ صاحب السيادة يشفط الهواء بمنخريه مصدراً أصواتاً كالخوار كأنه يريد سحب هواء الغرفة كله دفعة واحدة،فيما كان الموظف المسكين يشعر بالإختناق فعلياً وهو يفكر بعواقب تقريره التعس.
ـ وماهذه الفقرة؟ماهذه الفقرة هنا؟ هل تريد إرسالي وراء الشمس؟ والله بكسر الهاء لو اطلعت القيادة عليها لضعنا نحن وأولادنا وأولاد أولادنا، ياإبن الحرام ماذا فعلت لك؟ أربع سنوات وانا أتحمل تقاريرك الغبية.رفع أربعة أصابع في الهواء ثم سحب يديه إلى ربطة عنقه حلها مسح رأسه المتعرق بطرفها..يخرب بيتك. يخرب بيتك!.
ـ يبدو من إقبال الناس الشديد على إنتخاب صياح الغزاوي وهم يعلمون أنه مجنون كنوع من السخرية من الحكومة والاستهزاء بمجلس الشعب الذي أصبح ألعوبة بيد الحزب الحاكم..الله لا يوفقك على هذا الكلام،وهذا الإقبال والإصرار على اختيار الغزاوي دليل على أن الشعب بدأ يتجرأ على إظهار ما في دواخله من كره كامن للحكم.
أهذا كلام نرسله للقيادة؟
ـ س..س..سيدي.. أنت.. أنتم طلبتم تحليلاً كا..
ـ تحليل؟!..تحليل؟! عيناه الآن أصبحتا في منتصف قرص رأسه العاري، هذا توصيلة لحبل المشنقة
ـ لكن..لماذا سيدي؟
ـ أنت هنا تقول للقيادة أن الشعب يسخر بكم ويكرهكم وسوف يثور عليكم.
ـ هذا..هذا..ما أوحت به الأحداث.
ـ أحداث!.والله بكسر الهاء لأرسلنك إلى القبو ولأرسلن أولادك لسجن الأحداث، قرب إصبعه ليضغط زراً.
أسرع الضحية كنمر مطارد انقض على يده يقبلها يغسلها بدموع الندم الحقيقية.
-
أرجوك.. أرجوك ياسيدي.. أرجوك.
نفض السيد يده لشعوره بالشفقة أو بالقرف، مسح يده بمنديل ورقي سحب هواء الغرفة وهو يخور حتى انتظمت أنفاسه.
ـ أ مسك..مد يده بورقة وقلم..واكتب.
ـ بعد التحية والإحترام:
تبين لنا أن حادثة إنتخاب صياح الغزاوي هي مؤامرة قامت بها الإمبريالية العالمية والاستعمار الغادر وعملائهما من البورجوازيين في الداخل،وبعض المغرر بهم من العوام الجهلة.
وتبين لنا بتحليل بعض العينات العشوائية أن الشعب مازال وفياً للشعارات التي رفعها الحزب القائد ويتمتع بكافة وسائل الرفاهية والراحة التي تجعله يقدم أسمى آيات الشكر والعرفان لقيادته الحكيمة المظفرة.
والنصر لقضايانا العادلة.
هكذا تكتب التقارير! مسح رأسه العاري بفخر: هل تعلمت؟
.



التسميات:

الجمعة، 6 سبتمبر 2019

قراءة للأستاذ الناقد/ حيدر الأديب، في القصة القصيرة - مدونة واحة القصة القصيرة


قراءة للأستاذ الناقد / حيدر الأديب


قراءة للأستاذ الناقد/ حيدر الأديب، في القصة القصيرة - مدونة واحة القصة القصيرة


في القصة القصيرة : اللحظة الفاصلة
للأديب / مناف كاظم محسن

هناك ظاهرة جيدة في الأشتغال على الحلم لامن حيث هو تقنية استذكار كي يلجا السرد الى فسحته ليمرر احداثه لا فالقاص اذكى من ذلك ومارس اشتغالا مختلفا ويبدو لي انه برهن بقصته هذه محتملات توجه السرد في نمو الحدث فهو يوصلك بقناعة تامة الى نتيجة ما لكنه يعود ليقود الحدث الى محتمل اخر يستهدفه لحسم االواقعة الادبية وهو انما يفعل ذلك ليحقق في كل محتمل اهداف خاصة تعالج مظاهر وقضايا على انه يبقى مستفيدا من احتمالاته التي تجيب على الفراغات التي يتركها زمن الحدث لا زمن القص
القاص هنا يستخدم وعاء الحلم لا اللغة في عرض الحدث وتبدو اللغة منتجة جدا لا بحالتها وهي مسخرة داخل الحلم لا وانما في انتقالها الذكي بين حلم واخر
وارى انه هذا مبرر كاف لأعفاءه من استخدام الانزياحات والاستعارات والتكثيف والاستغناء عن خدمة الشعر في هذه المواطن
الأحلام كانت اماكن الذات والحزن الذي تنتجه اللغة بفعل سياقها هنا مكان ثالث ورابعا هو الانتظار المر ان هذه الامكنة المتحركة ازاحت الزمان لتقاس بوحدات السرد المستريح الى خاتمته المفجعة
قد يقال ما قيمة السرد المقيد بالواقعية حتى وان اثار مدافن الشعور ؟ فنجيب ان قراءة فاحصة للقصة لم تشتغل على الواقع بما هو واقع انها تقدم لك عبر فضاء الادب فلسفة الانتظار والصبر والحرمان وتطرح سؤالا جوهريا وهو لو امسكنا المشهد من النتيجة ونتسلل الى الواقع هل يجدي ان نشقى وننتظر ونصبر اذا كانت النتيجة الخروج من المشهد ليس دون طفلة فقط بل دون زوجة ودون حياة هذا السؤال بقيمه الاربع الانتظار والصبر والحرمان والموت هو هدية النص للمتلقي كلما التقى به في هذه المواطن الاربع
حيدر الأديب / العراق

نص القصة: (اللحظة الفاصلة)

وقف على جانب الشارع الرئيسي، كان قد حجز لدى طبيب الأطفال لابنته التي دخلت عامها الرّابع، طلب إجازة زمنيّة من عمله، ووقف الآن في انتظار وصولهما معاً هي وأمّها على رصيف الشّارع العام، المحاذي لعيادة الطبيب. كانت السّاعة تقترب من الثالثة والنصف عصراً. السّماء ملبدة بالغيوم, والبرد القارص يتغلغل في العظام. ليلة البارحة لم يستطيعا النّوم هو وزوجته، لقد أتعبهم السّهر معها. كان سعالها جافاً يستمر دونما توقف حتى تقترب من الاختناق. وعندما يحمر وجهها، وتتسع عيناها من شدة السّعال، كان يحتضنها بخوف، شاعراً بالارتباك كلّما أحس بأنها ربما تموت بإحدى هذه النّوبات الحادّة الكريهة. لقد وبّختها امّها كثيراً عندما ابتدأت نوبات السّعال تتزايد، طالبة منها أن تقلل من حركاتها، أن تهدأ قليلا حتى تزول عنها هذه النّوبات المخيفة، لكنّها لم تتوقف عن اللعب، والرّكض في أنحاء المنزل. كانت حركتها مستمرة، مما زاد من سعالها. اعتادت النّوم على ذراع أبيها. كانت زوجته تقول له بأنّه سوف يفسدها بعمله هذا، لكنّه لم يكترث بكلامها، فقد كان يحبُّها ... يحبٌّها جدا. يحبُّ كلامها، حركاتها البريئة، ووجودها الذي انتظره ثمان سنوات. نعم لقد مرّت ثمان سنوات من الحرمان، ثمان سنوات واجه فيها الكثير من نظرات الشّفقة، والكثير من تدخل الآخرين الذين يفرضون أنفسهم عليه. كانوا يتصورون أنّهم بذلك يحسّون بمعاناته, ويقدّمون له المساعدة. بينما في الحقيقة كان يودُّ لو أنّه يستطيع أن يقول لهم الواحد بعد الآخر ((هذه حياتي الخاصّة وأنا أرفض من أيّ أحد منكم التدخل فيما لا يعنيه)), لكنّه لم يستطع أن يقول ذلك. كان قد أقنع نفسه بأن أخلاقه لا تسمح له أن يكون فظًاً مع الآخرين. لم يكن عقيماً، ولم تكن زوجته كذلك. كلّ الفحوصات أثبتت أنّهما طبيعيان مثل بقيّة الأزواج . ربما لم يحن الوقت بعد, ربما بسبب عوامل نفسية, وربما بسبب عوامل روحيّة, يعرفها الروحانيّون فقط, ولا أحد غيرهم من له المقدرة على أن يفعل شيّئا لهما, يجعلهما ينجبان طفلا يزرع  البهجة في أيامهما ولياليهما, مزيلا عنهما كلّ هذا الفراغ القاتل. في البداية رفض بشدة الذهاب الى الروحانيين أو ذهاب زوجته مع امّها اليّهم . لكنّه رضخ أخيرا, ووافق على أن تذهب مع امّها, عندما رأى تأثير الحزن والكآبة عليها. ليال طويلة يسمع بكاءها عاجزاَ عن فعل شيء يزيل كلّ ذاك الحزن عنها. ولكنّ دون جدوى. لم يستطع حتى الروحانيون على فعل شيء . ظلّوا عاجزين أمام حلمه أن يكون أباً, وعن ازالة جزءا يسير من أحزان زوجته التي بدأ اليأس يتسرب إلى نفسها وصارت تحسّ انّها لن تكون امّا أبداً, وسوف تموت هكذا, تملؤها الحسرة لاحتضان طفل يخصها هي ,هي وزوجها. رفض بشدة طلب امّه أن يتزوج بأخرى. كانت امّه قد أصّرت عليه أن يتزوج مرّة اخرى. لكنّه لم يتنازل عن موقفه مؤكّدا لأمّه بأنّ الله سوف يجازي صبره خيراً. الآن وبعد مرور أربع سنوات وخمسة أشهر على ولادة ابنته, تذكّر فجر ذلك اليوم عندما أيقظته امّه, كانت مضطربة جداً, وجهها مشع يعكس فرحاً طفولياً, قالت له ((لقد رأيت رؤيا .... لقد زارني أبوك في المنام حاملاً معه طفلة وجهها كفلقة القمر قائلاً : هذه حفيدتك التي انتظرتموها كل تلك السّنين, سوف تكون معكم بعد اثني عشر شهراً )). كانت زوجته قد سجلت تاريخ ذلك الفجر المبارك, متأكدة من صحّة كلام عمّتها, بينما بقي هو ينظر الى فرح امّه واضطرابها ببلاهة, معتقداً في نفسه بأنّ ذلك ما هو الّا هلوسة , أو ربما أضغاث أحلام . لكن بعد مرور أشهر تأكّد من صحّة الرؤيا. منتظراً يوم ولادة زوجته بفارغ الصبر. كانت الأيام تمرّ بطيئة والأشهر كأنها دهر. كان الانتظار ثقيلاً جداً . تمنّى لو تمرّ الأيام سريعاً وتأتي السّاعة الموعودة. ولن ينسى مهما مرّت عليه الأيام والشّهور والسّنين تلك اللحظة السّعيدة جداً ,عندما وضعوا بين يديه طفلته. كانت ملفوفة بالقماط ووجهها مشعٌّ كأنّها طير من طيور الجنّة . لقد كانت تبكي لكنّه أحسها كملاك مسح على قلبه المضطرب فصار يفيض حبّاً وحناناً. سألته عمّته ماذا تسميها. ((انتظار)) أجابها دون تردد. لقد انتظرناها كل تلك السنين العجاف, لكنّها الآن أعطت لوجودنا في هذا العالم معنى .ابتسم دون أن يدري, وهو يرى عبر الشّارع عندما وقفت سيّارة الأجرة ونزلت منها زوجته وابنته التي ما أن رأته حتى صاحت ((أبي)) راكضة تريد أن تعبر الشّارع لتكون قربه. صاح بها أن تقف بمكانها ولا تتحرك لكنّها لم تنتظر .أفلتت يدها من يد امّها وركضت باتّجاهه, رغم وجود السّيارات المسرعة في الشّارع . كانت لحظة تشبه الكابوس فعلا. لم يستطع أن يلحقها, فقد كانت تركض مسرعة لا ترى أحداً أمامها غيره, من دون أن تلتفت جانبا لترى السّيارة المسرعة القادمة باتجاهها. لم يستطع السّائق أن يوقف السّيارة الّا بعد أن ارتطمت بها ,فارتفعت في الهواء مثل الرّيشة ثم سقطت على زجاجة السّيارة الأمامية, وتدحرجت ليرتطم رأسها على رصيف الشّارع . احتضنها بكلتا يديه. كان رأسها مضرجاً بالدماء. لم يعرف ماذا يفعل وهو يرى الدّماء تخرج من فمها مع كل نفس تأخذه بصعوبة. كانت زوجته قد رمت نفسها فوقه صارخة, مرتعبة مما تراه أمامها, لكنّها لم تسطع أن تفعل شيئا سوى الصّراخ غير المنتظم. اسود العالم أمامه, وصار يحركها مثل المجنون, طالبا من الله ألا يأخذها منه, بعد كلِّ تلك السّنين من الانتظار, بعد كلِّ تلك اللّيالي من المرارة وهو ينصت عاجزاً لبكاء زوجته. لكنّها الآن بين يديه مغسولة بالدّماء, تنظر اليه بعينين مذهولتين، ولا تستطيع أن تنطق بكلمة واحدة. وكلّما أسرعت أنفاسها كلما خرجت الدماء متدفقة من فمها. ((أبي)) أيقظه صوتها المحبوب فتلاشت كلّ تلك الخيالات في العدم . نظر اليها فرحاً, ناسياً كلّ ذلك الألم الذي أحسّه قبل قليل عندما أخذه خياله الى الخط الفاصل بين الحياة والموت. لقد رآها الآن, كانت تمسك يد امّها, نازلتين من سيّارة الأجرة. انتبه إليها وهي تحاول أن تفلت يدها الصغيرة من يد امها كي تعبر الشّارع. صاح عليها أن تقف بمكانها, ركض بكلّ سرعته إليها، كان قد ركض مسرعاً لا يبصر أيّ أحد أمامه غيّرها, هي فقط ,ولا أحد سواها . لم يلتفت جانباً كي يرى السّيارة المسرعة باتجاهه. ارتطم بالسّيارة فارتفع جسمه عالياً في الهواء ثم سقط على زجاج السّيارة الأمامي, تدحرج ليرتطم رأسه برصيف الشارع . اغتسل رأسه بالدماء. حاول أن يرفع رأسه ليرى ابنته المحبوبة سالمة، لكنّه لم يستطع الرؤية، كان يشعر به ثقيلاً جداً, والأشياء صارت تبدو له مشوشة. أغمض عينيه مستسلما لآلامه، فأصبح كلّ شيء من حوله مصبوغاً بالأسود.
مناف كاظم محسن
البصرة – العراق
إقرأ أيضا: قصة قصيرة للأديب نبيل النجار - مدونة الواحة

التسميات:

الثلاثاء، 3 سبتمبر 2019

قصة قصير بعنوان" آخر البطولات" مدونة واحة القصة القصيرة


نص وقراءتان
آخر البطولات
قصة قصيرة للأديب / حمدي البصيري
سوريا.

قصة قصير بعنوان" آخر البطولات" مدونة واحة القصة القصيرة
حمدي بصيري

عنوان القصة: (آخر البطولات)

أنت تعرفني، ولا تعرفني، إذ لم تتعرف عليَّ في الشارع، رغم أننّي استوقفتك هناك أمام المكتبة الظاهريّة، ربّما صادفتني في كشك البرامكة، أو كشك الآداب، أو أبصرتني مع بائع متجول للصحف في كراج باب مصلى .. وضعت ربطة الخبز وكيس الفاكهة جانباً، ونقدت البائع ليرتين فوق ثمن الصحيفة، وقرأتني: " آخر البطولات .. مصرع إمرأة شابة ؟!" .
كان الجميع يحبّني، رغم أنهم شاركوه قتلي، ربّما لأنهم مثلك تماماً، يعرفوني ولا يعرفوني. قد يكون مادفعهم لمشاركته، ذلك الجزء الغامض منّي، الذي استعصى عليهم، ولكنّهم ليلة مصرعي بكوني بحرقة .
كان أخي ! ولكنّه كان وحشاً مرعباً بسكين المطبخ العريضة .. كان أخي، ولكنّي لم أبصره. صرخت به : " يا خيّ " .. كان شخصاً آخر، تتبدل ملامحه بسرعة فائقة. أمسكني من شعري وكبّر .. أهرق دمي، و أنشبَ في السقف فخراً بالعار الذي محاه دمي .
كانت آخر البطولات، مقتل إمرأة شابة " هـ . ن " عشرون ربيعاً، وخريف قاسٍ واحد .. عشرون ربيعاً وسكين مطبخ عريضة، تحصدُ آخر الزنابق.
أنت تعرفني الآن، لا تعرفني، لم تشاركهم قتلي ؟ أيعقل يا رجل !! هذا قبري الذي خبأني فيه أخي. من أنت ؟ ومن أرسلك ؟ أنا لا أذكرك. هل رأيت حمالة صدري الحمراء معلّقة على قاطرة قديمة في محطة سكة الحجاز؟ هل قرأت نبأً متأخراً عن محضرٍ حررته شرطة الآداب لـ هـ . ن ضبطت في وضع مشبوه. هل دلّك أحد ؟ ألم يقل لك بأنّه لم يعد لي صدرٌ و لا ورك و لا..
لم تكتب ما أقول ؟ هل تحصي أنفاسي مثلما فعل أخي ؟ قنن الهواء الذي يدخل رئتيّ، ورماني في قبر يشبه هذا، ألا تعرف أن هذا لن يجدي الآن، لأننّي ببساطة لم أعد بحاجة للهواء .
أكتب إذاً : أنا في العاشرة، وهو في الحادية عشرة، ولي أم تقول : " هيفاء لأحمد " وأم له تقول : " أحمد لهيفاء " وأبوان لنّا سمعناهما يقرآن الفاتحة، وكم من مرّة ، لعبنا "عروس وعريس" .
أكتب : أخي الذي ساءه أن تُقرأ فاتحتي ويبقى بلا فاتحة، وساءه أكثر، صفعة زينب التي اختلس منها قبلة .. أخي الذي أبعدني عن أحمد، وداس سنواتي العشر بقدمه الغليظة . 
أنا مرتاحة هنا !! لا أحد يدوسني بقدمه، والعباد من حولي هادئون، يتلقون حسابهم بصمت .. يعترفون بكلّ الخطايا، ويقبلون طواعية عذاب القبر !
لم يسألني أحد هنا، حتى جئت أنت، تسجّل، وتشاركني هذا القبر. أخبرني من أنت، ولم هذا الدفتر يحمل اسمي ؟ هل دوّنت كلّ شيىء عنّي. من أخبرك؟
أخي كان يقوم بعمل مشابه .. يقدّم تقاريره الملفقة يومياً لأبي. لقد انتقمت منه، هزمته ، صفعة صديقتي، كانت صفعتي وشتيمتها له شتيمتي !
أتعرف، أنت ثقيل الدم، وأنا لا أطيقك، صامت أنت، تسجّل كلّ أقوالي، وتجلدني بعينين لا ذعتين. ليكن في معلومك أن هذا القبر ملكي، ومسجّل بعقد نظامي لدى المحافظة بإسمي ، ابتاعه أبي بخمسين ألفاً في مقبرة الدحداح، وليكن في معلومك أيضاً، أنّه دفع فوق ذلك أربعة آلاف ليرة لسيارة دفن الموتى، وحفار القبر، والقارىء المنشد. لا داعي لهذا. كل ّ شيىء مسجّل لديك، ألاّ تخشى أن يبصرك أخي عندي؟ مع ذلك تصرُّ على مشاركتي .
يا إلهي، إذاً أنت، أنت، هل بدأ حسابي. اسمع، وليكن، أخي، حسابه كان أقسى .. دائماً كان يحاسبني، حتى على نصيبي من الحلوى، لطالما نهره والدي .. كان نهماً ،بشعاً، مفزعاً، مثلك تماماً. أبي قال عنه مرّةً : " هذا الولد ليس من صلبي ؟! " فأخفضت أمي رأسها بانكسار!!
أنت تقتلني بصمتك، قل شيئاً، هل أرسلك أخي ليطمئن على عاره المخبأ هنا، وإذا كنت أنت، أنت، فلم لا تحاسبني . حذروك منّي .. قالوا لك احذرها؟
حسناً، اكتب إذاً، أنا قاتلة الامام .. أنا لست جارية لهارون الرشيد .. أنا شهرزاد التي قصت عليكم حكاياها في ألف ليلة وليلة .. أنا عار الجاهليّة !!
أنا علّقت حمالة صدري رايةً حمراء في محطة سكة الحجاز. عنواني كل العربات القديمة المهملة هناك .. كلّ الرجال يعرفون عنواني، يشتموني نهاراً ويلهثون فوقي كـ ثيران منهكة ليلاً .
أنا زهرة المدينة، وابنة العشرين ربيعاً، والمخبأة تحتكم في مقبرة الدحداح، أنا لست بريئةً، و لكننّي لست عاهرة !. أول مرّة قبّلني أحمد، أحسست بزلزال راعش، خدر ممتع لم أعهده، لم يكن أحمد يختلف كثيراً عنكم، ولكنّه كان رجلاً، بالطبع أنتم رجال، ولكن أحمد فيه شيء مختلف، شيء أحسّهُ أنا دون نساء الأرض، شيء لا تحدّه الكلمات، لذا قررت أن أكون له وحده. ساءك أن تكتب هذا. تكلّم. يا إلهي، لم أعد أحتمل، دع كفني و ارحل. خذ دفترك معك، ارفع تقاريرك لمن شئت، قل له: هذه العبدة خاطئة، زانية، عاهرة، بائعة هوى، قل ما شئت لقد شربت كأسي، وحان الوقت لأبرأ منكم .
أخي، خبأني هنا، وارى عاره في هذا القبر، فلم جئت تنبش عاره. جارتنا أم محمود الداية،غسلتني بعينيين دامعتين، وتحسّرت على شبابي. كلّ الرجال الذين تسلقوا جسدي، بكوا ليلاً عليّ في أسرّتهم الموحشة دوني  
أكتب، أحمد قالها مرّة ومضى : " هيفاء، لم يعد بمقدورنا الاستمرار !! " مرّة واحدة قالها، أحسسّته حينها مثلكم تماماً، بات قزماً بعينيّ و .. كان الغياب؟
لم أصدّق، عدوت خلفه منتصف الليل، صرخت في الحارات الدمشقية القديمة : " أحمد، أحمد " صوتي تلاشى في أزقة باردة معتمة. صحوت على حذاء أخي فوق رأسي، وقد ضبطني في المنام، أنادي أحمد ذهب ولم يعد. أفقت لأرى أمّي دجاجة ضعيفة، تبرك فوقي باكية. أفقت لأرى الديكة تتقاتل للاستئثار بجسدٍ عشق أحمد .. ابن الجيران تمادى، مدرس اللغة ضايقني، صبي الفرّان ..
قررّت ألاّ أكون لأحد بعينه بعد أحمد، وهكذا صرت لكلّ الرجال، أستبدلهم مثلّما أستبدل الحذاء. انتقمت لنفسي، وانتقمت لك يا أمي، ولكلّ إمرأة وضعها رجل مستبد في القن .
أكتب، عندما صرخت: " يا خيّ " انحنى أخي عليّ. اقتلع من صدري خرزة زرقاء، وتميمةً تحميني. بسمل أخي، كبر. نظرت إليه بحب غريب. مدّ سكينه اللامعة العريضة. أحسسّت بأننّي شاة، ثغوت. قال كلمةً تعني بلهجتنا مزيجاً من الانتقام والسخرية، أو شيئاً يشبه ذلك، لم يكن ينظر إليّ مباشرة، حتى لو فعل، لم أكن لأراه. كان قد أغمي عليّ. حزّت سكين المطبخ عنقي. أهرق دمي، وصعدت، صعدت روحي .
حمدي البصيري / سوريا.



القراءة الأولى:

الأستاذ الناقد / المصطفى بلعوام / المغرب

لم تعد القصة القصيرة مجرد "حكاية" على صيغة أحدوثة، نلعب فيها على تقنية العرض إن ساعفها الحظ، أو النجاح، إذ الفائدة منها تجاوزت أغراضها التي ربما كانت لها نجاعة، وقابلية في زمن ما، زمن القرن التاسع عشر.
وهنا أستاذ حمدي قصتك مربكة، تحقق ما أعتقده، وهو : "لا إبداع بدون لغة تبدع، ولا لغة تبدع بغير مادة قولية تبدعها". وقد تُقرأ بأشكال متعددة، تبعا لما يملكه القاريء من قدرات ذهنية- معرفية ... لكنها تحفة أدبية والله، بحيث التقنية المستعملة فيها تحمل هي ذاتها معنى، كدت أقول قصة، إذ يكفي تتبعها لندرك ما تقوله بغض النظر عن فكرة "مسح أخ العار بقتل أخته". فهي تعرض من بين ما تعرضه طبيعة ميكانزمات فكر مرتبط بعالم الأنثى، وكيفية تشكيله، وكذا محنته في سياق تاريخ ثقافي، وما يشغله؛ ويحتاج إلى أدوات معرفية لمعرفة كنهه..
ومن روعة القصص الرائعة أنها دوما تضع الفكر في أزمة، تربك، تقلق، تقوض .. تكتب الحياة وليس حكاية " حادثة" وقعت في آخر الحي.. فهذا يمكن الحصول عليه في عالم الانترنت، والتطور التكنولوجي، لم نعد نحتاج إليه.. ما نحتاجه هو ما يربك فكرا، وتصورات مطمئنة، ومحصنة بكل المرجعيات: من يحاسب من ؟ وأين "دفتر الحساب"؟ وكيف للحساب أن يبدأ ب " أكتب" وكأنها تعيد كتابة "الدفتر" الذي من المفروض، أو على الأقل من المفترض ألا يعاد كتابته؟
معذرة أستاذ .. وأكررها، قصتك تحفة أدبية، وذات زخم معرفي خطير، كما هي القصص العالمية الرائعة..وقد أفادتني عن حق ودون مجاملة ..
المصطفى بلعوام / المغرب

القراءة الثانية:
الأستاذة الأديبة : عائشة ابراهيم / ليبيا
أتساءل، هل سر جمال هذه (التحفة الأدبية كما تفضل الأستاذ المصطفى بلعوام)، هو في جمال السرد، أم في سطوة اللغة، أم في الرسائل الإنسانية، وسيرورة الألم والقهر، أم في نزيف القصة وهي تقتات من روح معذبة قلقة. تترك خلفها لعناتها، في بيئة يؤثثها الألم والوحشية.. النحيب والحرقة.. أسئلة العدالة.. حمالة الصدر الحمراء.. السكين العريضة.. القبر.. القن.. ...، عناصر متكاملة لمنظومة إنسانية منفصمة في ذاتها وأخلاقياتها. يأتي هذا النص لتعريتها رغم أنها في قبر مظلم ما كان لأحد أن ينبشه. قبر مادي كما صورته لنا القصة، وقبر معنوي كبير يدفن أسرار وحقائق مجتمعاتنا وذواتنا التائهة.. أحسنت أيها القاص المبدع. نص رائع.


التسميات: