دراسة نقدية .. مصطفي بلعوام .. لنص محمد عبد الحكم ( طفل يفقس من بيض الدهشة )
لغة القص وشعرية اللغة
في قصة : " طفل يفقس من بيض الدهشة "
للقاص محمد عبد الحكم
-------
مصطفى بلعوام
![]() |
مصطفى بلعوام |
1- مقدمة سؤال نقدي
هل للقصة القصيرة معالم لغوية خاصة بها من حيث هي جنس أدبي له استقلاليته في إبداع لغته ولغة القول فيه ؟ وهل القول فيها يخضع لما تشترطه هي من مقومات تحدد هويتها الأدبية كقصة قصيرة أولا وأخيرا ؟
" طفل يفقس من بيض الدهشة"، ذلك هو عنوان
نص الأستاذ محمد عبد الحكم الذي يضعنا دفعة واحدة أمام إشكالية اللغة وعلاقتها بمادة القصة على مستوى المصطلح النقد: هل للدهشة بيض ؟ وهل بمقدور طفل أن يفقس ما لا سند له في المسند إليه ؟ تعتمد القصة /النص من أولها إلى آخرها على لغة محايثة لمادتها حيث ترتدي التواءات وتحايلات بلاغية توهم بانفلاتها الزئبقي
من قبضة " الحدث " ، وكأنها تستقي حدثها من لغتها في بناء معماريتها أي أن لغتها تخترق الحدث فتمتصه عن آخره ويغيب بين طياته. إنها لغة زئبقية تقارب عالم طفل من خارج معياريتها المقننة حول مطابقة الدال لمدلوله في الدلالة : " يرتدي من ظلال النبق قبعة، يرمق الخلاء المخادع يمسح التواءات الطرق وتلاحم الأشجار. وكل ما يخشاه أن (..) يلمحه متكاسلا يفترش ندى الظل هائما يرضع من ثدي الصمت وبحبوحة الشمس ورقرقات النسيم ". لغة الأستاذ محمد عبد الحكم تكاد تجري وراء نفسها هروبا من القول المباشر ومن رتابة واقعية الحدث حتى لا تخبو طاقتها الإبداعية . إنها بقدر ما تتحرك داخل علاقة توتُّر بين مادتها وكيفية قصها لها، تستفز المصطلح النقدي ذاته في قراءته لها : لماذا الحدث يخدم اللغة عكس ما تعودنا عليه في القصة ؟ ولماذا لاتقول اللغة الحدث وتحتفل به عِوَض أن تحتفل بنفسها وتتركه طريح منطق تداعياتها؟ وما هي طبيعة علاقة لغة القص بالحدث؟ يستدعينا نص "طفل يفقس من بيض الدهشة " إلى موقعة لغة القص فيه وعلاقتها بقصة القصة من حيث هي قصة تجترح السؤال النقدي الذي يسعى في جوهره إلى تقويض مصطلحه وإنتاج معرفة منها وخاصة بها . فلا قيمة لقراءة نقدية بدون سوْال نقدي كما لا قيمة لسؤال نقدي يضمر معرفة تحصيل حاصل .
" طفل يفقس من بيض الدهشة"، ذلك هو عنوان
نص الأستاذ محمد عبد الحكم الذي يضعنا دفعة واحدة أمام إشكالية اللغة وعلاقتها بمادة القصة على مستوى المصطلح النقد: هل للدهشة بيض ؟ وهل بمقدور طفل أن يفقس ما لا سند له في المسند إليه ؟ تعتمد القصة /النص من أولها إلى آخرها على لغة محايثة لمادتها حيث ترتدي التواءات وتحايلات بلاغية توهم بانفلاتها الزئبقي
من قبضة " الحدث " ، وكأنها تستقي حدثها من لغتها في بناء معماريتها أي أن لغتها تخترق الحدث فتمتصه عن آخره ويغيب بين طياته. إنها لغة زئبقية تقارب عالم طفل من خارج معياريتها المقننة حول مطابقة الدال لمدلوله في الدلالة : " يرتدي من ظلال النبق قبعة، يرمق الخلاء المخادع يمسح التواءات الطرق وتلاحم الأشجار. وكل ما يخشاه أن (..) يلمحه متكاسلا يفترش ندى الظل هائما يرضع من ثدي الصمت وبحبوحة الشمس ورقرقات النسيم ". لغة الأستاذ محمد عبد الحكم تكاد تجري وراء نفسها هروبا من القول المباشر ومن رتابة واقعية الحدث حتى لا تخبو طاقتها الإبداعية . إنها بقدر ما تتحرك داخل علاقة توتُّر بين مادتها وكيفية قصها لها، تستفز المصطلح النقدي ذاته في قراءته لها : لماذا الحدث يخدم اللغة عكس ما تعودنا عليه في القصة ؟ ولماذا لاتقول اللغة الحدث وتحتفل به عِوَض أن تحتفل بنفسها وتتركه طريح منطق تداعياتها؟ وما هي طبيعة علاقة لغة القص بالحدث؟ يستدعينا نص "طفل يفقس من بيض الدهشة " إلى موقعة لغة القص فيه وعلاقتها بقصة القصة من حيث هي قصة تجترح السؤال النقدي الذي يسعى في جوهره إلى تقويض مصطلحه وإنتاج معرفة منها وخاصة بها . فلا قيمة لقراءة نقدية بدون سوْال نقدي كما لا قيمة لسؤال نقدي يضمر معرفة تحصيل حاصل .
٢ -قصة القصة القصيرة وعلاقتها بالسرد واللغة
بعيدا عن كل استقطاب اصطلاحي لأية نظرية، يمكن الاتفاق على فكرة أولية مفادها أن القصة القصيرة هي قصة لغة قص لقصة ما لا تتماهى معها من حيث هي جنس أدبي، وذلك باعتبار أن
كل قصة قصيرة لها قصة تنبني عليها وكل قصة بمفردها لا تعني أنها تشكل قصة قصيرة . فهل نص الأستاذ محمد عبد الحكم" طفل يفقس من بيض الدهشة " يقص قصة تتواشج فيها لغتها بمادتها القصصية ؟ وما معنى لفظة " قصة "؟
في القصة القصيرة إذا قصة ما تشكل بوصلتها في تحقيق مستلزماتها الفنية داخل حقل الإبداع الأدبي . فهي قصة ما في قصة قصيرة تتقاطع وتتعالق معها وتخلق في نفس الوقت ارتباكا في معرفة خصوصية كل منهما. علاقتهما تتجاوز ما قد توحي على سطحها بأنها شطحة اصطلاحية لا غير. أولا ، لأن مفردة " قصة ما " وبمفردها اصطلاح معجمي يتداخل مع اصطلاحه الدلالي في حقله السوسيو- الثقافي واللسني. وثانيا، لأن تحويل ما هي عليه إلى جنس أدبي يبنين شرعيته من شرعنة نواته العضوية منها يقتضي استجلاء معالم هويتها فيه . تحديد مصطلح " قصة " في القصة القصيرة يستوجب هنا تبديد مبهمة منهجية تكاد تكون حتمية إن لم نقل لعنة لصيقة بفكر عربي محكوم عليه أن يتحرك داخل دوامة " العود السرمدي " حيث لا زمن لموضوعه غير زمن ميثولوجي يعيد إليه كل ما يفكر فيه؛ أي أن كل مصطلح أو مفهوم حديث ما هو إلا إعادة إنتاج لما يوجد بالقوة أو بالفعل داخل أرشيفات ذاكرته المعرفية. لن نتوقف على اصطلاحية مفردة " قصة " في اللغة العربية لنبحث لها عن جذور سابقة لما أصبحت عليه كجنس أدبي ولكن عن معناها من خلال معنى القصة القصيرة ذاتها كجنس أدبي حديث النشأة أنتج معرفة خاصة به على اعتباره موضوعا لمعرفة أدبية. مفردة قصة
أدخلت إلى اللغة الفرنسية على سبل المثال في القرن التاسع الميلادي ؛وتعني في جذرية أصلها المعجمي "علاقات أحداث بارزة في حياة ما"، كل قصة هي حدث أحداث لا معنى لها إلا من كونها مترابطة في أهميتها لحياة ما ؛ مما يعني أن حياة الأحداث هي من صميم الحياة التي تحدث فيها وأن عناصر بؤرة القصة تتمحور قبل وبعد كل شيء حول : الحدث / العلاقة / الحياة . لا حدث بدون علاقة ولا علاقة بدون حدث ولا وجود لهما معاً بدون حياة . ثلاتية جدلية سيتغير حسب توظيفها معنى القصة (histoire ) كما وقع الحال فيما بعد وذلك بربطها "بتاريخ حياة حكم ما "( règne ) . فأصبحت ذات مخرجين : القصة -histoire ، التاريخ - histoire ، لهما نقطة تقاطع تتجلى أساسا في كيفية ترابط العلاقات بين الأحداث وتسلسل سرديتها بالنسبة للأولى (récit) وقصها بالنسبة للثانية ، ولازمة دلالية في ذات الآن تنص على أن جوهر وجود القصة هو من جوهر وجود حياة تشكل مادتها. وهكذا ستسمى " une nouvelle " للتمييز بينها في اصطلاحها العام وبين وجودها في هذا الجنس الأدبي الذي يخضعها لمقتضياته الفنية عكس تسميتها في اللغة العربية ب " القصة القصيرة " المترجمة من الانجليزية في حرفيتها. وكيفما كان الحال فإن من وراء تاريخية مصطلح " قصة "، سنكتشف تضارب المواقف حولها: هل القصة تقص ؟ أم تحكى ؟ أم تسرد ؟ وما الفرق بين القص والحكي والسرد ؟ وسيزداد الأمر تعقيدا مع هيمنة اللسانيات وخلقها لقطيعة ابستمولوجية وأيديولوجية في تغيير موضوعات المعرفة ذاتها . إذ تدعي تكوين موضوع معرفي علمي خاص بها خارج الأيديلوجية يتمثل في المادة للسنية مع أنها تبني عكس ما تصرح به فرضياتها على مفارقة غارقة في الايديولوجية .
كل شيء قابل لديها لموضعة لسنية مادام شرط وجوده من شرط نظام اللغة ؛ اللغة أولا وأخيرا في بعدها المجرد من طبيعة مضمون ما تحمله .
ولعل أحسن مثال على منهجية موضوعها هو النص الأدبي ( القصة القصيرة ، الرواية ..) الذي ستفرغه من أدبيته لتحوله كما تحول جميع النشاطات الأخرى إلى موضوع "لعلم جديد " تسميه أحيانا ب sciences de récit وأحيانا أخري ب la narratologie. أدبية الأدب فيما تتناوله ستصبح ثانوية لموضوعها المتجسد في حيرة تسميته الشقية والموزع بين le récit و la narratologie وإن اقترحت فيما بعد تسمية أخرى la récitologie . هل هذه الأخيرة فرع أم أصل للأولى ؟ إنها اشكالية جينية لعملية تحويلها للمادة الأدبية إلى مادة لسنية والتي ستعرف أوج درامتها في الحقل التفافي العربي على الأقل من حيث الترجمة : سرد = قصة =حكائية / récit=histoire=narrativité.
فيترجم le récit أحيانا إلى قصة histoire وأحيانا إلى سرد narrativitéé في حكائيته . وفي أغلب الأحيان يصبح للسرد حكاية وللحكاية قصة وللقصة سردا كأنهم يعنون نفس الشيء تحث ذريعة أن موضوع السرديات هو البحث عن تجريد مفهومي للكيفية التي تتم بها تسلسل الأحداث وترابطها فيما بينها وفق نظام تراتبي معين. المادة اللسنية تحل محل المادة الأدبية في شكل سرديات تجري وراء أزمنتها باحثة عنها في كل سرد بمنأى عن هوية السرد ذاته ، أكان خلقا إبداعيا أم لقطة إشهارية أم لوحة فنية . تشرح تمظهرات الوحدات اللغوية فيه ( رولان بارث ) فيما ننسى ماورائيات إبداعية اللغة ذاتها في خلق ما تمليه عليها فاعلية الإبداع التي لا تعرف في كينونة صيروتها " من قال ولمن يقول وهل الراوي أكثر أو أقل معرفة من الشخصية وما مدى درجة الفارق الزمني بين ( زمن الحكي وزمن القص - جيرار جنيت ). وتوزعه وفق ما تقتطعه في السياقات من سرديات القصة إلى السردية النصية مرورا بسردية الخطاب ( سعيد يقطين ). خليط من مفاهيم تقول أحيانا نفس الشيء تحت مسميات مغايرة : la narrativité la racontabilté - la discursivité- la mise en ordre de l'énoncé - la mise en récit . هل تسلسل أحداث وفق نظام معين يعطينا قصة ؟ وهل تقسيم القصة إلى وظائف وفواعل وأزمنة قيمن بأن يقول ما تقصه القصة من حيث الإبداع ،لا من حبث تقزيمها إلى فكرة؟
يميز د. هرمان علي سبيل المثال والتوضيح بين جانبين من السرد (بمعنى) le récit :
narrativehood و narrativity . مفهوم narrativee لا يعني في الشق الأول الحكي أو الحكاية ولا الحكائية ، لأنها ليست حالة في النوع أو نمط في الجنس ، إنها فاعلية في فعل وجود السرد في ذاته . ولعل ترجمتها إلى كلمة الحكي هو ما يجعل من كل شيء حكيا وبالتالي في كل ابداع حكاية وفِي أحسن تقدير حكائيةً .
فاعلية ربط الأحداث فيما بينها بالسرد لا تعطي للسرد قيمة خاصة ، إنها نشاطه الجوهري في وجوده ووجود الذات التي لا يمكن أن تعبر في وجودها إلا بوجوده كأحد الاحتمالات الممكنة لها.
أما الشق التاني narrativityy فيعني حكم مفسر على فاعلية السرد. وجهة نظر كما يقول الفرنسيون، تنطوي بالقوة وبالفعل على نقص بما أنها وجهة نظر، ونظر واحد لا يقدر أن يسع كل وجهات النطر . ماذا يعني ذللك ؟
يعني أننا حولنا السرد من كونه فاعلية جوهرية للذات في جميع أشكال تعبيراتها إلى نمطية أسلوبية تنصب نفسها المرجع الوحيد والأوحد لكل انواع الكتابة . وبالتالي la narrativité إلى normativité . لم يعد السرد فاعلية تستنبط منه كل أشكال تمظهراته بل تحول ما استنبط منها إلى معيارية متعالية مثالية يتوجب عليه الاحتذاء بها. وعلى هذا النحو، ثم تضغيم السرد في جوهره من ضرورة وجودية وفنية في الإبداع إلى تطفيس أو تقديس نظري له سلطة مفهومية مكونة من خلفيات مذهبية - لسنية - لا تشغله حقيقة الإبداع الذي لا ينشغل هو أيضا بما يقوله ولا يعرف السرد إلا من كونه فاعلية جوهرية لمادته . ولا أدل على ذلك من ظهور بعض المحاولات التي وسعت من مفهوم النقد أو القراءة كي تخرج من مأزق المقاربة اللسنية وتعود إلى فاعلية النص الإبداعية ،وذلك بدء من رولات بارث نفسه في أواخر حياته حيث يتوج مغامراته السيميولوجية بأن النص الإبداعي إبداع قبل أن يكون مجموع وحدات لسنية أو خطابية؛ ولمقاربته لابد أن تكون القراءة إبداعية تتجاوز ملفوظه اللغوي الذي لا تحكمه ثنائية المرسل والمرسل له في إيصال المعلومة. إبداع على إبداع بشي بصعوبة استكناه المادة الإبداعية.
وعليه ، فإن القصة القصيرة تقص قصة مكونة في أدنى دلالتها من "علاقات أحداث بارزة في حياة ما " ، وفِي دقتها الأدبية من أحداث حياة ( تجربة إنسانية ) تتمركز حول "معضلة" لها مخارج متعددة الأبعاد : الدرامية، التأزيمية ، الصراعية .. مما يعني أن نسج "علاقات أحداث في حياة ما " أو سرديتها لا تشكل في ذاتها قصة أدبية. إنها تستوجب قبل كل شيء لغة قص في عالم قصة " تخدم الكلمات ولا تستخدمها " ( جان بول سارتر ). قصة القصة في القصة القصيرة هي لغة القص فيها التي تقصها من دون نمطية تسبق أدراجها. وإن اعتدنا تقسيم بناءها إلى مقدمة وعقدة وخاتمة فليس من أجل تتبع الحدث الشخصة فيما يقوم وتقوم بِه تحث فعل الفعل والفاعل وربط الحدث بالشخصية وبأفعالها المتنامية ورصد حركاتها من خلال مضمون وظائفها. هي قصة قطعة من حياة غير استنساخية لحياة الواقع ، كل شيء فيها حدث بما فيها اللغة على أشكال تمظهرات فاعليتها في إنتاج الحدث وليس في إيصال المعلومة . قصة الآستاذ محمد عبد الحكم " طفل يفقس من بيض الدهشة " نموذج حي لهذه الفاعلية التي تخدم اللغة ولا تستخدمها في القص. وتفرض علينا قراءتها من داخلها وحسب شروط قصها لأن مادة القص فيها هو الشيء ذاته في لغتها . إنها قصة histoire لها بنية قص ولغة قص تمتح منها إبداعيتها وليست بتاتا سردا بمعنى récit الذي يبقى كيفما أضفنا عليه من تلوينات متعلقا بترابط الأحداث في زمنية أفعالها. ومن الطبيعي أن تستعصي على قراءة مشوشة بأدوات مفاهيمية تبحث فيها عما يعضد ويبرر نجاعة وجودها. فهي قصة لغة قص تبني فضاءها بشكل يجعلنا أن نقاربها من خلال محورين :
كل قصة قصيرة لها قصة تنبني عليها وكل قصة بمفردها لا تعني أنها تشكل قصة قصيرة . فهل نص الأستاذ محمد عبد الحكم" طفل يفقس من بيض الدهشة " يقص قصة تتواشج فيها لغتها بمادتها القصصية ؟ وما معنى لفظة " قصة "؟
في القصة القصيرة إذا قصة ما تشكل بوصلتها في تحقيق مستلزماتها الفنية داخل حقل الإبداع الأدبي . فهي قصة ما في قصة قصيرة تتقاطع وتتعالق معها وتخلق في نفس الوقت ارتباكا في معرفة خصوصية كل منهما. علاقتهما تتجاوز ما قد توحي على سطحها بأنها شطحة اصطلاحية لا غير. أولا ، لأن مفردة " قصة ما " وبمفردها اصطلاح معجمي يتداخل مع اصطلاحه الدلالي في حقله السوسيو- الثقافي واللسني. وثانيا، لأن تحويل ما هي عليه إلى جنس أدبي يبنين شرعيته من شرعنة نواته العضوية منها يقتضي استجلاء معالم هويتها فيه . تحديد مصطلح " قصة " في القصة القصيرة يستوجب هنا تبديد مبهمة منهجية تكاد تكون حتمية إن لم نقل لعنة لصيقة بفكر عربي محكوم عليه أن يتحرك داخل دوامة " العود السرمدي " حيث لا زمن لموضوعه غير زمن ميثولوجي يعيد إليه كل ما يفكر فيه؛ أي أن كل مصطلح أو مفهوم حديث ما هو إلا إعادة إنتاج لما يوجد بالقوة أو بالفعل داخل أرشيفات ذاكرته المعرفية. لن نتوقف على اصطلاحية مفردة " قصة " في اللغة العربية لنبحث لها عن جذور سابقة لما أصبحت عليه كجنس أدبي ولكن عن معناها من خلال معنى القصة القصيرة ذاتها كجنس أدبي حديث النشأة أنتج معرفة خاصة به على اعتباره موضوعا لمعرفة أدبية. مفردة قصة
أدخلت إلى اللغة الفرنسية على سبل المثال في القرن التاسع الميلادي ؛وتعني في جذرية أصلها المعجمي "علاقات أحداث بارزة في حياة ما"، كل قصة هي حدث أحداث لا معنى لها إلا من كونها مترابطة في أهميتها لحياة ما ؛ مما يعني أن حياة الأحداث هي من صميم الحياة التي تحدث فيها وأن عناصر بؤرة القصة تتمحور قبل وبعد كل شيء حول : الحدث / العلاقة / الحياة . لا حدث بدون علاقة ولا علاقة بدون حدث ولا وجود لهما معاً بدون حياة . ثلاتية جدلية سيتغير حسب توظيفها معنى القصة (histoire ) كما وقع الحال فيما بعد وذلك بربطها "بتاريخ حياة حكم ما "( règne ) . فأصبحت ذات مخرجين : القصة -histoire ، التاريخ - histoire ، لهما نقطة تقاطع تتجلى أساسا في كيفية ترابط العلاقات بين الأحداث وتسلسل سرديتها بالنسبة للأولى (récit) وقصها بالنسبة للثانية ، ولازمة دلالية في ذات الآن تنص على أن جوهر وجود القصة هو من جوهر وجود حياة تشكل مادتها. وهكذا ستسمى " une nouvelle " للتمييز بينها في اصطلاحها العام وبين وجودها في هذا الجنس الأدبي الذي يخضعها لمقتضياته الفنية عكس تسميتها في اللغة العربية ب " القصة القصيرة " المترجمة من الانجليزية في حرفيتها. وكيفما كان الحال فإن من وراء تاريخية مصطلح " قصة "، سنكتشف تضارب المواقف حولها: هل القصة تقص ؟ أم تحكى ؟ أم تسرد ؟ وما الفرق بين القص والحكي والسرد ؟ وسيزداد الأمر تعقيدا مع هيمنة اللسانيات وخلقها لقطيعة ابستمولوجية وأيديولوجية في تغيير موضوعات المعرفة ذاتها . إذ تدعي تكوين موضوع معرفي علمي خاص بها خارج الأيديلوجية يتمثل في المادة للسنية مع أنها تبني عكس ما تصرح به فرضياتها على مفارقة غارقة في الايديولوجية .
كل شيء قابل لديها لموضعة لسنية مادام شرط وجوده من شرط نظام اللغة ؛ اللغة أولا وأخيرا في بعدها المجرد من طبيعة مضمون ما تحمله .
ولعل أحسن مثال على منهجية موضوعها هو النص الأدبي ( القصة القصيرة ، الرواية ..) الذي ستفرغه من أدبيته لتحوله كما تحول جميع النشاطات الأخرى إلى موضوع "لعلم جديد " تسميه أحيانا ب sciences de récit وأحيانا أخري ب la narratologie. أدبية الأدب فيما تتناوله ستصبح ثانوية لموضوعها المتجسد في حيرة تسميته الشقية والموزع بين le récit و la narratologie وإن اقترحت فيما بعد تسمية أخرى la récitologie . هل هذه الأخيرة فرع أم أصل للأولى ؟ إنها اشكالية جينية لعملية تحويلها للمادة الأدبية إلى مادة لسنية والتي ستعرف أوج درامتها في الحقل التفافي العربي على الأقل من حيث الترجمة : سرد = قصة =حكائية / récit=histoire=narrativité.
فيترجم le récit أحيانا إلى قصة histoire وأحيانا إلى سرد narrativitéé في حكائيته . وفي أغلب الأحيان يصبح للسرد حكاية وللحكاية قصة وللقصة سردا كأنهم يعنون نفس الشيء تحث ذريعة أن موضوع السرديات هو البحث عن تجريد مفهومي للكيفية التي تتم بها تسلسل الأحداث وترابطها فيما بينها وفق نظام تراتبي معين. المادة اللسنية تحل محل المادة الأدبية في شكل سرديات تجري وراء أزمنتها باحثة عنها في كل سرد بمنأى عن هوية السرد ذاته ، أكان خلقا إبداعيا أم لقطة إشهارية أم لوحة فنية . تشرح تمظهرات الوحدات اللغوية فيه ( رولان بارث ) فيما ننسى ماورائيات إبداعية اللغة ذاتها في خلق ما تمليه عليها فاعلية الإبداع التي لا تعرف في كينونة صيروتها " من قال ولمن يقول وهل الراوي أكثر أو أقل معرفة من الشخصية وما مدى درجة الفارق الزمني بين ( زمن الحكي وزمن القص - جيرار جنيت ). وتوزعه وفق ما تقتطعه في السياقات من سرديات القصة إلى السردية النصية مرورا بسردية الخطاب ( سعيد يقطين ). خليط من مفاهيم تقول أحيانا نفس الشيء تحت مسميات مغايرة : la narrativité la racontabilté - la discursivité- la mise en ordre de l'énoncé - la mise en récit . هل تسلسل أحداث وفق نظام معين يعطينا قصة ؟ وهل تقسيم القصة إلى وظائف وفواعل وأزمنة قيمن بأن يقول ما تقصه القصة من حيث الإبداع ،لا من حبث تقزيمها إلى فكرة؟
يميز د. هرمان علي سبيل المثال والتوضيح بين جانبين من السرد (بمعنى) le récit :
narrativehood و narrativity . مفهوم narrativee لا يعني في الشق الأول الحكي أو الحكاية ولا الحكائية ، لأنها ليست حالة في النوع أو نمط في الجنس ، إنها فاعلية في فعل وجود السرد في ذاته . ولعل ترجمتها إلى كلمة الحكي هو ما يجعل من كل شيء حكيا وبالتالي في كل ابداع حكاية وفِي أحسن تقدير حكائيةً .
فاعلية ربط الأحداث فيما بينها بالسرد لا تعطي للسرد قيمة خاصة ، إنها نشاطه الجوهري في وجوده ووجود الذات التي لا يمكن أن تعبر في وجودها إلا بوجوده كأحد الاحتمالات الممكنة لها.
أما الشق التاني narrativityy فيعني حكم مفسر على فاعلية السرد. وجهة نظر كما يقول الفرنسيون، تنطوي بالقوة وبالفعل على نقص بما أنها وجهة نظر، ونظر واحد لا يقدر أن يسع كل وجهات النطر . ماذا يعني ذللك ؟
يعني أننا حولنا السرد من كونه فاعلية جوهرية للذات في جميع أشكال تعبيراتها إلى نمطية أسلوبية تنصب نفسها المرجع الوحيد والأوحد لكل انواع الكتابة . وبالتالي la narrativité إلى normativité . لم يعد السرد فاعلية تستنبط منه كل أشكال تمظهراته بل تحول ما استنبط منها إلى معيارية متعالية مثالية يتوجب عليه الاحتذاء بها. وعلى هذا النحو، ثم تضغيم السرد في جوهره من ضرورة وجودية وفنية في الإبداع إلى تطفيس أو تقديس نظري له سلطة مفهومية مكونة من خلفيات مذهبية - لسنية - لا تشغله حقيقة الإبداع الذي لا ينشغل هو أيضا بما يقوله ولا يعرف السرد إلا من كونه فاعلية جوهرية لمادته . ولا أدل على ذلك من ظهور بعض المحاولات التي وسعت من مفهوم النقد أو القراءة كي تخرج من مأزق المقاربة اللسنية وتعود إلى فاعلية النص الإبداعية ،وذلك بدء من رولات بارث نفسه في أواخر حياته حيث يتوج مغامراته السيميولوجية بأن النص الإبداعي إبداع قبل أن يكون مجموع وحدات لسنية أو خطابية؛ ولمقاربته لابد أن تكون القراءة إبداعية تتجاوز ملفوظه اللغوي الذي لا تحكمه ثنائية المرسل والمرسل له في إيصال المعلومة. إبداع على إبداع بشي بصعوبة استكناه المادة الإبداعية.
وعليه ، فإن القصة القصيرة تقص قصة مكونة في أدنى دلالتها من "علاقات أحداث بارزة في حياة ما " ، وفِي دقتها الأدبية من أحداث حياة ( تجربة إنسانية ) تتمركز حول "معضلة" لها مخارج متعددة الأبعاد : الدرامية، التأزيمية ، الصراعية .. مما يعني أن نسج "علاقات أحداث في حياة ما " أو سرديتها لا تشكل في ذاتها قصة أدبية. إنها تستوجب قبل كل شيء لغة قص في عالم قصة " تخدم الكلمات ولا تستخدمها " ( جان بول سارتر ). قصة القصة في القصة القصيرة هي لغة القص فيها التي تقصها من دون نمطية تسبق أدراجها. وإن اعتدنا تقسيم بناءها إلى مقدمة وعقدة وخاتمة فليس من أجل تتبع الحدث الشخصة فيما يقوم وتقوم بِه تحث فعل الفعل والفاعل وربط الحدث بالشخصية وبأفعالها المتنامية ورصد حركاتها من خلال مضمون وظائفها. هي قصة قطعة من حياة غير استنساخية لحياة الواقع ، كل شيء فيها حدث بما فيها اللغة على أشكال تمظهرات فاعليتها في إنتاج الحدث وليس في إيصال المعلومة . قصة الآستاذ محمد عبد الحكم " طفل يفقس من بيض الدهشة " نموذج حي لهذه الفاعلية التي تخدم اللغة ولا تستخدمها في القص. وتفرض علينا قراءتها من داخلها وحسب شروط قصها لأن مادة القص فيها هو الشيء ذاته في لغتها . إنها قصة histoire لها بنية قص ولغة قص تمتح منها إبداعيتها وليست بتاتا سردا بمعنى récit الذي يبقى كيفما أضفنا عليه من تلوينات متعلقا بترابط الأحداث في زمنية أفعالها. ومن الطبيعي أن تستعصي على قراءة مشوشة بأدوات مفاهيمية تبحث فيها عما يعضد ويبرر نجاعة وجودها. فهي قصة لغة قص تبني فضاءها بشكل يجعلنا أن نقاربها من خلال محورين :
- حالات اللغة (états de langage) :
حالات اللغة تعني كل إمكاناتها اللامحدودة في خلق موضوعها والاشتغال عَلَيْه؛إمكانات محكومة بفاعلية الإبداع وبعالم القصة. وحالاتها هي من حالات لغة القص التي تبني فضاءها بمرجعية ذاتية (auto-référence) لا تنشعل إبداعيا
بمعيارية اللغة ولا بشروط المصطلح النقدي لها. لغة القص في قصة الأستاذ محمد عبد الحكم " طفل يفقس من بيض الدهشة " تعرض حالاتها وتستعرض كيف تخدم الكلمة في بناء معيارية قصتها. لا نستطيع أن ندخل إليها بدون التخلي عن مرجعية معيارية اللغة ، وذلك بسبب تقويضها لعلاقة الجملة بالمعلومة التي تحملها. الجملة فيها لغة خاصة بها تتحايل على الحدث، فلا تقوله كما في القصة القصيرة الكلاسيكية التي تشدنا " بحدة الحدث واتساقه " ( ج. دولوز ) . إنها قصة قصيرة حداثوية حيث لغة قصها تَخلق معمارية قصتها وليست بنية القصة المتعارف عليها من حدث تصاعدي يمر بمقدمة وذروة وخاتمة هو الذي يملي عليها لغتها.وبعبارة أخرى، إن لغتها لا تقرأ في وحدات الجملة بغية البحث فيها عن مضمون الحدث بل من حالاتها التي تنبض في جسد القصة .
بمعيارية اللغة ولا بشروط المصطلح النقدي لها. لغة القص في قصة الأستاذ محمد عبد الحكم " طفل يفقس من بيض الدهشة " تعرض حالاتها وتستعرض كيف تخدم الكلمة في بناء معيارية قصتها. لا نستطيع أن ندخل إليها بدون التخلي عن مرجعية معيارية اللغة ، وذلك بسبب تقويضها لعلاقة الجملة بالمعلومة التي تحملها. الجملة فيها لغة خاصة بها تتحايل على الحدث، فلا تقوله كما في القصة القصيرة الكلاسيكية التي تشدنا " بحدة الحدث واتساقه " ( ج. دولوز ) . إنها قصة قصيرة حداثوية حيث لغة قصها تَخلق معمارية قصتها وليست بنية القصة المتعارف عليها من حدث تصاعدي يمر بمقدمة وذروة وخاتمة هو الذي يملي عليها لغتها.وبعبارة أخرى، إن لغتها لا تقرأ في وحدات الجملة بغية البحث فيها عن مضمون الحدث بل من حالاتها التي تنبض في جسد القصة .
- حالات الذهنية (états de cognition):
يتعلق الأمر بالآليات الذهنية التي عبرها تتحقق معمارية النص في ربطها لما تشتغل عليه أي les objets cognitifs ( المواضيع الذهنية ) . وتختلف المواضيع الذهنية عن المعرفة على اعتبار أن هذه الأخيرة نتاج لكيفية عمل الآليات الذهنية على مواضعها ؛ إنها البنية المنطقية للنص في آلياتها ومواضعها المنتجة للمعرفة . ما هي مواضيع قصة " طفل يفقس من بيض الدهشة " الذهنية ؟ وكيف يمكن من خلال آلياتها الذهنية ومواضيعها استجلاء منطقها ؟ وما هي المعرفة التي تنتجها ؟ ( لن نتوقف عند هذه النقطة حتى لا نثقل النص، سنشير فقط إلى الآلية المستعملة فيها ).
٣- حالات اللغة : شعرية اللغة في لغة القص .
لغة القص في قصة " طفل يفقس من بيض الدهشة" لغة محايثة في ترصدها للحدث الذي من المفترض أن تمشهد أطواره من خلال تتبع دلالات كلماتها. كما للدهشة بيض ، فلحالاتها حركيّة متدفقة من صور دهشة طفل في عالم تخييلي ودهشة صور صور تبني عليها قصها، ( أو كما يقول الجرجاني " معنى المعنى" في صور الصور) . إنها تنهض على فصل دلالي قاطع بين الكلمات والأشياء حيث الأولى تتنصل من الثانية لخلق صور وصور صور أكثر من قول دلالاتها في ذاتها للاشياء. دهشة الصور تبني صور الدهشة التي تربط الطفل بالعصافير. تبدأ بعلاقة دون علاقة ( جاك دريدا ) : علاقة الطفل بالعصافير داخل مفارقة علاقة يصير فيها الطفل عصفورا والعصافير عالما طفوليا ينطق ولا يتكلم لغته . أكثر من ذلك ، تصبح الكلمات ذاتها من طينة العصافير عندما تمتص الدهشة كلام اللغة
: " طفل تلجمه الدهشة، ينغلق فمه الصغير على عصافير كلمات تتطاير وتتزاحم محبوسة في قفص الصمت ". هل هو تماهي من حيث اللغة أو على الأقل من حيث ما نعتقده حول تعددية اللغات : لغة غير الناطق ( العصافير ) ولغة الناطق ( الطفل ) ؟ تستمر عملية لغة القص هاته على مدار القصة: الحصى التي ترميها القماشة كالرصاص تغدو هي ذاتها رصاصا يغتال أداة التشبيه في طريقه إلى تفجير الدهشة، وبالتالي
الخوف : الحصى كالرصاص/رصاص الحصى.
في الأول تأتي على صيغة ( كما لو ) : " يتطاير الحصى كالرصاص فوق شواشي الأشجار" ؛ بين بين بما أنها تظل محافظة على قيمة وجودها الدلالية مع إضافة لها لشبه سرعة الرصاص . وفِي الثاني تصبح رصاصا بلا شبه أو تشبيه : " يتطاير رصاص الحصى في وجه العملاق (...) رصاص الحصى يلهب عينيه ". في اتجاه العصافير تمر عبر شواشي الأشجار وتتطاير كالرصاص لأن قصديتها المواربة ، بينما في اتجاه العملاق، تحول صفة من صفات الرصاص إلى مكوّن لها لبلوغ قصدية مباشرة " عيني العملاق " . القص هنا لا يعتمد على خطية لغوية في تنظيم عالم القصة ولا على حدث متزامن مع تراتبيته في نسجه. كل الكلمات فيه تخلق الحدث من بعيد أو قريب وفق زمن يجهل تمفصلات قبلية وبعدية آنية الحدث . " يتطاير رصاص الحصى في وجه العملاق / / طيور تفر، وولد ينطلق في بلاد الله خلف عصافير سيقول لها شيئًا " -
"هائما ( الطفل ) يرضع من ثدي الصمت // يلهب ( صاحب الحديقة ) الصمت بنحنحاته // رصاص الحصى يلهب عينيه ( العملاق بعد ما كان صاحب الحديقة ). تقنية القاص محمد عبد الحكم في لغة القص تتجلى في توزيع نفس اللفظة في سياقات مختلفة يربطها دال واحد، حسبما تسميه جوليا كريستفا بفاعلية الدال ، يحكم دلالاتها ومعالمها في خلق معالم القصة.
فاعلية الدال هنا ترجمة لدينامية الوصل والفصل في دال ( الطيران ) حيث كل شيء يتطاير أو ينزع إلى الطيران بما فبه الطفل الذي سيحوله إلى خلاص من نوع خاص ؛ طيران العصافير يصبح فرارا ورغبته الأولى بأن يطير معها فوق الأشجار تصبح هي الأخرى انطلاقة شبيهة بانطلاقة رصاص الحصى الملهبة عيني العملاق، فينطلق / يطير في بلاد الله ليقول لها شيئًا. لغة القص هنا هي لغة جوانية في عالم طفل تتكلم فيه كل اللغات باسثتناء لغة الكبار : لغة الفواكه، لغة العصافير ، لغة الأشجار... لكنها مسكونة في مفرداتها بالحدث - الصدمة ( موت الأب ) وبرجع صدى حدتها من خلال عصا العملاق / صاحب الحديقة ( قم يا ابن ال..) . تلك الصدمة التي تظل ثاوية وراء لغة العصافير "وفضفضة حكي الطفل ". ويمكن استجلاء تمظهراتها من معمارية القصة المبنينة على لا زمتي القص، ما كان كائن وما كان سيكون : الطبيعة تتكلم وتكلم الطفل فيما يراه فيها من جوانية عالمه // الطفل يتوجس ظهور صاحب الحديقة بكهربته لصمتها ولهيام رضعه من ثدي الصمت// التوجس ينفتح على استباقية الحدث - الصدمة ( العصا التي ستحاصره باللسعات الموجعة - قف ياولد - وتدفعه إلى استعمال القماشة لطرد العصافير التي ترتع في عناقيد العنب مع حشرجة صوته المتقطع - زر هوووووي - ) // يعود الطفل إلى بحبوحته تحث بحبوحة الشمس مع لملمة جسده وأنفاسه المتلاحقة كأن استباق الحدث كان مشهدية حقيقة // يغيب بعيدا عن عيني صاحب الحديقة وجحيم العصا ، هناك في نقطة تقاطع " بفضفضة الحكي " والحدث- الصدمة في زمنيته النفسية الأولى // كان سيحدثها وكانت تنظر اليه ( العصافير) ، كان سيقول وكانت ستستمع ، وكان سيحكي لها عن أبيه الذي لفوه في قماش أبيض، وكان سيحكي عن ذلك العش الذي ظل يتابعه أياما،وكان سيحكي عن صاحب الحديقة، كان سيحكي ويحكي، وكانت ستسمع لكنه سيفقس من بيض الدهشة ويلهب رصاص الحص عيني العملاق ثم ينطلق - يطير في بلاد الله خلفها ليقول لها شيئا.
وهاتان اللازمتان تتحركان وتحركان فاعلية دال الطيران ب " زر هووووي " :
: " طفل تلجمه الدهشة، ينغلق فمه الصغير على عصافير كلمات تتطاير وتتزاحم محبوسة في قفص الصمت ". هل هو تماهي من حيث اللغة أو على الأقل من حيث ما نعتقده حول تعددية اللغات : لغة غير الناطق ( العصافير ) ولغة الناطق ( الطفل ) ؟ تستمر عملية لغة القص هاته على مدار القصة: الحصى التي ترميها القماشة كالرصاص تغدو هي ذاتها رصاصا يغتال أداة التشبيه في طريقه إلى تفجير الدهشة، وبالتالي
الخوف : الحصى كالرصاص/رصاص الحصى.
في الأول تأتي على صيغة ( كما لو ) : " يتطاير الحصى كالرصاص فوق شواشي الأشجار" ؛ بين بين بما أنها تظل محافظة على قيمة وجودها الدلالية مع إضافة لها لشبه سرعة الرصاص . وفِي الثاني تصبح رصاصا بلا شبه أو تشبيه : " يتطاير رصاص الحصى في وجه العملاق (...) رصاص الحصى يلهب عينيه ". في اتجاه العصافير تمر عبر شواشي الأشجار وتتطاير كالرصاص لأن قصديتها المواربة ، بينما في اتجاه العملاق، تحول صفة من صفات الرصاص إلى مكوّن لها لبلوغ قصدية مباشرة " عيني العملاق " . القص هنا لا يعتمد على خطية لغوية في تنظيم عالم القصة ولا على حدث متزامن مع تراتبيته في نسجه. كل الكلمات فيه تخلق الحدث من بعيد أو قريب وفق زمن يجهل تمفصلات قبلية وبعدية آنية الحدث . " يتطاير رصاص الحصى في وجه العملاق / / طيور تفر، وولد ينطلق في بلاد الله خلف عصافير سيقول لها شيئًا " -
"هائما ( الطفل ) يرضع من ثدي الصمت // يلهب ( صاحب الحديقة ) الصمت بنحنحاته // رصاص الحصى يلهب عينيه ( العملاق بعد ما كان صاحب الحديقة ). تقنية القاص محمد عبد الحكم في لغة القص تتجلى في توزيع نفس اللفظة في سياقات مختلفة يربطها دال واحد، حسبما تسميه جوليا كريستفا بفاعلية الدال ، يحكم دلالاتها ومعالمها في خلق معالم القصة.
فاعلية الدال هنا ترجمة لدينامية الوصل والفصل في دال ( الطيران ) حيث كل شيء يتطاير أو ينزع إلى الطيران بما فبه الطفل الذي سيحوله إلى خلاص من نوع خاص ؛ طيران العصافير يصبح فرارا ورغبته الأولى بأن يطير معها فوق الأشجار تصبح هي الأخرى انطلاقة شبيهة بانطلاقة رصاص الحصى الملهبة عيني العملاق، فينطلق / يطير في بلاد الله ليقول لها شيئًا. لغة القص هنا هي لغة جوانية في عالم طفل تتكلم فيه كل اللغات باسثتناء لغة الكبار : لغة الفواكه، لغة العصافير ، لغة الأشجار... لكنها مسكونة في مفرداتها بالحدث - الصدمة ( موت الأب ) وبرجع صدى حدتها من خلال عصا العملاق / صاحب الحديقة ( قم يا ابن ال..) . تلك الصدمة التي تظل ثاوية وراء لغة العصافير "وفضفضة حكي الطفل ". ويمكن استجلاء تمظهراتها من معمارية القصة المبنينة على لا زمتي القص، ما كان كائن وما كان سيكون : الطبيعة تتكلم وتكلم الطفل فيما يراه فيها من جوانية عالمه // الطفل يتوجس ظهور صاحب الحديقة بكهربته لصمتها ولهيام رضعه من ثدي الصمت// التوجس ينفتح على استباقية الحدث - الصدمة ( العصا التي ستحاصره باللسعات الموجعة - قف ياولد - وتدفعه إلى استعمال القماشة لطرد العصافير التي ترتع في عناقيد العنب مع حشرجة صوته المتقطع - زر هوووووي - ) // يعود الطفل إلى بحبوحته تحث بحبوحة الشمس مع لملمة جسده وأنفاسه المتلاحقة كأن استباق الحدث كان مشهدية حقيقة // يغيب بعيدا عن عيني صاحب الحديقة وجحيم العصا ، هناك في نقطة تقاطع " بفضفضة الحكي " والحدث- الصدمة في زمنيته النفسية الأولى // كان سيحدثها وكانت تنظر اليه ( العصافير) ، كان سيقول وكانت ستستمع ، وكان سيحكي لها عن أبيه الذي لفوه في قماش أبيض، وكان سيحكي عن ذلك العش الذي ظل يتابعه أياما،وكان سيحكي عن صاحب الحديقة، كان سيحكي ويحكي، وكانت ستسمع لكنه سيفقس من بيض الدهشة ويلهب رصاص الحص عيني العملاق ثم ينطلق - يطير في بلاد الله خلفها ليقول لها شيئا.
وهاتان اللازمتان تتحركان وتحركان فاعلية دال الطيران ب " زر هووووي " :
- زر هووووي // صيحة الطفل لطرد وحث العصافير على الطيران .
- هووووي ..اي وربنا ..كانوا يقولون هكذا هووووي // غناء النساء على موت أبيه .
- هووووي // يقوله الطفل وهو يرمي رصاص الحصى في وجه العملاق .
- هووووي ..اي وربنا ..كانوا يقولون هكذا هووووي // غناء النساء على موت أبيه .
- هووووي // يقوله الطفل وهو يرمي رصاص الحصى في وجه العملاق .
نرى هنا أن فاعلية الدال تحرك مدلولات حسب سياقاتها: العصافير / الأب / العملاق . وتوحدها في دال الطيران : الطرد ( العصافير) / الموت الفيزيقي ( الأب ) / الموت النفسي ( العملاق) ثم التمرد ( الطفل ) . غير أن تمرد الطفل يفتح أكثر من دلالة هي من نصيب كل قراءة لها : انطلاقته في بلاد الله خلف عصافير كي يقول لها شيئا.
لغة القص التي اسثتمرها هنا القاص محمد عبد الحكم محايثة للحدث حيث تبدو مشحونة الصور وصور الصور إلى درجة أنها تتنفس الحدث في كل تمظهراتها. ونعطي عينة منها لتناول مغالطة أصبحت حقيقة يجتر منها مقاربات تجنبسية لكل كلام خارج أو منزاح عن معيارية اللغة ، ألا وهي " اللغة الشعرية " ، مع سوْال حول اللغة الشعرية بالمعنى المتداول للقاص محمد عبد الحكم :
ينفرد المنكمش مجففا دموعه والصراخ، ماسكا طرفة قماشة ممتئلة بالحصى والدمع " - يلتف منكمشا بالألم والصراخ " - كغمامة صغيرة تحبو على مشارف الضوء، يدنو ملتفا بالتوق إلى مس تلك الأجنحة " - " ترتفع عصاه في وجه النهار والطيور المارقة ، وطفل تلجمه الدهشة ، ينغلق فمه الصغير على عصافير كلمات تتطاير وتتزاحم محبوسة في قفص الصمت ". - يتقافز فوق سلم الريح يراه عصا ترتفع حد الغمام " - والقماشة في يد طفل العصافير تتحرك باتساع الدائرة وفضفضة الحكي وبحبوحة الشمس ".
لا مناص لنا هنا من التمييز بين شعرية اللغة ولغة الشعر. فاللغة لها شعريتها والشعر له لغته المختلقة عن شعرية اللغة . شعرية اللغة لها علاقة بالفكر والذهنية ولغة الشعر لها علاقة بالصنعة بمعناها القديم . والمغالطة تأتي من استعمال كلمة " شعرية " وكأنها جوهر الشعر التي على منوالها نحدد الشعري من اللاشعري . كيف تم هذا الانزلاق المغالطاتي ؟ إجمالا من مقارنات لا أس لها : الكلام العادي ومعيارية اللغة . يقول مثلا رومان ياكبسون " إن الشعر عنف منظم ضد الكلام العادي ". ويحدده جون كوهن من انزياحاته بالمقارنة مع معيارية اللغة . وعليه ، يصبح كل إنزياح شعرا، وكل اختراق لللغة المعيارية شعرا، في حين نجد أنهما لا يمثلان خاصيتين فقط للشعر ، إذ أن جميع الفنون الأدبية على مختلف مستوياتها تستعملهما بدرجات متفاوتة بما فيه الكلام العادي . كذلك هو شأن الصورة التي كلما خالفت مدلولاتها دوالها نعتت بالشعرية . مما يقودنا إلى استنتاج أن ليس كل إنزياح ولا كل اختراق لمعيارية اللغة ولا كل صورة مسافرة بدالها في مدلولات شتى ، ليس كل هذا شعرا . إنها خاصية من خاصيات شعرية اللغة في علاقتها بالفكر على اعتبار أن اللغة ذاتها أقل في امكاناتها من إمكانات الفكر الذي يتوسل شعريتها لمقاربة ما يختلجه . وهذا ما أصبحنا نراه كثيرا في القصة القصيرة على سبيل الطرح لا الحصر .
يستعمل القاص محمد عبد الحكم شعرية اللغة للتعبير عن أحاسيس وانفعالات وتخييل طفل يفقس من بيض دهشة . وهي لغة تنسجها آليتان تحكمان مواضيع الطفل الذهنية وعالمه النفسي : principe de contiguïté et principe de similitude .
آليتان تجعلان لغة العصافير ولغة الطبيعة ممكنا في عالم الطفل التخييلي .
انتهى
لغة القص التي اسثتمرها هنا القاص محمد عبد الحكم محايثة للحدث حيث تبدو مشحونة الصور وصور الصور إلى درجة أنها تتنفس الحدث في كل تمظهراتها. ونعطي عينة منها لتناول مغالطة أصبحت حقيقة يجتر منها مقاربات تجنبسية لكل كلام خارج أو منزاح عن معيارية اللغة ، ألا وهي " اللغة الشعرية " ، مع سوْال حول اللغة الشعرية بالمعنى المتداول للقاص محمد عبد الحكم :
ينفرد المنكمش مجففا دموعه والصراخ، ماسكا طرفة قماشة ممتئلة بالحصى والدمع " - يلتف منكمشا بالألم والصراخ " - كغمامة صغيرة تحبو على مشارف الضوء، يدنو ملتفا بالتوق إلى مس تلك الأجنحة " - " ترتفع عصاه في وجه النهار والطيور المارقة ، وطفل تلجمه الدهشة ، ينغلق فمه الصغير على عصافير كلمات تتطاير وتتزاحم محبوسة في قفص الصمت ". - يتقافز فوق سلم الريح يراه عصا ترتفع حد الغمام " - والقماشة في يد طفل العصافير تتحرك باتساع الدائرة وفضفضة الحكي وبحبوحة الشمس ".
لا مناص لنا هنا من التمييز بين شعرية اللغة ولغة الشعر. فاللغة لها شعريتها والشعر له لغته المختلقة عن شعرية اللغة . شعرية اللغة لها علاقة بالفكر والذهنية ولغة الشعر لها علاقة بالصنعة بمعناها القديم . والمغالطة تأتي من استعمال كلمة " شعرية " وكأنها جوهر الشعر التي على منوالها نحدد الشعري من اللاشعري . كيف تم هذا الانزلاق المغالطاتي ؟ إجمالا من مقارنات لا أس لها : الكلام العادي ومعيارية اللغة . يقول مثلا رومان ياكبسون " إن الشعر عنف منظم ضد الكلام العادي ". ويحدده جون كوهن من انزياحاته بالمقارنة مع معيارية اللغة . وعليه ، يصبح كل إنزياح شعرا، وكل اختراق لللغة المعيارية شعرا، في حين نجد أنهما لا يمثلان خاصيتين فقط للشعر ، إذ أن جميع الفنون الأدبية على مختلف مستوياتها تستعملهما بدرجات متفاوتة بما فيه الكلام العادي . كذلك هو شأن الصورة التي كلما خالفت مدلولاتها دوالها نعتت بالشعرية . مما يقودنا إلى استنتاج أن ليس كل إنزياح ولا كل اختراق لمعيارية اللغة ولا كل صورة مسافرة بدالها في مدلولات شتى ، ليس كل هذا شعرا . إنها خاصية من خاصيات شعرية اللغة في علاقتها بالفكر على اعتبار أن اللغة ذاتها أقل في امكاناتها من إمكانات الفكر الذي يتوسل شعريتها لمقاربة ما يختلجه . وهذا ما أصبحنا نراه كثيرا في القصة القصيرة على سبيل الطرح لا الحصر .
يستعمل القاص محمد عبد الحكم شعرية اللغة للتعبير عن أحاسيس وانفعالات وتخييل طفل يفقس من بيض دهشة . وهي لغة تنسجها آليتان تحكمان مواضيع الطفل الذهنية وعالمه النفسي : principe de contiguïté et principe de similitude .
آليتان تجعلان لغة العصافير ولغة الطبيعة ممكنا في عالم الطفل التخييلي .
انتهى
مصطفي بلعوام
نص القصة
![]() |
محمد عبد الحكم |
طفل يفقس من بيض الدهشة
القاص : محمد عبد الحكم
ويرتدي من ظلال النبق قبعة ، ويرمق الخلاء المخادع ، وعلى أطراف قدميه الصغيرتين يقف، يتطاول في الفضاء قدر الاستطاعة ويبص حد الشوف ، يمسح التواءات الطرق وتلاحم الأشجار وغوص أطراف الغيطان في بحر الفضاء، مترقبا صاحب الحديقة ..حيث سيطلع من هناك ، يلهب الصمت بنحنحاته الخشنة، يسوق حماره الملجم ويطوح عصاه ممزقا ستارة الضوء ، كل ما يخشاه أن يقترب فجأة ويلمحه متكاسلا يفترش نداوة الظل ، هائما يرضع من ثدي الصمت وبحبوحة الشمس ورقرقات النسيم ، تاركا العصافير ترتع في عناقيد العنب ، فتنطلق العصا صاعدة وهابطة وملاحقة طفلا يتخبط في خلاء يضيق ، تحاصره اللسعات الموجعة ، فينكمش ملتفا بالصراخ والالم :
- قف ياولد !
-
فينفرد المنكمش مجففا دموعه والصراخ ، ماسكا طرف قماشة ممتلئة بالحصى والدمع ، تطوحها ذراعه المرتعشة فتدور إلى أقصى سرعة ، ويمتد صوته الرفيع متحشرجا ومتقطعا وشارخا امتداد الزروع :
-
فينفرد المنكمش مجففا دموعه والصراخ ، ماسكا طرف قماشة ممتلئة بالحصى والدمع ، تطوحها ذراعه المرتعشة فتدور إلى أقصى سرعة ، ويمتد صوته الرفيع متحشرجا ومتقطعا وشارخا امتداد الزروع :
- زر هوووووى (1)
ويفلت طرف القماشة، يتطاير الحصى كالرصاص فوق شواشي الأشجار ، تهدر الظلال بعصافير تنطلق وتتخبط وتتساقط وتعافر وتطير وتتجمع هناك.. ظلالا تغيب في رحم الفضاء.
ولكنه الآن يلملم جسده وأنفاسه المتلاحقة، فما زال الخلاء على حاله ، يجلس صامتا يترقب في دهشة أسراب عصافير تأتي من كل اتجاه ، كانما تولد فجأة ، ظلالها الكثيفة تمرق فوق الأشجار ، تحط بين عناقيد العنب ، فيتامل عن قرب تلك الذيول الحمراء والمناقير المدببة ، ولفتات الرؤوس المضطربة ، والعناقيد حين تنسلخ كعجوز يخرج لتوه من النهر عاريا ، وحبات عنب تغوص في عتمة الحواصل ، يحبو على لدن التراب وندى الحشائش وفراشات تتقافز ورقة في القلب وأنفاس مكتومة وأقدام محاذرة ... هكذا ..كغمامة صغيرة تحبو على مفارش الضوء ، يدنو ملتفا بالتوق إلى مس تلك الأجنحة ، يود لو يطير معها فوق الأشجار ، يندس بين مناقيرها ويمص رحيقا كالشهد ، ويغيب بعيدا عن عيني صاحب الحديقة وجحيم العصا ، يعوم في الفضاء مشكلا أوضاعا مختلفة تدهش العيون ، كان يقترب من سرب العصافير ، هكذا لأول مرة ، كان سيحدثها ، وكانت تنظر إليه ، توقف رؤوسها لحظة وتلف مكانها متهيئة للانطلاق ، ولكنها لا تنطلق ، تثقب وتمص الرحيق وتبتلع ، فيقترب ويلمس، يتحسس، يمرر يده فوق الرؤوس والأجنحة . يحملق في دوائر العيون ، ارتعاشة الحواصل الممتلئة ، قفزات الارجل ، الاظافر الرقيقة ونمنمات الزغب ، كان سيقول وكانت ستستمع، كان سيحكي لها عن أبيه الذي لفوه في قماش ابيض ، وحملوه على أكتافهم ، وشقوا بصعوبة بين نسوة يعلوا صراخهن والتواءات دروب وعفار طريق غطى ملامحه، حتى أنهم وهم عائدون
لم يعرفوا أنه ابن الذي دفنوه ، فعاد يركل الحصى بقدمين حافيتين ، ويصعد فوق شجرة التوت متأملا عشا به بيض صغير ، وسحابة من عفار تختفي بين البيوت ، ونسوة يملأن عتبة الدار ويغنين بصوت ممطوط :
ولكنه الآن يلملم جسده وأنفاسه المتلاحقة، فما زال الخلاء على حاله ، يجلس صامتا يترقب في دهشة أسراب عصافير تأتي من كل اتجاه ، كانما تولد فجأة ، ظلالها الكثيفة تمرق فوق الأشجار ، تحط بين عناقيد العنب ، فيتامل عن قرب تلك الذيول الحمراء والمناقير المدببة ، ولفتات الرؤوس المضطربة ، والعناقيد حين تنسلخ كعجوز يخرج لتوه من النهر عاريا ، وحبات عنب تغوص في عتمة الحواصل ، يحبو على لدن التراب وندى الحشائش وفراشات تتقافز ورقة في القلب وأنفاس مكتومة وأقدام محاذرة ... هكذا ..كغمامة صغيرة تحبو على مفارش الضوء ، يدنو ملتفا بالتوق إلى مس تلك الأجنحة ، يود لو يطير معها فوق الأشجار ، يندس بين مناقيرها ويمص رحيقا كالشهد ، ويغيب بعيدا عن عيني صاحب الحديقة وجحيم العصا ، يعوم في الفضاء مشكلا أوضاعا مختلفة تدهش العيون ، كان يقترب من سرب العصافير ، هكذا لأول مرة ، كان سيحدثها ، وكانت تنظر إليه ، توقف رؤوسها لحظة وتلف مكانها متهيئة للانطلاق ، ولكنها لا تنطلق ، تثقب وتمص الرحيق وتبتلع ، فيقترب ويلمس، يتحسس، يمرر يده فوق الرؤوس والأجنحة . يحملق في دوائر العيون ، ارتعاشة الحواصل الممتلئة ، قفزات الارجل ، الاظافر الرقيقة ونمنمات الزغب ، كان سيقول وكانت ستستمع، كان سيحكي لها عن أبيه الذي لفوه في قماش ابيض ، وحملوه على أكتافهم ، وشقوا بصعوبة بين نسوة يعلوا صراخهن والتواءات دروب وعفار طريق غطى ملامحه، حتى أنهم وهم عائدون
لم يعرفوا أنه ابن الذي دفنوه ، فعاد يركل الحصى بقدمين حافيتين ، ويصعد فوق شجرة التوت متأملا عشا به بيض صغير ، وسحابة من عفار تختفي بين البيوت ، ونسوة يملأن عتبة الدار ويغنين بصوت ممطوط :
" هوووووى" ..إي وربنا ... كانوا يقولون هكذا.." هووووى".
كان صوته يرق ويتناغم كأنه صفير ، وكان سيحكي عن ذلك العش الذي ظل يتابعه أياما ، يصعد بين الفروع .، ينظر ويتشمم ويغطي ما انكشف من العش ، حتى صعد مرة ..كان العش مازال دافئا ، وحفرتان خاليتان من البيض ، تمتد عتمتها في فضاء الروح ، وظلال زروع تتماوج ، وقط يتقافز ويغيب هناك بعيدا ..
كان سيحكي عن صاحب الحديقة الذي يطرق بابهم ليلا ليؤكد على صحوه مبكرا ، وصرة غدائه الممتلئة بفتات البتاو والجبن ، يربطها في فرع الشجرة حتى لا تطولها الكلاب السارحة ، كان سيحكي ويحكي ، وكانت ستسمع ، حين استسجمع الحروف في فمه وهم لينطق ، انطلقت العصافير هائمة تتدافع وتتخبط وتتصادم وتسقط وتعافر وتنطلق، وظل مارد يغطي امتداد الحقول ، صاحب الحديقة واقف عند راْسه ، ترتفع عصاه في وجه النهار والطيور المارقة ، وطفل تلجمه الدهشة ، ينغلق فمه الصغير على عصافير كلمات تتطاير وتتزاحم محبوسة في قفص الصمت ، تبص من وراء زحاج عينيه، تتخبط بين فروع شرايين ودقات قلب ومقامات بوح تدغدغ الجلد الرقيق، فيتضخم الطفل ملء الأودية ، يقف على أطراف أصابعه ويتطاول ..
هو الجرم .. متشبتا بفروع وهمية وغيمات تتباعد ، يتقافز فوق سلم الريح ، يواجه عصا ترتفع حد الغمام ، وصاحب حديقة ينتبه فجاة لطفل يفقس من بيض الدهشة ، هكذا وكأنه يراه لأول مرة ، بل ويرى كائنا مختلفا تنبث فيه عشرات الأجنحة والمناقير والعيون المستديرة، يتأمل من عل عينيه وهما تلمعان بتحد غريب، تتسعان بحجم البتاو واستدارة الشمس ، تستحيل حرابا وأنيابا ومغاور ودلاء من زيت الخروع، إنهما تواجهانه، تلكما العينان اللتان كانتا غارقتين في بحار الدمع والعوز ، عصفور ومخلب وصغير بتضخم ، عناقيد تتعرى وخلاء يضيق ، وعصافير على شواشي الأشجار تتأمل ، وحمار يفتح عينين غبيتين على أشياء بلا ملامح ويعاود الجز في حشائش متماسكة .
ما الذي يجعل المدى بستدير هكذا منحنيا كقبة ، متأملا وغارقا في الدهشة ، أشجار تقترب وناس يتوافدون ، كأنما ولدوا فجأة من باطن الأرض ، دائرة تتسع وأفواه تشجع ، والعصا في يد صاحب الحديقة ترتفع حتى تلامس قطن الغمام ، تنزل بحجم الغضب والقسوة وضياع الهيبة وعافية الجسد الشارب من العز ، تشق الفضاء بصعوبة كأنما تتحرك في جوف بحر :
- قم يا ابن ال..
والقماشة في يد طفل العصافير تتحرك باتساع الدائرة وفضفضة الحكي وبحبوحة الشمش، صوته الرفيع يخرج من عمق الروح بامتداد الندب وليل السامر وحداء الركبان في الوديان البعيدة :
- هوووووي...
تلف يده مسرعة كانفلات الصيد وانطلاق العصافير وزوبعة العفريت ، يفلت إحدى طرفيها، يتطاير رصاص الحصى في وجه العملاق ، فيحاذر ويمنع ويدفع ويصرخ ، يستند على جدران الهواء ، وينخس بقدميه حمارا ما زال يأكل ، يضرب بعصاه العمياء الفراغ المبتهج ، رصاص الحصى يلهب عينيه فيتخبط على غير هدى ويسقط على ملاءة الظل .
وبين ضحكات تتنامى ومدى يصحو ، يبص بعينين منكسرتين صوب طيور تفر ، وولد ينطلق في بلاد الله خلف عصافير سيقول لها شيئا.
____________
(1) صيحة لطرد العصافير ( صعيد مصر ).
____________
(1) صيحة لطرد العصافير ( صعيد مصر ).
التسميات: دراسات