الثلاثاء، 3 سبتمبر 2019

قصة قصير بعنوان" آخر البطولات" مدونة واحة القصة القصيرة


نص وقراءتان
آخر البطولات
قصة قصيرة للأديب / حمدي البصيري
سوريا.

قصة قصير بعنوان" آخر البطولات" مدونة واحة القصة القصيرة
حمدي بصيري

عنوان القصة: (آخر البطولات)

أنت تعرفني، ولا تعرفني، إذ لم تتعرف عليَّ في الشارع، رغم أننّي استوقفتك هناك أمام المكتبة الظاهريّة، ربّما صادفتني في كشك البرامكة، أو كشك الآداب، أو أبصرتني مع بائع متجول للصحف في كراج باب مصلى .. وضعت ربطة الخبز وكيس الفاكهة جانباً، ونقدت البائع ليرتين فوق ثمن الصحيفة، وقرأتني: " آخر البطولات .. مصرع إمرأة شابة ؟!" .
كان الجميع يحبّني، رغم أنهم شاركوه قتلي، ربّما لأنهم مثلك تماماً، يعرفوني ولا يعرفوني. قد يكون مادفعهم لمشاركته، ذلك الجزء الغامض منّي، الذي استعصى عليهم، ولكنّهم ليلة مصرعي بكوني بحرقة .
كان أخي ! ولكنّه كان وحشاً مرعباً بسكين المطبخ العريضة .. كان أخي، ولكنّي لم أبصره. صرخت به : " يا خيّ " .. كان شخصاً آخر، تتبدل ملامحه بسرعة فائقة. أمسكني من شعري وكبّر .. أهرق دمي، و أنشبَ في السقف فخراً بالعار الذي محاه دمي .
كانت آخر البطولات، مقتل إمرأة شابة " هـ . ن " عشرون ربيعاً، وخريف قاسٍ واحد .. عشرون ربيعاً وسكين مطبخ عريضة، تحصدُ آخر الزنابق.
أنت تعرفني الآن، لا تعرفني، لم تشاركهم قتلي ؟ أيعقل يا رجل !! هذا قبري الذي خبأني فيه أخي. من أنت ؟ ومن أرسلك ؟ أنا لا أذكرك. هل رأيت حمالة صدري الحمراء معلّقة على قاطرة قديمة في محطة سكة الحجاز؟ هل قرأت نبأً متأخراً عن محضرٍ حررته شرطة الآداب لـ هـ . ن ضبطت في وضع مشبوه. هل دلّك أحد ؟ ألم يقل لك بأنّه لم يعد لي صدرٌ و لا ورك و لا..
لم تكتب ما أقول ؟ هل تحصي أنفاسي مثلما فعل أخي ؟ قنن الهواء الذي يدخل رئتيّ، ورماني في قبر يشبه هذا، ألا تعرف أن هذا لن يجدي الآن، لأننّي ببساطة لم أعد بحاجة للهواء .
أكتب إذاً : أنا في العاشرة، وهو في الحادية عشرة، ولي أم تقول : " هيفاء لأحمد " وأم له تقول : " أحمد لهيفاء " وأبوان لنّا سمعناهما يقرآن الفاتحة، وكم من مرّة ، لعبنا "عروس وعريس" .
أكتب : أخي الذي ساءه أن تُقرأ فاتحتي ويبقى بلا فاتحة، وساءه أكثر، صفعة زينب التي اختلس منها قبلة .. أخي الذي أبعدني عن أحمد، وداس سنواتي العشر بقدمه الغليظة . 
أنا مرتاحة هنا !! لا أحد يدوسني بقدمه، والعباد من حولي هادئون، يتلقون حسابهم بصمت .. يعترفون بكلّ الخطايا، ويقبلون طواعية عذاب القبر !
لم يسألني أحد هنا، حتى جئت أنت، تسجّل، وتشاركني هذا القبر. أخبرني من أنت، ولم هذا الدفتر يحمل اسمي ؟ هل دوّنت كلّ شيىء عنّي. من أخبرك؟
أخي كان يقوم بعمل مشابه .. يقدّم تقاريره الملفقة يومياً لأبي. لقد انتقمت منه، هزمته ، صفعة صديقتي، كانت صفعتي وشتيمتها له شتيمتي !
أتعرف، أنت ثقيل الدم، وأنا لا أطيقك، صامت أنت، تسجّل كلّ أقوالي، وتجلدني بعينين لا ذعتين. ليكن في معلومك أن هذا القبر ملكي، ومسجّل بعقد نظامي لدى المحافظة بإسمي ، ابتاعه أبي بخمسين ألفاً في مقبرة الدحداح، وليكن في معلومك أيضاً، أنّه دفع فوق ذلك أربعة آلاف ليرة لسيارة دفن الموتى، وحفار القبر، والقارىء المنشد. لا داعي لهذا. كل ّ شيىء مسجّل لديك، ألاّ تخشى أن يبصرك أخي عندي؟ مع ذلك تصرُّ على مشاركتي .
يا إلهي، إذاً أنت، أنت، هل بدأ حسابي. اسمع، وليكن، أخي، حسابه كان أقسى .. دائماً كان يحاسبني، حتى على نصيبي من الحلوى، لطالما نهره والدي .. كان نهماً ،بشعاً، مفزعاً، مثلك تماماً. أبي قال عنه مرّةً : " هذا الولد ليس من صلبي ؟! " فأخفضت أمي رأسها بانكسار!!
أنت تقتلني بصمتك، قل شيئاً، هل أرسلك أخي ليطمئن على عاره المخبأ هنا، وإذا كنت أنت، أنت، فلم لا تحاسبني . حذروك منّي .. قالوا لك احذرها؟
حسناً، اكتب إذاً، أنا قاتلة الامام .. أنا لست جارية لهارون الرشيد .. أنا شهرزاد التي قصت عليكم حكاياها في ألف ليلة وليلة .. أنا عار الجاهليّة !!
أنا علّقت حمالة صدري رايةً حمراء في محطة سكة الحجاز. عنواني كل العربات القديمة المهملة هناك .. كلّ الرجال يعرفون عنواني، يشتموني نهاراً ويلهثون فوقي كـ ثيران منهكة ليلاً .
أنا زهرة المدينة، وابنة العشرين ربيعاً، والمخبأة تحتكم في مقبرة الدحداح، أنا لست بريئةً، و لكننّي لست عاهرة !. أول مرّة قبّلني أحمد، أحسست بزلزال راعش، خدر ممتع لم أعهده، لم يكن أحمد يختلف كثيراً عنكم، ولكنّه كان رجلاً، بالطبع أنتم رجال، ولكن أحمد فيه شيء مختلف، شيء أحسّهُ أنا دون نساء الأرض، شيء لا تحدّه الكلمات، لذا قررت أن أكون له وحده. ساءك أن تكتب هذا. تكلّم. يا إلهي، لم أعد أحتمل، دع كفني و ارحل. خذ دفترك معك، ارفع تقاريرك لمن شئت، قل له: هذه العبدة خاطئة، زانية، عاهرة، بائعة هوى، قل ما شئت لقد شربت كأسي، وحان الوقت لأبرأ منكم .
أخي، خبأني هنا، وارى عاره في هذا القبر، فلم جئت تنبش عاره. جارتنا أم محمود الداية،غسلتني بعينيين دامعتين، وتحسّرت على شبابي. كلّ الرجال الذين تسلقوا جسدي، بكوا ليلاً عليّ في أسرّتهم الموحشة دوني  
أكتب، أحمد قالها مرّة ومضى : " هيفاء، لم يعد بمقدورنا الاستمرار !! " مرّة واحدة قالها، أحسسّته حينها مثلكم تماماً، بات قزماً بعينيّ و .. كان الغياب؟
لم أصدّق، عدوت خلفه منتصف الليل، صرخت في الحارات الدمشقية القديمة : " أحمد، أحمد " صوتي تلاشى في أزقة باردة معتمة. صحوت على حذاء أخي فوق رأسي، وقد ضبطني في المنام، أنادي أحمد ذهب ولم يعد. أفقت لأرى أمّي دجاجة ضعيفة، تبرك فوقي باكية. أفقت لأرى الديكة تتقاتل للاستئثار بجسدٍ عشق أحمد .. ابن الجيران تمادى، مدرس اللغة ضايقني، صبي الفرّان ..
قررّت ألاّ أكون لأحد بعينه بعد أحمد، وهكذا صرت لكلّ الرجال، أستبدلهم مثلّما أستبدل الحذاء. انتقمت لنفسي، وانتقمت لك يا أمي، ولكلّ إمرأة وضعها رجل مستبد في القن .
أكتب، عندما صرخت: " يا خيّ " انحنى أخي عليّ. اقتلع من صدري خرزة زرقاء، وتميمةً تحميني. بسمل أخي، كبر. نظرت إليه بحب غريب. مدّ سكينه اللامعة العريضة. أحسسّت بأننّي شاة، ثغوت. قال كلمةً تعني بلهجتنا مزيجاً من الانتقام والسخرية، أو شيئاً يشبه ذلك، لم يكن ينظر إليّ مباشرة، حتى لو فعل، لم أكن لأراه. كان قد أغمي عليّ. حزّت سكين المطبخ عنقي. أهرق دمي، وصعدت، صعدت روحي .
حمدي البصيري / سوريا.



القراءة الأولى:

الأستاذ الناقد / المصطفى بلعوام / المغرب

لم تعد القصة القصيرة مجرد "حكاية" على صيغة أحدوثة، نلعب فيها على تقنية العرض إن ساعفها الحظ، أو النجاح، إذ الفائدة منها تجاوزت أغراضها التي ربما كانت لها نجاعة، وقابلية في زمن ما، زمن القرن التاسع عشر.
وهنا أستاذ حمدي قصتك مربكة، تحقق ما أعتقده، وهو : "لا إبداع بدون لغة تبدع، ولا لغة تبدع بغير مادة قولية تبدعها". وقد تُقرأ بأشكال متعددة، تبعا لما يملكه القاريء من قدرات ذهنية- معرفية ... لكنها تحفة أدبية والله، بحيث التقنية المستعملة فيها تحمل هي ذاتها معنى، كدت أقول قصة، إذ يكفي تتبعها لندرك ما تقوله بغض النظر عن فكرة "مسح أخ العار بقتل أخته". فهي تعرض من بين ما تعرضه طبيعة ميكانزمات فكر مرتبط بعالم الأنثى، وكيفية تشكيله، وكذا محنته في سياق تاريخ ثقافي، وما يشغله؛ ويحتاج إلى أدوات معرفية لمعرفة كنهه..
ومن روعة القصص الرائعة أنها دوما تضع الفكر في أزمة، تربك، تقلق، تقوض .. تكتب الحياة وليس حكاية " حادثة" وقعت في آخر الحي.. فهذا يمكن الحصول عليه في عالم الانترنت، والتطور التكنولوجي، لم نعد نحتاج إليه.. ما نحتاجه هو ما يربك فكرا، وتصورات مطمئنة، ومحصنة بكل المرجعيات: من يحاسب من ؟ وأين "دفتر الحساب"؟ وكيف للحساب أن يبدأ ب " أكتب" وكأنها تعيد كتابة "الدفتر" الذي من المفروض، أو على الأقل من المفترض ألا يعاد كتابته؟
معذرة أستاذ .. وأكررها، قصتك تحفة أدبية، وذات زخم معرفي خطير، كما هي القصص العالمية الرائعة..وقد أفادتني عن حق ودون مجاملة ..
المصطفى بلعوام / المغرب

القراءة الثانية:
الأستاذة الأديبة : عائشة ابراهيم / ليبيا
أتساءل، هل سر جمال هذه (التحفة الأدبية كما تفضل الأستاذ المصطفى بلعوام)، هو في جمال السرد، أم في سطوة اللغة، أم في الرسائل الإنسانية، وسيرورة الألم والقهر، أم في نزيف القصة وهي تقتات من روح معذبة قلقة. تترك خلفها لعناتها، في بيئة يؤثثها الألم والوحشية.. النحيب والحرقة.. أسئلة العدالة.. حمالة الصدر الحمراء.. السكين العريضة.. القبر.. القن.. ...، عناصر متكاملة لمنظومة إنسانية منفصمة في ذاتها وأخلاقياتها. يأتي هذا النص لتعريتها رغم أنها في قبر مظلم ما كان لأحد أن ينبشه. قبر مادي كما صورته لنا القصة، وقبر معنوي كبير يدفن أسرار وحقائق مجتمعاتنا وذواتنا التائهة.. أحسنت أيها القاص المبدع. نص رائع.


التسميات:

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية