السبت، 29 أكتوبر 2016

حوري البحر.. قصة قصيرة جداً.. أسماء أحمد

قراءتان لنص قصير 

حوري البحر




قصة قصيرة جداً

أسماء أحمد 

 سوريا



حوري البحر
الرأس المقطوع الذي ﻫﺮﺏ ﻣﻊ ﺍﻟﻤﺪ ﺇﻟﻰ ﻗﺎﻉ ﺍﻟﺒﺤﺮ، ﺃﻏﻀﺐ ﺃﺑﺎ ﺳﻴﺎﻑ .
 
الزوجة وأبناؤها يريدون ﺍﻟﺮﺃﺱ .. يريدون أن يلقوا عليه ولو نظرة أخيرة وهو بيد الملثّم ..
 
ﺍﻟﺤﻮﺭﻳﺔ ﺍﻟﺴﺎﺣﺮﺓ خطفت الرأس .. أصابها مسّ الغرام من الشعر الأجعد ﻭالشارب ﺍﻷﺳﻮﺩ ﺍﻟﻜﺜﻴﻒ والبشرة القمحية .. قبّلته فنما ﻟﻪ ﺟﺴﺪ ﺳﻤﻜﺔ ..
الرأس صار يسبح ..
ﻣﻨﺘﺼﻒ ﻛﻞ ﻟﻴﻠﺔ، يجد ﺍﻻﺑﻦ ﺍﻷﻛﺒﺮ ﺳﻠﺔ ﺳﻤﻚ ﻃﺎﺯﺝ ﺃﻣﺎﻡ ﺍﻟﻌﺘﺒﺔ ﻭﺣﺬﺍﺀ ﻣﻦ ﺍﻟﻄﺤﺎﻟﺐ .
ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺤﻴﻦ ﻭﺍﻵﺧﺮ ﺗﺠﺪ ﺯﻭﺟﺘﻪ ﺍﻟﻤﻮﺷﺤﺔ ﺑﺎﻟﺴﻮﺍﺩ ﻣﺤﺎﺭﺓ ﻣﻠﻴﺌﺔ ﺑﺤﺒﺎﺕ ﺍﻟﻠﺆﻟﺆ ﺗﺤﺖ ﺍﻟﻮﺳﺎﺩﺓ .
أسماء أحمد.. سورية
Top of Form

قراءة الأستاذ/ سليمان جمعة


 تداخل العجائبي والواقعي ..
ابو سياف علامة لخصت الظلامية القاتلة ..
البحر المصير والمجهول ..علامة ذو وجهين ..خطر ومخلص ..
الحورية هنا العجائبية ..كازيس وعكس قبلة الاميرة النائمة ..اذ ان الامير الرأس الذي صار له جسد حوري " هنا اجادت الكاتبة في خلق مخيال اسطورة جديدة ...وعلم الطبيعة التي اذا قطع منها قسم ينمو ليصير متكاملا كا "البراميسي"
خيال ابدع حبكة القصة ..وروحيته الحب التي يصبح خلاقا ..معادل معاكس لا بي سياف ..سيف وقبلة ..البحر الذي هو لجة سوداا مظلمة تحولت لمصدر رزق للعائلة المفجوعة..
اذن..
علامات النص ..تقابل بين عالمين قتل وحب ..الحب في العجائبي والقتل هو واقعنا ..الاسطورة التي هي لامعقولة تصبح معقولة والدين ااذي ارسل رحمة اصبح لعنة ..
منظومتان من المعرفة ..الاهية فقدت دورها الرحموي ووثنية او اسطورية تمنحنا الامان والرزق ..وتجعل فضاا المجهول آمنا ...قبلة تعيد الحياة وسيف يبيدها ..
نص صرخة احتجاج ..
ولكن ..البناء .
التناص مع الاسطورة ..وعكسها لتخدم مقصدية المؤلف اذ ان الواقع انعكست فيه الامور ..من رحمة لنقمة ..وهناك اشارة وطنية عميقة ان الرأس بصفاته كان مصدر اعجاب اذ الهمه الحورية الحب ..اي وافق العجيب من الامور ..وجه يثير الحب ووجه ابي سباف يثير الرعب ..

التكثيف كان بنجاح المطابقة بين عالم الحب والرحمة وعالم القتل والمجهول ..ليقول لنا ان عالما مجهولا يولد منه رحمة وعالم الواقع / يخرج منه نقمة ..ما تقدم البحر للاطفال من رزق وما يقدم الحوري للزوجة من لؤلؤ ..ينتمي للبحر الى البر ..هبة ..كان البر يغزو البحر لاستجلابها ..
اي ان الامور تجري بعكس المنطق..
وهذا العمق الذي يبوح به النص ..
دمت ..اسماء احمد



قراءة الأستاذ/ علي الصباح


 يحمل النص العديد من الصور المخيالية التي وظفتها الكاتبة واحسنت إلتقاطها ببراعة وفنية لخصت لنا دراماتيكية المشهد الجيواجتماعي الذي تشهد اليوم الكثير من المجتمعات العربية مأساته بكل ما للكلمة من معنى، لذلك جاءت التصويرات دقيقة ومعبرة وبصورة مكثفة من خلال ايقونات اضحت من بنية المشهد لتعزيز وظائفيته في خلفية الوعي الجمعي وذلك لرسم صورة مخيالية في جانب منها لتعطي المشهد شيء من الهيولودية بغرض نقل التأثير الى اقصى غايات ما تستهدف خلقه في اللاشعور لتكون الصورة قادرة في التغلغل وخلط المشهد لتبدو الحقيقة في رمزيتها أقرب الى الخيال من الواقع، لذلك هناك قدرة في توظيف الاسطورة وتحويل جانب منها الى ادراما واقعية تحمل مضمون اسطوري يلتقي في تأثيراته في إذكاء بنية الوعي بخلفية ايديولوجية تأخذ رمزيتها وإستعارتها الثقافية لتتحول الى إيقونه لصياغة بنية نفسية يتم استنسالها من خلفية تلك الصورة في التراث الثقافي في مشهدية الحدث ليبدو الواقع مفرزة من مفرزاته، من هنا بدت صورة "ابو سياف" مفردة من مفردات تلك الايقونة التي اصبحت جزءا في بنيتنا ووعينا الديني والاجتماعي ، فأبو سياف رمز نائم في لا شعورنا الديني وفي مخيالنا الاجتماعي تم توظيفه بطريقة هيولودية وتحويله الى مشهد تراجيدي وشخصية اساسية في الوعي الثقافي النمطي، حيث نجح النص في اشارته لهذه الشخصية التي تبطن تسميتها الرمز الذي يجسد الرعب إذ تستحضر هذه الكنية الصورة في اقصى تعبيراتها السلبية، إذ هي تعبر عن إنعدام الامن والامان وتستشعر الذاكرة برائحة القتل في ابشع طرقه وأساليبه ، لذلك جاءت رمزية الرأس المقطوع في ثنائية توائمية للتسمية نفسها إذ هناك تلازم للصورة في خلفيتها وفي وتعبيرها عن هذا المعنى وعن إدراكه بشكل حاد وقاس.
وهنا تأتي براعة النص في مواجهة هذه الصورة اللاشعورية وتفكيك بنيتها المخيالية وتهشيم اطارها ومحاولة وضع الصورة بكل ما تمثله من ظلامية وعدمية ثقافية في بنية وعينا الاحتماعي ، وفي محاصرة ذكية لتلك الصورة ولتأثيرها الوجداني والاجتماعي لجأت الكاتبة للجمال وللاسطورة أي للتراث واستعماله بطريقة واعية وخلاقة لتستمد منه قوة الشخصية وترسيخها في الوجدان الاجتماعي لخلق الارادة لمقاومة ظلامية المشهد وتحديدا تلك الصورة التي تكرسها رمزية شخصية ابو سياف وتفكيك بنيتها الايديولوجية من خلال تكثيف تقنية الخطاب الاسطوري وأبراز قدرته في توظيف صورة الضحية ودمجها في المخيال الاجتماعي واطفاء روح البقاء للرأس المقطوع الذي اصبح بجسد حورية حيث لم يستطع القاتل انهاء وجوده لانه يمثل الحقيقة التي لا تقهر ولا تموت، وهذا ما لا يفهمه هذا النوع من التتار والاسلام الراديكالي التي تقودها عقول اختمر وعيها في الكهوف مع خفافيش الظلام لتحاكي تجربتها عصر الظلام والانحطاط الفكري بكل ما للكلمة من مدلول .....؟

هذه قراءة مختصرة وسريعة للنص في بعض موحياته والتي اجادت الاستاذة اسماء كتابته بطريقة مثيرة وخلاقة.
Bottom of Form


التسميات:

الخميس، 27 أكتوبر 2016

الارتقاء للأسفل, قصة قصيرة, المنجي بنخليفة

الارتقاء للأسفلِ
قصة قصيرة


 المنجي حسين بنخليفة 
 تونس 

المنجي حسين بنخليفة

حانة في آخر زقاق مظلم، اختبأتْ في البلاد العتيقة، فتحتْ أبوابها في زمن كان الدخول إليها منقصة، من يرتادها يسقط من سلّم مجتمعه، كان المتسرّب إليها يتنكّر، يبحث عن رفقة قبل الدخول، تراهم يستنكرون وجودها بين أزقّتهم في النهار، وفي الليل يترحّمون على والد من فتحها، كان الواحد منهم يلتفتُ كالسارق قبل فعلته، فإذا أمن العيون انساب في الزّقاق، خطاه تكاد تسبقه في الدخول. الخمرة في زمنهم كانت نشوة، ومسح أتعاب النهار، ومن في زاده معرفة، كانت مفتاح ما استغلق من أفكاره، وما تنافر من حروف كلماته، فتفتح أبواب الغرف الموصدة من فكره، فتلمّ شمل شتات الكلمات، من أدب، شعرا ونثرا.
اليوم خفتَ بريق الحانة، فالمدينة امتلأتْ بحانات اتسعتْ، وتجمّلتْ، وما عاد من يدخلها ينكرها في النهار، فقد تبرّجتْ وتعرتْ ببلّور يكشف من جلس، ومن ترشفتْ من كأسها فنسيتْ ستر أماكن من جسدها تستهوي المارين، لم تعد الخمرة كسابقتها، تنعش، وتريح، وتفكّر، فالناس ملّتْ من بقايا عقولهم فسكبوا عليها كؤوسا من النسيان، لعلّها تريحهم بغيابها، فينتشون بالغياب. إلاّ روّاد هذه الحانة المرمية من زمن مضى، فالخمرة عندهم لها فكر، وفلسفة، ودور خفيّ لا يعرفه إلاّ هم، وُلِدَ فكرهم من رحم سجن واحد، تجرّعوا عذاباته معا، تشابكتْ أكفهم لتكفيف دموعهم، الزاد يتقاسمونه وإن قلّ، إن أحدهم تهاوى له من روحه ركنٌ، تسارعوا لترميم ما تداعى.
يلتقون كلّ مساء، لا غريب بينهم، أول الجلسة، هدوء، وسكون، ووقار...لا صوت يرتفع، ولا قنان الخمرة تحدث بعد فراغها جلبة وصوت اصطكاك، لكن حينما تصل الخمرة لمواطن الأسرار، تفضح ما حرصوا على طمره خوفا، وخجلا.
الأستاذ حامد له بينهم تقدير وتبجيل، في السجن كانوا يستشيرونه فيما اختلفوا فيه، ويحكّمونه في شجارهم، إذا تكلم يفاجئك بأفكار ما اعتدت سماعها، غريبة، وطريفة، ولكن حين يشرحها تقنعك، وإذا فكرت فيها قلت كيف غابت عن فكري. تلاميذه رغم تلحفه بالغياب مازالوا يردّدون أفكاره، ويستشهدون بكلماته، حديثه طريف، إن طرح ما استغلق من الأفكار وشّاها بما داعب من الكلمات. 
صاحب الحانة ورث عن أبيه قلة الكلام، وعدم النظر في عيون مريدي حانته، يعتقد أن النظر في عيونهم يكشف سرّهم، وهم لولا الهروب من سرّهم وماضيهم ما حملتهم خطاهم إلى عتبات الحانة المستترة، ولكن حينما تدبّ ما حملت الكؤوس المسكوبة في أجوافهم، يسفر السرّ وماضيه عن أشياء كانت مركونة في ظلام النسيان، فكأنّ ما يحتسونه زيتُ قنديل يضيء لهم كهوفهم المظلمة، فتظهر لهم أشياء لو ذُكرت لهم في صحوهم ما عقلوها.
احمرّتْ عينا الأستاذ حامد، ارتعشتْ يداه عند اقتناص الكأس من فوق الطاولة، تراقصتْ الخمرة في الكأس، تطاير رذاذها، تنحنح، ارتخى قليلا، جسده بدأ بإعلان تمرده عن أعراف الهيبة والوقار، سحب كرسي خيزران، اتكأ عليه، حتى إذا أخذت ثورة الجسد مداها تجد الكرسي يلجم تمرّدها، يحدّ من تمدّدها، لكن من يلجم لسان الأستاذ حينما يبحر في محيطات نظرياته الغريبة، حين يرمي مرساته في موانئ فكرية متباينة، حينها الكلّ يصغي إليه، ويتركون فوضوية حديثهم، ليشنّفوا آذانهم بكلمات تخرج طرية ندية من أعماق روحه، وإن حملتْ في ظاهرها شطحات الغرابة فهم خير من يدرك جمال معانيها، فقد قال فيه أحدهم: ارعوا في أرض الأستاذ وهو مخمور، فإذا صحا أصبحت بور.
قال الأستاذ بصوت أجشّ، تزيده الخمرة والتدخين بحّة ليس منفّرة: يا سادة هذا المكان، يا رفاق الـ"لا" في سجن السلطان، يا صحابي في كؤوس أسوء أنواع الخمور، إنّني تيقّنتُ أنني لست إنسانا، أنا حيوان مثل كل حيوان.
قال له أحدهم: الواضح قد بالغتَ في الشرب هذه الليلة يا أستاذ.
قال: كنت سكرانا قبل الآن، والآن صحوتُ، كنت جاهلا فعلمتُ، كنت ساهٍ فانتبهتُ...
وأنا طفل صغير من شدّة حبي للفاكهة كانت عائلتي تسميني "فأر الفاكهة" 
والدي كان يزعجه كثرة لعبي بالكرة أنا وأولاد حيّنا في الشارع، وكلّما أصابت الكرة بلّور أحد المحالات اشتكوا لوالدي، يصرخ فيّ: تعال يا كلب، والله لأحرمنّك من هذه الكرة اللّعينة، فيمزقها قطعا، حتى اقتنعت أنّ فيّ شيئا من الكلب، فوالدي لا يخطئ.
معلمنا مسعود، ومن منا لا يعرف هذا المعلم، ومَن مِن الأولاد لم يتجرّع ألام عصاه التي اختارها بعناية من فرع زيتونة أطلت من فوق سور المدرسة لتذكّر معلمنا أن أغصانها تحت أمره، يقتطع منها متى شاء، فعصاه في ظاهرها التأديب، وفي باطنها الإهانة والعذاب، كان معلمنا طويلا، طول مع نحافة حدّ الميلان، شعره أشعث، وذقنه يتذكره بالحلاقة مرّة كلّ أسبوعين، ملابسه متّسخة تفوح منها رائحة سجائر عطنة، محفظته الجلد الكبيرة اصطبغت بلون أسود عند مقبضها، وأطراف أماكن غلقها، يرميها فوق الطاولة، بعد أن يخرج عصاه، يمسكها باليمنى ويصير يربِّتُ بها على كفه الأيسر، كانتْ لديه عداوة غريبة للكلمات الطيّبة، فكلماته تكاد لا تخرج من:
ـ أنتَ يا حمار اخرج للسبورة...
ـ لو كنتُ أفهّم في خنازير لكانت فهمتْ...
ـ أنتِ، مالكِ تختبئين وراء زميلتكِ كالدجاجة...
حتى صرنا لا نعتبر هذه الكلمات مسبّة لكثرة سماعها، صرنا نرددها فيما بيننا، ولا أحد منا يغضب.
كبرنا، وكبرتْ معنا مسبّتنا، في الصغر كان عذابنا من عصا معلمنا، والآن سجن، وقيد، ومنفردة، مخطئون حين ظننا أن "لا" تطهّرنا... وترفعنا... وترجع فينا شيئا فقدناه في الصغر، شيئا فقدناه في كلّ خطوة خطوناها في الكبر، قالوا هذه البلاد بلادكم، فاحموها من كلّ الأعداء، كلّ ما فيها لكم، سهولها، جبالها، خيرات أشجارها، والبحر، والسماء...عشقناها، وكلّ عاشق مهووس بمن عشق، فقلنا: "لا" لمن رأينا في عيونه غدرا، لمن سرق، ونهب، لمن سجن، وشرّد، وقتل بلا سبب، لمن ظن أن هذه البلاد قطعة أرض يورّثها، يقسمها، ويهديها كما يشاء...آه من حرف: "لا" أشقى حروف الهجاء، أقساها، وأصعبها...به عيون غسلتْ وجه شهيد، قال: "لا" قبل الوداع ثم فارق، به قيود كبّلتْ كفّ أديب، ورسّام، وشاعر...به اتهمونا من فرط عشقنا أننا خُنّا الوطن، وهم من فرط سطوتهم صلّاح البلاد. 
ماذا يبقى لنا من بعد "لا" إلا عالم وصفوه لنا منذ الصغر، فاِرْضَوْا به يا سادتي، اِرْضَوْا به، فهو خير من عالم فيه البشر عجزوا أن يحموا أرضهم، وذاتهم، و"لاءهم"...
دمعتْ عينا الأستاذ، ورفاق الكأس مسحوا على الخد باقي الدموع، تقاسموا ما في القنينة قبل الخروج، عبروا ضيق الزقاق إلى فسحة الشارع الكبير، أوقفتهم دورية شرطة حين رأتهم ليس لهم على أجسادهم سلطان.
قال لهم شرطي: أبشر أنتم أم حيوانات حتى تفعلوا في أنفسكم هكذا!
قالوا له بصوت واحد: حيوانات يا سيدي، حيوانات، نحن رضينا، فهل هذا يرضيك؟
2016-10-23

التسميات:

الأحد، 23 أكتوبر 2016

قراءتان لنص فوتوغرافيا .. عادل بكر .. مصر

قراءة في القصة القصيرة جداً



فوتوغرفيا

للأديب / عادل بكر

مصر

عادل بكر


الملاحظة الأهم في النص هي قدرتة - على قصره الملحوظ ( سبع وثلاثون كلمة ) - على نقل موضوع إنساني دون إنشاء أو تقرير. بل اعتمد على مجموعة من الجمل الفعلية القصيرة المتتابعة, تشكل كل منها صورة , تترابط فيما بينها بعلاقة سببية. فمنذ الفعل الأول الذي يصور انفلات الحجر. تبدأ مجموعة من الأفعال بالتتابع كأحجار الدومينو. وصولاً إلى الغاية " دوامات صغيرة أخذت تتسع شيئاً فشيئاً " .
العنوان " فوتوغرافيا" ربما يكون أقل براعة من النص, فهو يوحي بمشهد جامد, ويحمل دلالة تعبر عن التسجيل, بينما النص رؤيا, يطرح إرهاصة ويتضمن نبوءة. ولا علاقة للفوتوغرافيا في النص عدا وجود الكاميرا, ولكننا لاحظنا أن دور الكاميرا هامشياً وأقل فاعلية من باقي عناصر النص, حتى أنها لم تستكمل دورها, إذ تم تحييدها في مرحلة حاسمة من مراحل الصراع." وانفجربركان دمِِ إنتثر حتى غطي عين الكاميرا" .
والصراع يدور بين عناصر ثلاثة:
-
الثائر.. وسلاحه الحجر.
-
السلطة.. ويمثلها الشرطي المدجج بالسلاح.
-
الميديا .. وتمثلها عين الكاميرا الحاضرة في ساحة الصراع.
والنص على قصره الواضح نجح باستخدام الألفاظ الموحية, الحبلى بالدلالات في منح الصورة العمق الذى ينضج التجربة, ويسوقها في المسار المضمر.
فاستخدام وصف " الحجر الهارب " ينطوي على دلالات متعددة, كان يمكن للكاتب أن يقول " قذف الفتى الحجر " فهي عبارة ستؤدى نفس المعنى , لكنها ستفقد الصورة ثراء الدلالة. فالهروب في سياق الصورة المطروحة يحمل دلالات غاية في الثراء . فهو من ناحية يعبر عن الفرار, والتنصل, والتملص. وهو من ناحية أخرى انبثاق مفاجىء من حالة حصار. فالثائر ليس من الحماقة بحيث يخطط عامداً لمواجهة الرصاص بالحجر . ودلالات التملص, والحصار التى تكمن في معنى الهروب تطرح الصورة التى أدت إلى تلك المواجهة غير المتكافئة. فالثائر المحاصر يلجأ إلى الوسيلة المتاحة.
والرأس الصغير تعبير يحمل بدوره طائفة من الدلالات يمكن توظيفها لخدمة الفكرة العامة للقص. فهو يدل على ضألة الحجم كإحالة على القلة في مواجهة الكثرة. وحداثة السن , والسذاجة الأمر الذي يشى بطبيعة تلك الفئة الثائرة بأعمارهم الصغيرة, ورومانسيتهم التى دفعتهم إلى تصديق أوهام السلمية, وأخيراً يوحي الوصف بقلة شأن الموصوف في أعين الآخرين. مايطرح دلالة تشير إلى استهتار السلطة بشأن تلك الفئة من الثائرين الذين يحلمون بالتغيير.
"
غطي الدم عين الكاميرا " .. وهو مايمكن استقباله بالعديد من الدلالات طبقاً لتصور القارىء, وموقفه من الصراع, فالنص لا يمكن فصله أو تناوله بمعزل عن الأحداث التى شغلت الشارع المصري منذ عهد قريب. ولا شك أن من أكثر الأمور التى أحاطها الالتباس, وتناوشتها الشكوك, هو موقف الميديا من الصراع الذى انتهي لصالح السلطة, والنص لا يخوض في الاستنتاجات, ولا يطرح أفكاراً مسبقة, إنما يرصد ببساطة جوانب التجربة القصصية, فقد يمكن تفسير الجملة بأن الميديا تم تحييدها في مرحلة خاسمة من مراحل الصراع, أو أن الميديا لم تكن على مستوى المسؤولية التاريخية, إذ أغضت الطرف ماأن بدأ طوفان الدماء.
- "
سقط فى بركة الماء الراكد " .. والضمير طبقاً للسياق يعود إلى الحجر. فالحجر يقغ في بؤرة السرد منذ جملة الاستهلال. والماء الراكد يتناقض ظاهريا مع مظاهر الثورة, والحركة التى تسود النص, ولكن نسبته إلى الشارع يمكنها إلقاء الضوء على الدلالة, فالميادين تفور بالصراع, بينما الشارع بمعناه الأوسع يتمطى في دعة مراقباً الأحداث, بعيداً عن المشاركة.
والخاتمة التى يصنع فيها الحجر بسقوطه دوامات أو دوائر صغيرة تأخذ في الاتساع, تحمل نبوءة النص. فهو ليس مجرد حجر سقط في الماء, ولكنه إرهاصة , فكما أن الحجر الهارب كان بداية لسلسلة من الأحداث التى تربط بينها علاقة سببية, كذلك سقوط الحجر الذي ترافق مع انفجار بركان الدم من الرأس " الصغير " هو وسيلة الكاتب للإشارة إلى سلسلة من الأحداث تمور تحت السطح ترتبط فيما بينها بعلاقة سببية

محسن الطوخي



قراءة الأديب/ سليمان جمعة


لبنان


الصورة أكثر رسوخاً في البال ..
يسجلها الحرف فيعيد الشريط من الذاكرة ..كلنا نرى الصورة ..

الهارب/ الحجر..

سليمان جمعة

.
لماذا يهرب الحجر من يد الفتى ؟
أرأى فيه تردداً ؟ 
أم انه أفلت من القتل ليستمر من يد ليد ..؟..أم أنه أراد أن يضحي بنفسه لينقذ الفتى..هو كذلك ...ما يستدعي التساؤل هو الهروب من اليد ..والإفلات ..ذلك الشعور بالفداء حتى في الجماد ..وحين يتحرك الجماد ليكون ثائراً ضد الظلم ..أي أن الظلم بلغ أقصاه ...
لم يفلح الحجر لكنه حاول ..
أتكون إشارة لاستكانة العرب ..وهو يقول حتى الحجر تحرك وأنتم تحجرتم وفقدتم الشعور !؟
وينطلق الدم الصغير أي الجيل القادم ..دم استشراف ..الحجر في بركة الدم أحدث دوائر تتسع ..أي عاد وأفلح الحجر في إثارة ركوداً ما .الإثارة حصراً في بركة أطفال...أي القادم من أيام ..كأنما الحجر بذرة ..في حقل ..
هذه التحولات في طبيعة الاشياء ..تعطي معنى للوجود مغايراً لكل وعظ ..من فطرة الإنسان أن يتصدى للظلم ..فما بال الحجر عندنا إلا حنقاً من تقاعسنا ...
هذا الأمل .جاء بحرف بسيط ..أخذت تتسع شيئاً فشيئاً..".خميرة " الحجر في الركود ...
هنا نقرأ الرؤية بتناغم دقيق مع الكلمات ..أي يحقق التكثيف ذاته ..لفظاً ومعنى بل يتسع المعنى كدائرة تتوالد من دائرة ....
ولفتنا تركيب .أن الدم غطى عين الكاميرا ....اذا أولناه نفسده ..قد شَرِقَ الرسم بمعناه..
دم دم دم...كل شي صار دما..
وكذلك.مفردة واحدة ننتقيها نختارها تعطي مناخاً للنص ووظيفة لشخصية او بطل القصة وهو الحجر هنا ...الحجر الطبيعي تحول وليس رمزاً إنما جوهر الشيء يأخذني إلى مناخ الآية القرآنية ..اذ تصدع الجبل خشية وخشوعاً لمرأى نور القدرة الإلهية ..
إذ هي حقيقة وليست مجازاً ..."وجهة نظر"



النص


فوتوغرافيا

الحجر الهارب مسرعَاً من يد الفتى، لم يوقف رصاصة الشرطي، فسكنت الرأس الصغير 
وانفجربركان دمِ إنتثر حتى غطي عين الكاميرا، بينما سقط هو فى بركة الماء الراكد 
بالشارع فأحدث دوامات صغيرة 
أخذت تتسع شيئَاً فشيئَاً.

عادل بكر












التسميات:

دراسة نقدية لنص الوثن. دكتورة/ عبير يحي .. سوريا

التدويرالأدبي ورسم المشاهد عند الكاتب المصري:  محسن الطوخي
 في نصه (الوثن)
دكتورة/ عبير خالد يحيي
سوريا


د. عبير خالد

_1 المقدمة :
اعتبرها مغامرة كبيرة لا أنكر أنني ترددت بالإقدام عليها، أن أتجرأ على نقد نص لناقد بقامة الأستاذ الناقد الكبير محسن الطوخي، لكن إيماني بمقولة أن للمجتهد نصيب، إن أصاب فله أجران ، وإن أخطأ فله أجر، وأتمنى أن أظفر بالأجرين، أسأل الله التوفيق والسداد.
أنظر إلى النص فأرى الكاتب وقد قسمه إلى مشاهد، كل مشهد فيها بمكان وزمان مختلف، تلتقي النهاية بالبداية بتدوير لافت وكأنه يخبرنا أن الإنسان بهذه الدنيا جوّال، يدور مع الزمن دورة العقربين في ساعة، يلتقيان متراكبان، وقد غطى طويلهما القصير، وكأن القصير تآكل تعباً وإرهاقاً، فتباطأت حركته وكلّ متنه.
_2العنوان :
الوثن :
الصنم أو الوثن هو تمثال أو رمز لإنسان أو جني أو ملاك، يصنعه الإنسان ليعبده ويتخذه إلهاً، ويتقرب إليه بالتذلل والخضوع ما صنعه الإنسان وعبدهُ لأجل التقرب إلى الله.
وقد فرّق بعض المفسرين بين الصنم والوثن فقالوا: إن الوثن هو ما صنع من الحجارة، والصنم ما صنع من مواد أخرى كالخشب أو الذهب أو الفضة أو غيرها من الجواهر، وقال البعض : إن الصنم ما كان له صورة، أما الوثن فهو مالا صورة له.
العنوان، وبألف ولام التعريف هو رمز بحد ذاته، عمود زمري ، بدأ به الكاتب نصه لينبئنا عن ماهية النص وتجنيسه،
النص قص قصير رمزي برواية وخلفية واقعية، يعتمد الرمز كمحور تدور حوله الأحداث .
إلى ما يرمز الوثن ؟ سنرى ذلك بالسياق .
_3الموضوع :
فكرة النص رمزية، ترمز للشر متمثلاً بأعنف صوره، الحرب التي يحشد لها الشيطان المستولي على نواصي الإنسان
جعل الكاتب الرمز وحشاً بذيل حضر في الواقع والأحلام ليثبت أن الشر موجود في كل مفاصل الواقع، ويعمل بأشكال مختلفة
الحرب هي الشيطان متجسّداً، من دخلها دون أن يعدّ لها العدّة، ستلتهمه لا محال، وقد نبّه الراوي صديقه عبد الصمد لذلك لكن الأخير لم يبالِ ، حتى صار آخر القرابين .
النص قصة قصيرة ، اعتمد فيه الكاتب على مشاهد مكانية بأزمنة متتابعة، وكأننا أمام فيلم سينمائي وكاميرات ترصد الشخصيات وتحركاتها ضمن فضائها المكاني وزمانها المرتب بتسلسل زمن الأحداث .
إغناء:
دلالية المكانية في العمل السّردي
إن الحيز المكاني في النصّ السّردي هو الفضاء الذي تتحدّد داخله مختلف المشاهد، والصور والمناظر، والدلالات والرموز، التي تشكّل العمود الفقري له، إذ يُعـــدّ الخلفية المشهدية للشخصية القصصية، فهو مسرح الأحداث، والهواجس التي تصنعها الذاكرة التاريخية برموزها المتنوعة، مادامت صيرورة النص سوى جزء من صيرورة الواقع، وآليات المكان، ما هي إلاّ وسيلة من الوسائل الرئيسة لرصد الواقع على مستوى السرد، وما بعده أي على مستوى الموقف والرؤية .
1 )فالمكان من أهم العناصر الأساسية في بناء العمل السردي، وخاصة الروائي ، فهو الإطار الذي تنطلق منه الأحداث ، وتسير وفقه الشخصيات .
(2) فالمكان يسم الأشخاص ، والأحداث الروائية في العمق على حدّ قول /غالب هلسا/ ، فالمكان هو الذي يلد الأحداث قبل أن تلده، فيعطينا تصوّراً لها وللأشخاص وللزمان.
(3)..المكان والحركة تشكّل وحدة لا تنفصم وهذا ما يعطيها ديناميكية، فلا يصبح المكان مجرّد عنصر ثابت معزول عن عناصر النص السردي ؛ بل هو المؤثر، والمتأثر بها.
وهذا يقودنا للقول:
إن المكان هو القاعدة المادية الأولى، التي ينهض عليها السرد وعلاماته اللغوية منوطة بخــلْق بناء فضاء خيالي "حميمي" له مقوماته الخاصة، وأبعاده المميزة، التي تُعبر عن الهُــوية ، والكينونة ، والوجود.
وعلى هذه الحيثية الأساسية بنى الكاتب مفاصل نصه .
قلنا أن النص عبارة عن مشاهد بأمكنة وأزمنة مختلفة ، لكن متسلسلة ومتتابعة .
المشهد الأول: واقعي، الراوي جندي في الخدمة العسكرية في بلدته يودع أمه دون أن يخبرها عن وجهته الحقيقية، يدعي أنه ذاهب لملاقاة صديق .
المشهد الثاني : رمزي بكل ألفاظه، المكان ساحة حرب، كانت وجهة الراوي الحقيقية، ورواية أحد الرفاق عن معركة حامية الوطيس بعد هدنة خادعة حصدت مئة رجل من الطرفين مع تدمير أطنان من الأسلحة .
المشهد الثالث : عبد الصمد زميل سلاح وقد قتل في ساحة الحرب هذه .
المشهد الرابع :ساحة المعركة، حوار بين الراوي وَعَبد الصمد ووداع قبل أن يلاقي حتفه.
المشهد الخامس : الراوي في القطار في رحلة إلى بلدة عبد الصمد لتسليم الأشياء الخاصة بعبد الصمد لأهله وإخبارهم بموته .
المشهد السادس : تداعيات سيل الوعي ، واستذكار لحظات المعركة التي مات فيها عبد الصمد.
المشهد السابع : أيضاً جريان سيل الوعي ، الراوي مع الرقيب يتسلم الأشياء الخاصة بعبد الصمد.
المشهد الثامن : وصول الراوي إلى بيت أهل عبد الصمد ، وتصوير وقع الخبر عليهم.
المشهد التاسع :عودة الراوي إلى بلدته ، إلى مكان بداية القصة ، وتداعيات وجدانية تأثراً بأحداث القصة .
_4الهيكلية الإخبارية :
النص قصة قصيرة ، يتبع المدرسة الرمزية برواية واقعية، ينضوي تحت نظرية الفن للمجتمع ،
الزمكانية : متعددة حسب المشاهد، الزمان : زمن حرب وفترة وجيزة بعده المكان: بلد الراوي، ساحة المعركة ، القطار، بلد عبد الصمد ، بلد الراوي.
وبالعمق الرمزي النفس البشرية .
الصراع الدرامي ( الحبكة ):
بدأ الكاتب النص باسم حال (مساقاً إلى الجنوب ) تفيد بأنه مجبر على الرحيل إلى الجنوب، ولفظ (سوق) كمصدر لفظ معروف ضمن مصطلحات الخدمة العسكرية ، حيث يُساق الجنود إلى أماكن خدماتهم، والوجهة إلى الجنوب ، لا أدري لِمَ يأتي لفظ ( الجنوب ) بمعنى مكان الحرب والاضطراب! في معظم الروايات العالمية ، ويكون ( الشمال ) مكان الاستقرار والترف !
يودع أمه التي تتبرّم من قصر زيارته ، يشيخ بنظره عنها ويخبرها أنه سيلتقي بصديق، مشفقاً عليها، لم يخبرها عن وجهته الحقيقية، مواجهة مع موت محتمل.
أحد الرفاق وقد نجا، يحكي عن معركة سبقتها هدنة بسيطة خادعة ، حصدت مئة رجل من الطرفين وأطنان من الأسلحة الصلبة، كان الوثن صائماً قبلها ، لذلك كان يحتاج إلى وجبة إفطار معوّضة، والوثن يحب اللعب بالصلب أيضاً.
عندما غادر قطعته لزيارة أمه، كان لا يدري من سيبقى حيّاً منهم ، وهذا تعبير جلي عن قساوة الحرب التي يخوضونها ، أشار الكاتب إلى هذه الحرب برمز ( الوثن ) وضحايا الحرب هم (قرابين ) لذاك الوثن الذي لا يكاد يرتوي من دماء كل هذه القرابين،
وهو يغفو نهاراً ويستيقظ ليلاً، يستدعي أجزاءه من الخنادق والحفر، وينادي القرابين الذين يقبضون على أسلحتهم الصلبة الباردة، صورة بليغة تلك التي أتى بها الكاتب، جسّد الحرب بجسد وحش بعين حمراء وذنب شائك منفّر، ينام نهاراً ويصحو ليلاً ، ينتظر وجبته من القرابين التي تجمّدت الضحكات على وجوهها بطقوس باتت معروفة ،
عبد الصمد كان آخر القرابين .. رافقه الراوي في رحلته الأخيرة، كان الراوي هو الوحيد الذي نجا، لم يصدق أنه قد يرى أهله ، أبناءه، والده الضرير ، والأمكنة .
في لحظة الوداع ، حذّر عبد الصمد ، بنظرة طويلة إلى عينيه، ولسان ما فتئ يلهج بالتنبيهات،الحرب باقية، والوثن يقظ فاحذره، الشيطان يغوي ، صديق ينصح، لكن الشيطان تمكّن من عبد الصمد بصفة العناد.
قناعة عبد الصمد أن الوثن سيتحرك لينزع الشوكة التي سيغرسهاعبد الصمد في طرفه المرتاح، خطة عبد الصمد كانت أن يوجه المعركة باتجاه آخر تكون فيها نهايتها .
وتحذير الراوي : احذر عبد الصمد الوثن سيستدير إليك ويلتهم يدك التي تحاول فيها أن تغرس الشوكة، وسيطوحها مهتوكة، لن يكتفي بها بل سيلتهمك ، فهو لا يهتم باللقم الصغيرة !
رمزية عالية !
وقد كان ...
في القطار الذاهب إلى بلدة عبد الصمد، كان خياله يرافق الراوي، يتذكر كلامه عن الليالي القمرية في المعدية التي ستقل الراوي عند الغروب، يقبض يده على قلادة عبد الصمد، ينظر إلى أشجار الجازررينا، أربعون شجرة، لعبد الصمد مع كل واحدة منها حكاية وسر صغير.
يعود بنا الراوي بسيل الوعي إلى لحظات المعركة، يصل بنا الكاتب إلى
العقدة :
عبد الصمد لا يستمع إلى تنبيهات الراوي، لا يسمع إلا لصوت الشيطان أو الشر الذي في داخله يأمره بجهل بأن يطلق النار دون تدبّر أو حيطة أو حتى دراسة أو خطة مسبّقة، ينفرد عنه مصوّباً بندقيته ويطلق منها وابلاً من النيران، تضيع فيها كل صرخات الراوي هباءً، ليصله صوت عبد الصمد مع الموت ،
الانفراج :
"لم تحسن التدبير يا عبد الصمد ، لم تعد العدة، وقد فات أوان التدبير "
لم تفهم الدرس، واجهت بصدر عارٍ، ولم يغطِّك إلا صدراً عارياً، وهذا لا يجدي "
فلسفة حرب، عتاب بعد فوات الأوان ، مات عبد الصمد.
تناول الراوي من الرقيب عهدة عبد الصمد، عبارة عن قلادة معدنية تحمل رقمه، وصورة لصبي منكوش الشعر، هو ابن عبد الصمد، منكوش الشعر ينظر إلى المصوّر بدهشة طفولية.
يصل إلى بيت عبد الصمد، ويلقي الخبر عليهم، صرخة ملتاعة تخرق ذهول الأعين، وزوجة شابة تحثو التراب على رأسها، وأم تجذب شعرها دلالة الحزن الشديد، وولد بريء يلهو بالقلادة.
وحديث وجدان : " الطفل لم يعد يحبو يا عبد الصمد ، كبر ومشى، ليتني أستطيع أن أمضي عمري بقلب طفل يلهو، ناسياً أحزان الأم والأخت والجدة "
النهاية :
يعود الراوي إلى بلدته ، يذهب مباشرة إلى الحقل، يتمثّل عبد الصمد في كل ما يراه، يشم رائحة عرقه، يرى انعكاس صورته على ماء النهر، عند مدخل بيته، يرى واقي الرأس المموّه يعلو فوهة البندقية المستندة إلى الجدار، ويرى عبد الصمد نفسه مسترخياً مغمض العينين مبتسماً كحاله عندما يكتشف بعد مناهدة عنيدة أنه كان على خطأ، طبعاً كل ذلك إرهاصات نفسية وخيالات تراءت للراوي، ثم زالت فجأة ليحل محلها شك فظيع في كل ما يراه، حذر مبالغ فيه وخوف من شرك موهوم، وعقدة نفسية مفادها أن ذيل هذا الوثن (الشر) قد ينسلّ بخفة ليعاود الظهور في أي وقت، فهو باق في نفوس البشر بل حتى أنه يتسلل إلى أحلامهم، الكثيرون منهم ماتوا ضحيته، وهو باق لم يمت بعد .
_5الهيكلية الجمالية ( الأسلوب ):
السرد :
على لسان الراوي ، بأسلوب رمزي، تخلله سيل الوعي
stream of consciousness
والخطف خلفاً flashback
الحوار :
خارجي على لسان الراوي
ومنولوج داخلي عند الراوي أيضاً
الشخصيات :
الراوي، وَعبد الصمد.
قراءة تفكيكية للنص :
#الاختلاف Difference التأجيل :
ارتبطت كلمة Difference منذ البداية باستراتيجية التفكيك عامة وباسم "ديريدا" خاصة، وهو يؤدي إلى تأجيل الدلالة أو المعنى ويقوم بوظيفة تختلف قليلاً عن وظيفة الثنائيات المتضادة عند "سوسير "، وهي تحقيق الدلالة باللعب الحرّ ولا نهائية المعنى، لكن هذا لا يغيّر من طبيعة الاختلاف، التأجيل في محاولة تحقيق الدلالة ، أي أننا عندما نعجز عن الإتيان بشيء أو بفكرة فنحن نشير إليها بكلمة، ومن ثمّ نستخدم العلامات مؤقتاً ريثما نتمكن من الوصول إلى الشيء أو الفكرة، وعلى هذا فإن اللغة هي حضور مؤجل للأشياء أو المعاني، وهذا ما يشبه الفن التجريدي Abstract.يعني يتغير ....مجرداً من الثبات، كل واحد يعطي فيه رؤيا، التجريد من الشكل في الرسم وترك الألوان تتحدث.
الفن التجريدي Abstract art
يمكننا القول أن كل ما حولنا من صور ورسومات وتصاميم وفن بشكل عام هو فن تجريدي
فكما قال أحد فلاسفة أوائل القرن الـ20
الفن هو تجريد ما حولك في عقلك بعد إمعان التفكير والتأمل فيه لإنتاجه كما يرى خيالك
والفن التجريدي والذي يمكن أن نعرفه بمفهوم بسيط: و هو وضع أي شيء مع أي شيء لتكوين شيء يسر من ينظر له
قد يكون له فكرة أو قد يكون مجرد شكل جميل، أي ليس بالضرورة أن يحوي فكرة معينة.
وقد انتقل هذا المفهوم إلى الأدب، وتمحور النقد الذي يُوجِّه إلى التفكيك بصفة عامة حول لا نهائية المعنى أو الدلالة، فالقول بلانهائية المعنى ارتبط أيضاً بالقول إنه لا يوجد قراءة صحيحة وقراءة خاطئة، ولكن توجد قراءات لا نهائية، فالنص محكوم بخبرة القارئ، وتوجهاته الفكرية، وتدور هذه العملية في إطار ما يسمى (لا محدودية النص).
وعلى هذا الأساس تُعتَبر قراءتي هذه قراءة ضمن عدد لا نهائي من القراءات (لا يوجد نص نهائي ولا كاتب نهائي ولا ناقد نهائي).
#التمركز التفكيكي في النص :
تمركز النص حول محور واحد (الوثن) مجسداً الشيطان والشر في أبشع صوره (حرب )
١- حرب أججها الشيطان بين البشر ، حروب غبية لا انتصار فيها إلا للموت .
٢- حرب أشعلها الشيطان في النفس البشرية لكل إنسان (صراع الشر والخير، الضمير والهوى)
الشيطان ليس مخلوقاً مستقلاً ، وإنما يتغلغل بالإنسان عن طريق الغواية بنِسَب متفاوتة من إنسان إلى آخر، يختفي ويظهر حسب درجة تأثر الإنسان بغوايته، عند ضعاف النفوس نراه مهيمناً وسائداً بل وكاسراً، يستقويهم على افتعال الشرور والإفساد في الأرض، فهو لا سلطان له إلا عليهم، أما عند الأتقياء فهو منحسر خائب لا يجرؤ حتى على التسلل إلى أحلامهم، فهم قد حصّنوا أنفسهم ضد غوايته بما استحفظوه من أذكار وتعاليم إلهية ماشوها جنباً إلى جنب مع الاستقامة .
#التكميم التفكيكي:
ويعتبر التكميم، أحد عناصر تحليل المضمون الهامة، في تفكيك النصوص، ويقصد به تحويل المعاني من مفردات أو تعابير أخرى إلى أرقام، ومن ثم اكتشاف دلالة الرقم، ويتم هذا التكميم أو التحليل الرقمي بمنهجية، وفق خطوات معروفة، ولغايات محددة، وتتوخى درجة الموضوعية و الحيادية فيه، وتجنب الأحكام الذاتية في هذا التحليل، و وحدات التحليل الأساسية هي : الحرف ، والكلمة، و العبارة، والفقرة، والفكرة، والشخصية، والزمان، والمكان ...ومن ذلك يكتسب هذا المنهج العلمي التفكيكي منهجيته العلمية، بأنه يمكِّن الباحث من التعمق والاندماج في صلب الموضوع، و يساعده أيضاً على الوصول إلى إجابات مقنعة عن الأسئلة التي تثار حول النص، وذلك بفضل قدرة التفكيك على التفسير الذي يزيل الغموض، ويظهر الغايات المقصودة من النص بوضوح، وكذلك يساعد على إظهار المعاني الدفينة والمخبوءة في النص، وإجلاء مضامينه على نحو دقيق، ويفيد هذا المنهج العلمي، المجتمع والباحثين في الأدب والعلوم الأخرى بأنه يصف الظروف والممارسات في المجتمع، ويبرز الاتجاهات المختلفة، ويساعد على الكشف عن نقاط الضعف والقوة والتناقضات، ويساعد على تطوير الأداء، و إظهار الفروق في الممارسات، وتقويم العلاقات بين الأهداف المرسومة وما يتم تطبيقه على الكشف عن اتجاهات الناس وميولهم.
وقد استخدم الكاتب نوعين من المفردات :
1-المفردات والمعاني الثابتة: وهي المفردات التي أخذت بنوعي المفردات النحوية الأساسية الاثنتين (مفردات المحتوى content words ومفردات التركيب function word)
2- المفردات الدلالية المتكررة ، وتلك المفردات حركها الكاتب بشكل فني مدروس لإعطاء جمالية في النص ، فأعطى لكل مفردة وظيفة معينة ، وعمل على تكرارها بشكل واعٍ ، لتعطي دلالات تضيف عمقاً لمتن النص .
حاولت تطبيق التكميم التفكيكي على نص الوثن، أجريت حساباً رياضياً لجميع الكلمات المعبرة، بعد أن حوَّلتها إلى أرقام بدلالات تفكيكية سيميائياً، ركزت على الكلمات التي تكررت في النص لأعطي دلالات تصوّر حسي لإحساسات الكاتب، تحمل معانٍ ودلالات تبيّن إمكانية الكاتب في كتابة النصوص بشكل متمكن .
وقد بلغ عدد التكرارات الحسية (83)وحدة حسية
بدلالات سلبية تشاؤمية مقدارها (40) وحدة حسية
ودلالات إيجابية تفاؤلية مقدارها(43 )وحدة حسية
تفصيلها كما يلي :
الدلالات السلبية :
الفراق = 4
القدرية = 2
ضوء باهت = 2
عتمة = 7
حزن ولوعة = 5
العيون الذاهلة=2
البارد =4
الحرب :
-قرابين=3
- الصلب = 4
-بندقية =2
- دماء =3
- نار =2
المجموع =40
الدلالات الإيجابية :
موقف رافض للحوب والشر متمثلة ب:
الوثن : =9
بشاعة الوثن :
العين الحمراء =3
ذيل الحرافيش=2
الشوكة =2
تحذيرمن إتيان الشر :
احذر=4
البلدة =5
الزرع والحقل والأشجار = 8
الأهل=7
البيت =3
المجموع =43
فإذن هناك غلبة ولو كانت بسيطة للدلالات الإيجابية التفاؤلية، النص بحكم أنه يتكلم عن شرور الشيطان الذي يتغلغل عميقاً في نفوس البشر، ويتجسّد حروباً تأكل الأخضر واليابس ، فمن الطبيعي أن يغشى النص حزن ولوعة وتشاؤم وخوف، فما تسطره الحروب فظيع جداً ، وما تصنعه الشرور في نفوس الناس رهيب جداً ، نلمح بصيص نور في نصيحة يوجهها الكاتب إلى كل من تملكه الشيطان : احذر .. لا تتسرّع ، املك زمام أمرك لا تكن عبداً لصنم، حتى لا تأكلك النار التي ستأكله هو حتماً، وتمتع بخلق الله، حافظ على وطنك، بيتك أهل بيتك، ولدك وأرضك، أشجارك وخضرة حياتك، لا تجعل للشيطان سلطة عليك ، حصّن نفسك بذكر ربك الأعلى، وليكن حرصك حرز لك يهابك الشيطان فلا يجرؤ على التسلل ولا حتى إلى أحلامك .
الحرب شر مطلق لا رابح فيها، لا يعيش عليها إلا الشيطان وزبانيته، فمتى نقطع عيشه ؟ رسالة أطلقها الكاتب أيضاً بخوف، لأن الصورة ما تزال مهتزة، وما زال للشيطان وزبانيته تسيّد على رقاب عامة البشر .
تحياتي إلى الكاتب الرائع الأستاذ محسن الطوخي على أمل بأن أكون قد وُفّقت بإعطاء هذا النص حقه من النقد العادل بعد إخضاعه لعلوم التفكيك.
والحمد لله أولاً وآخراً .

النص الأصلي

الوثن
بقلم : محسن الطوخي
مساقاً كنت إلى الجنوب, كالأشياء القدرية كانت رحلتي, كالحياة والموت, نظًرتْ أمي في عينيَ وتمتمت: ترحل وما أتيت إلا لنهارين وليلة ، أشحت بعيني بعيداً: سألتقي بصديق. لم أقل لها شيئاً عن الأشياء القدرية . ...
عندما رأى أحد الرفاق عين الوثن الوحيدة, نصف مفتوحة, نصف مغمضة, عاد وحكى, حدد خط الطول, وحدد خط العرض, ولم يدر أن الوثن كان منذ الأمس صائماً, فسمح لعينه الوحيدة أن تطل - حمراء واهنة - من فرجة بين التلال, في تلك المرة عند انبلاج الفجر, أفطر الوثن بمائة رجل, نصفهم من ذوي الدماء الحمراء, ونصفهم من ذوي الدماء الزرقاء, وصحن وعجن أطناناً من الصلب القوي, فالوثن يهوى اللهو بالصلب القوي...
كنتُ قد فارقتُ الرجال, لا أعرف مَنْ منهم سيبقى حياً حتى أعود, والقرابين لم تزل تقدم كل ليلة, والوثن لا يكاد يرتوي, يصحو في عمق الليل, أما في النهار فيغفو, يميل برأسه خلف التلال, ويتوارى في بقع الظل, ينكمش ويوزع نفسه في الحفر, ويتمدد في الوديان وفى مجاري السيول, وعندما تميل الشمس للغروب, يفتح عينه الحمراء, يلملم نفسه من الحفر, وينهض بجوعه الأبدي, نراه على مدى البصر, هناك بعيداً عند الأفق, كأطياف سرابٍ خيالية, ونلمح الضوء الباهت المنعكس فوق ذنبه الشائك المنفّر, وهو يتسلل متمسحاً بميول التباب المعتمة , تلتقي أعيننا عند مغيب الشمس, وللقرابينَ طقوس نعرفها كلنا, قبضة اليد على الصلب البارد, الضحكة المبتورة, نظرة تتمسح بالمكان, ويبتلع الليل الخطوات الحذرة في رحلة للمجهول....
بالأمس فقط كان " عبد الصمد " القربان الأخير, دفء جسدهِ في القلادة المعدنية كان رفيقي وأنا أعبر الطريق الرملي المتلوي يطبق كفي على دفء المعدن البارد بينما تتزاحم في رأسي الأفكار, هل قدر لي حقاً أن أرى الأهل ؟, الولد, والأب الضرير, والطاحون, والحقول. قبل أن أطلق كفه قلت له:
- " كن على حذر ... ،معزوفة اللسان الطويلة ترَكَزَتْ في نظرة العين, فالوقت قد أزف. الوثن باق, يؤكد ذلك عزم العين المسددة, لا يدرك الجنوبي أن الوثن باق, سيميل, ينزع شوكة من الطرف المتلكىء، لو فعلت ذلك ياعبد الصمد, سيستدير الوثن, يلقم يمناك, ثم يطوحها مخضبة, مهتوكة الأنسجة, فهو لا يهتم باللقم الصغيرة , فكن على حذر .. كن على حذر....!"
صوت القطار الصاخب كان هو الصوت الوحيد الذى رافقني طوال رحلتي إلى الجنوب, أعرف أنى ذاهب للقائه في بلدته الجنوبية, أعرف أيضاً أنه ليس هناك. ودفءُ القلادة تسرب من يدي. حكى لي "عبد الصمد" في الليالي القمرية عن المعدية التي سأستخدمها عندما يصل القطار مع الغروب, حكى لي عن الأرض السمراء, وصفّ أشجار الجازورينا التي تحرس مدخل القرية, قال عنها :
-" أربعون شجرة, كل واحدة لي معها حكاية, كل واحدة بينها وبيني سر صغير. ..!"
صحت به:
- " لا تفعل ... كُنْ على حذر. ...!"
خرج الصوت كالفحيح, أما هو فلم يتوقف, صوب بندقيته وأطلق وابلاً من النيران بينما كنت أجاهد لأرفع صوتي, كانت الغريزة والمران الطويل أقوى أثراً فلم أقترب, ضاع الصوت المجروح, حملته الريح في الاتجاه الآخر, في اللحظة التالية كان علي أن أنغرس في الرمال الباردة .
-"إيه ياعبد الصمد .. كان يجب أن يسبق الفعل تدبير, وها نحن مكشوفو الصدور,
وأنت لم تكد تفيق من فورة الغضب حتى اكتشفت أن أوان التدبير قد فات,والأمتار القليلة التي تفصل بيننا, دونها الدم والحديد والنار. وأنا الذي وعيت الدرس, أين أذهب من نظراتك التى لا تفهم؟ ماذا يجدي الصدرَ العاري الصدرُ العاري ؟ "
منذ فارقَتْ كفُ الرقيبِ كتفي مودعاً, وبين أصابعي قلادة معدنية تحمل رقماً, وفى جيبي صورة الولد, مهوش الشعر, يحملق في عدسة المصور . سرت البرودة في أطرافي سيحملق فيَّ الولدُ بنفس العينين.
يأتي السعالُ من الداخل, والبيتُ يتصاعد فيه دُخْانُ الفرن, تحاصرني الأعينُ الذاهلة. وقع الخبر الجاثم فوق الأذهان يحلق كطيور البحر, الصرخةُ الملتاعة تذهب وتعود مضفورةٌ بحبال اليأس, والمرأةُ الشابة تحثو طين الأرض, والولدُ الغافلُ يلهو بقلادة.
جئتُ ياصديقي لكى ألقاكَ في هذه العيون الذاهلة, والولد لم يعد يحبو, غافلكَ وسار على قدمين. لو أقدرُ أن أمضي عمري بسريرةِ طفلٍ لاهٍ, أن أنسى أحزان الأم, والأخت, والجدة.
حين عدتُ إلى بلدتي ويممتُ شطرَ الحقلِ, شممتُ رائحةَ عرقهِ في الممرات الضيقة بين الزراعات, وحين أمسكتُ بفأسي, رأيتُ بصمات أصابعه, وحين ملتُ على ماءِ النهر, عكستْ المياه الخالية من الطمي صورته. على مدخل بيتي كان واقي الرأس المموه بالبقع الملونة يعلو فوهة البندقية المستندة إلى الجدار, بالقرب منها كان هو بجسده الضخم متمدداً في استرخاء, عاقداً ذراعيه فوق صدره, مغمض العينين يبتسم شأنه حين يكتشف بعد لجاج أنه على خطأ. حين ملتُ عليه بدهشة, لم يعد هناك, كان مدخل بيتي أيضا قد اختفى, والطريقُ المترب الذى خلفته ورائي غاب في الظلمة, وكل ماكنت أعتقد أنى أعرفه من معالم بلدتي الهادئة بتُّ أُدرِكُ أنه شركٌ يستوجب الحذر, وأنى في اللحظة التالية قد أرى الذيلَ ذا الحرافيش ينسحبُ بخفة, ينعكس على استدارة أجنابه ضوءُ القمرِ الشاحب.
د. عبير خالد يحيي
‏‫

التسميات:

الأحد، 16 أكتوبر 2016

وعد غير منجز.. قصة قصيرة.. عبير يحي .. سوريا

وعد غير منجز

عبير يحي

قصة قصيرة.
 عبير يحي
 سوريا



- " أختي أدركيني، تعالي بسرعة، أمك بحالة سيئة جداً "
هكذا انزلقت الكلمات من فم أختي الصغرى عبر جهاز الهاتف، لتسقط كالرصاص في أذني مترافقة مع صياح هستيري ، لم أصدق أنه صادر عن أمي !
في طريقي إليهم لم أميز هل أنا من يجري أم أن الطريق يجري بي ؟!
أمي التي بالكاد لا يتجاوز صوتها حدود سمع من يجاورها، وتتقن خنق آهاتها وأسر صرخاتها خلف جدران حنجرتها ، حيث حبالها الصوتية قضبان سجن !
أخبرنا الطبيب الذي يشرف على علاجها أن الألم الذي تشعر به وتتحمله بهذا القدر من الجَلَد كبيرّ جداً يعجز عن تحمّله أعتى الرجال ،
فما بالها اليوم تصرخ هذا الصراخ الهستيري؟
أصيبت بسرطان في المعدة قبل بضعة أشهر، استدعى استئصالاً لجزء كبير منها مع ملحقات مجاورة



، أن يعيش الإنسان بلا معدة يعني أن يحسب حساب قطرة الماء عندما تتجاوز جوف فمه العَطِش لتكون سوطاً يجلد الأمعاء إلى أن تنتهي في دورة استقلاب مبتورة في منتصفها !
وكان لزاماً أن يُتبع العملُ الجراحي بعلاج كيميائي ( جرعات).
وصلت البيت وأنا ألهث من صعود الدرج ركضاً مجملةً عدة درجات بصعود واحد، ذبحني صوتها وهي تصرخ كمن تبكي فقيداً، أشارت أختي إلى الحمّام، دخلت، كانت تنظر في المرآة والواضح أنها استحمّت، تمسك خصل شعر متساقط على المغسلة والأرض وتحاول وضعه على رأسها الذي فقد تاجه !
راعني المنظر !
التفتت إليّ وارتمت بين يدي تبكي بحرقة مزَّقت نياط قلبي،
سنّدتها حتى وصلنا إلى غرفتها، تمدّدت على السرير ، وبحركات متتابعة تمرر يديها على رأسها ثم تخفضهما إلى مستوى وجهها، تقربها من عينيها وتقول لي: "انظري !انظري شعري يتساقط، لم يبق منه شيء سأصبح قبيحة ، سيخاف مني أحفادي ".
حاولت تهدئتها وأنا أنادي على أختي كي تساعدني، لكنها اختفت وصلني صوتها مكتوماً : "نعم أنا هنا"
رحت أجري بسرعة إلى الحمام لأجدها وقد قصّت شعرها الأشقر الطويل ، وفي يدها آلة الحلاقة الكهربائية الخاصة بأبي تمررها على جلدة رأسها البيضاء حاصدة ما تبقى من شعرها بعد أن قصّت خصلاته الطويلة بالمقص ..
وعلى الأرض تمازج اللونان الأشقر والأشيب كسجادة حرير.
فغرت فاهي وقد فر الدم من وجهي، أشارت إلي أن هوني عليك: " الآن ستتقبل أمي الأمر أكثر ".
بعد خروجها من الحمام، بقيت دقائق خرجت بعدها وقد أضفت إلى السجادة الحريرية لوناً جديداً .. بنياً كستنائياً ...

بعد أشهر ثلاث .. كنت راقدة إلى جانبها، أصابع يدي تداعب زغب شعرها الذي نما أشيباً: " أمي دائماً كنت تعارضيني عندما أصبغ شعري، كما أنك ترفضين أن تصبغي شعرك أيضاً، رغم أن الشيب غزاه، لكن الشهر القادم سأصبغه لك، أعدك بذلك ".
المفاجاة أنها حركت رأسها بالموافقة، وأعقبت بصوت ضعيف:" أنت تصبغينه فقط لتغيّري لونه، إذ لا شيب في رأسك ، ولون شعرك الأساسي جميل جداً ، والصبغة تتعب الشعر وتتلفه، لذلك أعترض، أما شعري فأظن أنه أصبح يحتاج الصبغ "
زرتها في مرقدها منذ أيام .. طلبت منها أن تأتيني في المنام ، زارتني .. تاجها الفضي كان يلمع كاللّجين ناولتني أنبوب صبغة ، وأشارت إلي أن أنجزي وعدك .
د.عبير خالد يحيي

التسميات:

الجمعة، 7 أكتوبر 2016

ليتني ما أكلت اللحم .. كمال عطا

ليتني ما أكلتُ اللحم 

قصة قصيرة

كمال عطا
كمال غطا



مصر

كنت دون الخامسة بقليل حين سألتُ أمي وهي ترتق جلباباً لأبي : لماذا لانأكل اللحم ؟ ، فقالتْ دون أن ترفع ناظريها لي  : فلتسأل أباك. ذهبتُ إليه أسأله بينما هو يعتلي سلماً خشبياً عتيقاً، يرمم فتحة واسعة في سقف العِشة التي تأوينا  ، فقال ضاحكاً - وربما ساخراً - دون أن يلتفت لي  : غداً تكْبُر، وحينها سوف تعرف.
كنتُ أسمع عنها وأنا أنصتُ إلى أحاديث الكبار، وربما رأيتها وهي معلقة في سوق القرية، لكني - أبداً - لم أكن قد لمستُها أو تذوقتُها حتى هذه السن !. كل من حولنا لحسن حظنا كانوا في مثل حالنا، فلم نشم يوما رائحة لطبيخ غير ماتعودنا عليه.
ويبدو أن الله شاء لي أن أكبر بأسرع مما توقع أبي، كي أعرف. فبعدها بأسابيع قليلة أنجبتْ الزوجة الثانية الجديدة لشيخ القرية طفلاً ذكراً, توجتْ به صبره على خمس بنات من زوجته الأولى. أوفى الرجل بنذره وذبح خروفاً، كان نصيبنا منه طبقاً من الفتّة فوقه قطعة في حجم بيضة الحمامة من اللحم. وإن شئنا الدقة أكثر، فقد كانتْ كتلة من دهن الضأن تختبيء داخلها قطعة ضئيلة الحجم من اللحم الأحمر.
حين وضِع الطبق أمامنا فوق الطبلية، مدّت أمي يدها تقتطع نتفة صغيرة من اللحم كي تذوقها، إلا أن زمجرة أبي ونظرته الغاضبة جمدتها في مكانها، فما كان منها إلا أن تراجعتْ وسحبتْ يدها سريعاً، ليتركا لي قطعة اللحم وحدي .
يا الله .. لقد كان طعمها رائعاً وطيباً، أحلى من أي طعام ذقته من قبل.
ولكن، تأتي الرياح بما لاتشتهي السفن. انحشرت نسيرة من اللحم بين أسناني، فضايقتني كثيراً، وفشلتْ كل طرقنا التقليدية من خيط ونكاشة خشبية في استخراج تلك النسيرة اللعينة من بين أسناني. اصطحبني أبي إلى حلاق القرية الذي أخذ يحفر بين أسناني ولِثْتي بإبرة يعلوها الصدأ حتى تمكن أخيراً من استخراجها، واستخراج مايقرب من نصف دمي نزيفاً من اللثة.

 في وسط صراخي من الألم، ورعبي من الدم النازف، كان أبي يقول لي مؤنباً: هل عرفتَ الآن، لماذا ؟.
في اليوم التالي، صحوتُ على مغص شديد جعلني أتلوى من الألم، وإسهال أصابني بالجفاف، قال أبي أنه من جراء دهن الضأن الذي لم تتحمله أمعائي. كنتُ أصرخ، وكان أبي يبكتني: هل عرفتَ الآن، لماذا ؟.
بعد يومين تورم خدي ووجهي من جراء تلوث والتهاب اللثة، فنظر أبي إلى وجهي وقال: هل عرفتْ الآن ؟.
بعدها بأيام، عقرني كلب ضال من كلاب الشوارع- دوناً عن أترابي الذين كانوا معي - وحين عُدتُ باكياً، قال أبي: شم الكلب رائحة اللحم في عَرَقك، فهاجمك، فهل عرفتَ الآن، لماذا لانأكل اللحم ؟.
بعدها بأسابيع، ألقى طائر عابر - مصادفة - بفضلاته فوق رأسي، فضحك عليَّ الأولاد، فعدتُ باكياً، فقال أبي  ضاحكاً : هل عرفتَ الآن ؟، فصرختُ وأنا أزعق - بينما أمزق جلبابي المهترئ - : نعم، لقد عرفتُ .. نعم ، قد عرفتُ !!.

التسميات: