السبت، 31 أغسطس 2019

قاعة الدرس؛ قصة مهدية أماني- مدونة واحة القصة القصيرة



قراءتان في القصة القصيرة

قاعة الدرس

للأديبة المغربية / مهدية أماني.


قاعة الدرس؛ قصة مهدية أماني- مدونة واحة القصة القصيرة


نص القصة

ألف.. ميم ؟- نعم سيدي..-أنا الضابط ساطو..المكلف بأخذ أقوالك حول النازلة أسوة بزملائك في العمل ..أوَ تعرف ؟أحملق فيه وأنتظر أن أعرف...يكرر بلهجة تهديد ..

-أو تعرف ؟إن لم تقل الحقيقة سأطحنك طحن الملح وأدرسك دراس الفول..
التفتّ حولي.. لا شيء يوحي أننا في مكان للتعذيب..والقاعة مربعة فارغة لا يؤثثها سوى طاولة خشبية قديمة عليها خربشات أقلام ودوائر مخلفات أكواب القهوة والشاي ولعاب تطاير تحت بعض الصفعات، وكرسي أجلسوني عليه..والثاني قلبه الساطو واتكأ بكلتا ذراعيه عليه وعيناه لا تزوغان عن عيني،كمن يسبر غورهما ويبدو أن هدوئي لم يرقه ..يخرج علبة سجائر أمريكية شقراء، يعد اللفافات ..ينتقي واحدة ،يفركها بين أصابعه..يضرب بها على ظفر إبهامه ليعيد رص شعيرات الطابا..يقضم الفلتر بأسنان بدأت تسودّ ويبصقه تجاهي..صراحة أزعجني الأمر..لكني أعرف بحكم التجربة أن الاستفزاز من صميم عمل الشرطة..ورائحة التبغ التي كرهتها دوما رغبت في تنشق رائحتها فجأة ..عيناي تتابعان الدوائر التي يشكلها بفنية وأضم شفتي تلقائيا مع كل مجة يسحبها..يشعل أخرى ويمدها إلي ..لقد مر لتكتيك المقاربة وكسر الحواجز بدل التهديد بالتقديد..ابتسمت في قرارة نفسي وسحبت مجة من السيجارة..كدت أختنق..استعدت نفَسي بصعوبة..
-أنت لا تدخن هيه؟
-لا ..سيدي لكن يبدو أنني سأبدأ
- ما علينا ..هيا تكلم ..وبالتفصيل الممل والدقائق والحيثيات والجزئيات..أريد أن أعرف ماذا جرى بالضبط..
- حاضر سيدي .. لكن الأمر سيستغرق وقتا..إسأل..
- لدي كل الوقت .. ولا أطرح أسئلة هذه طريقني أدع المتهم يتكلم وأنا أستنتج..هيا..هات تاريخك...
يلقم المسجل شريطا ..
- سيدي أنا من أسرة فقيرة..أتيت إلى الدنيا بصعوبة وعشت بصعوبة وتعلمت بصعوبة..تخرجت وتبطلت عشر سنوات في انتظار أن تتذكرني القوى العاملة ..عملت في كل شيء وتعلمت كل شيء..حتى إني في مكان عملي ذاك الذي وقعت فيه النازلة كنت أصلح كل شيء خربان ..حبا في الإصلاح ليس إلا..لم أعرف أنني أسرق رغيف أحد حتى رأيت الكره والغضب في عيني القائم على التصليحات الذي يأتي على رأس كل شهر..علاقتي بزملائي؟؟ طيبة وجيدة ..يحتقروني بعض الشيء بسبب ضعفي ..لا، ليس ضعفا سيدي ..لكنه احترام لمقولة أبي ..إياك والماء والنار والمخزن ..وهم المخزن ..كل من يعمل في مرافق هذه الوزارة مخزن..أنا رجل بسيط ..بسيط لكن صادق وأمين..لذا لن تظهر علي آثار النعمة مهما عملت..متزوج نعم ..لم نرزق بذرية..زوجتي تعمل في دار يتامى ..نفكر أن نتكفل بيتيم..يقال إنه حين يسكن حنين الأمومة قد يرزقنا الله من صلبنا..ونحظى بالحسنين..
ينظر إلي الضابط..ويهز يديه المبسوطتين إلى أعلى..يريد أن أقوم..أقوم..؟..لا لا لم تفهم قصدي..إجلس..هات المفيد..
أحببت هذا الضابط ..لديه ملكة إنصات .. الحكي فعلا ممل ويُطالب بالتصعيد..
سأكمل سيدي .. الأمور كانت تسير كما قدر لها ..حتى ..
وعند حتى ..أعاد الكرسي إلى وضعه الطبيعي..جلس شابكا يديه تحت ذقنه وأقبل علي بجذعه.
-حتى ؟
- نعم سيدي حتى سقطت ...
-أههها ..لقد سقطت إذن؟ سرقت وخنت وحين انكشف أمرك اعتديت على رئسيك؟
- لا..لا سيدي أنت مخطئ..حتى سقطت على الدرج.. الدرج ؟أجل سيدي الدرج..كنت خارجا من مكتب رئيسي أطير فرحا..لقد ُرسّمت في عملي وستضاف زوجتي إلى بطاقة تغطية الضمان الاجتماعي والصحي..مددته بأربع صور شمسية لها وشهادة ولادة ونسخة عقد زواجنا ..و حلقت فوق الدرج..سقطت وكسرت ذراعي ، وليتها لم تكسر إلى حين تفعيلها فأحصل على تعويض حادث شغل..لكنها الظروف..الظروف تعاكسني..لازمت البيت بعد ذلك ...ثم..حدث شيء لم أكن يوما أنتطره..
- أههها..حدث شيء إذن ؟
- نعم سيدي..حدث..حدثُُ عظيم..تصور.. الرئيس المتعجرف القاسي منعدم الإحساس..الذي لا يعبأ بأحد وإن مات..زارني في بيتي المتواضع.. أنا المستخدم المتواضع ليطمئن علي وكان بشوشا وطيبا ولطيفا ،وطلب الشاي من صنع يد زوجتي وأعطاها مظروفا..ولما همّ بالخروج عاد وأضاف شيئا في المظروف..أضاف شيئا ؟ نعم شيئا ليس بالقليل..دفعنا شهري إيجار متأخر وفواتير الكهرباء والماء وبعثت لأهلي بعض المال..وأطعمتني زوجتي طعاما طيبا عجّل بشفائي، فعدت للعمل قبل أن تنتهي رخصة مرضي.
- لم الاستعجال أتحب عملك لهذا الحد ؟
- أبدا إنه عمل لا يليق بي ..لم يخلق لي ولا أنا له خلقت .
يسكتني كي يبدل الشريط وقد بدت الريبة في عينيه وتَحفز..
- والله ؟ لم يخلق لك ولا أنت له ؟..أنت شخص خطييييير..
تصفعني كلمة خطير تلك وقد وُثّقت..
لا أبد ..والله سيدي أنا رجل مسالم..حتى لما كنا نتظاهر ليجدوا لنا فرص عمل كنت مجبرا..كي لا يقال عني جبان..لست جبانا..لكني أشفق على العجوزين..أن يتلقياني في صندوق أو لا أعود إليهما وأتعفن في زنزانة المنسيين..فأنا المعيل الوحيد لأسرتي..أبي جندي متقاعد..ثقبه الألمان حتى أضحى كالغربال وأمي ترعى إخوتي..وخطيبتي من أيام الجامعة تستعجلني في الارتباط..لقد صبرت علي كثيرا..العمل ذاك لا يليق بي لأني ببساطة مؤلمة حاصل على ماستر في الفيزياء والكيمياء.
- ياها.. عالم إذن ..وتقول عنك رجل بسيط..؟
- كنت سأكون سيدي ..لكنها الظروف دائما الظروف..أبقتني بسيطا واضطرتني لقبول تلك الوظيفة في تلك الوزارة التي أشبعتني هراوة وشتما وسحلا..صحيح أنني أكرهها..تشعرني بالدونية .. لكني أتفاني في عملي..ليبارك الله رزقي..
لكن ..من يدعك في سلام! وضربت كفا بكف، وكأني رقعته قلما ،فثار غاضبا.
- يا أخ ..يا عم..كم شريطا سيلزمني معك؟ أوجز ..أوجز
- سيدي..حضرتك قلت بدقائق الأمور والحيثيات والجزئيات..ولأني كاتب وشاعر أعرف حتما كم هي مهمة جدا..
- عالم فيزياء وكاتب وشاعرأيضا؟ الله لا يسامحك يا مفوض صلاح ولا أصلح لك أمرا، ورطتني في مصيبة لا قضية ضرب وجرح قد يفضيان للموت.
يغلق المسجل ..يضع رأسه على مرفقيه كمن أُرهق ويريد أن ينام..بقيت انتظر حتى استأنف التسجيل..
..وعندما عدت إلى العمل سيدي تغيرت أمور كثيرة، صار الكل يحابيني ومكتبي يحاذي مكتب الرئيس،وأصبحت سكرتيره الخاص وكاتم أسراره والشاهد المرغم على فعائله مع ...مع من ؟ معهن..لن أفضح محصنات..أعرف أنهن مغصوبات ..وحتى لو طحنتني كالملح لن أبوح بشيء.
ثم ...
- ثم ثاني ؟..ثم ..يا كُتيتب ..يا شويعر..يا عُويلم فزياء وخيمياء؟
- ثم ماذا ؟ماذا؟ يارب تميد بك الأرض وتبتلعك..
ورفع كفا كعتلة في وجهي وعيناه احمرتا..وتختر بعض الزبد الأبيض على طرفي فمه..ويصرخ..
- حميد..ماء مثلج بسرعة وعلبة سجائر تبغ أسود كسواد اليوم الذي اخترت فيه هذه المهنة..تفووو..
يعب قارورة الماء دون أن يتنفس ،يشعل لفافة وبصوت يحاول أن يروّضه..
- ثم ماذا سي دريس؟
- ثم ..يوما، دعاني رئيسي إلى حفلة يقيمها بمناسبة فوز حزبه في الانتخابات ،وعلى البطاقة الأنيقة ..كتب.
Accompagné..
مرافَق يعني ..
- فهمت فهمت أكمل..
فرحت كثيرا ..زوجتي المسكينة الصبورة ستحظي بليلة باهرة،ووجبة فاخرة ،وفضاء براح..لم تكن يوما تحلم بهم ..ولا أنا صراحة..
-إيوا؟
-إيوا ..هي رفضت..قالت خلينا في حالنا..ذلكمُ الرهط من البشر..ليسوا من ثوبنا ولا مستوانا..وخير لنا الابتعاد عنهم.
إيوا...؟
- إيوا ذهبت وحدي..صففت شعري وتأنقت وتهندمت وذهبت..
- يا لك من عفريت ..وقضيت ليلة حافلة ياك ؟
- لا سيدي ..فبمجرد ما رآني فردا ،اكفهر وجهه وغضب وطردني شر طردة وأهانني أمام كل الحاضرين..بالحرف قال:
- يا صرصور ..إذهب حالا وأأتِ بصرصورتك وإلا..
- وعدت ؟
- لا لا ..أبدا..فما رأيته في لحظة من عُري وعُهر وسُكر..يكفي..لقد قصدت المكان الغلط وزوجتي كانت محقة.
وإلا ماذا..؟؟
-وإلا ..فهمت معناها حين اعترضني المكلف بشؤون الموظفين وبيده قرار نقلي إلى حَاحة..
- حَاحة ؟؟
- نعم سيدي.. حاحة في قلب صحراء سوس..يعني من شمال الوطن إلى جنوبه..تطويحة مكوكية..بجرة قلم على زلة قدم .
يطرق أحد الضباط الباب، يهمس له بشيء في أذنه ويخرجان لبرهة..أمد يدي بخفة وأوقف التسجيل.
يعود ويستأنف الحديث متسائلا ..إيوا ؟
-إيوا.. لم أتمالك نفسي وعزت علي كرامتي ورجولتي..واسترجعت في ذهني كل المؤشرات والحيثيات والجزئيات..صور زوجتي..الزيارة الميمونة والمظروف السمين..على " بوينت" كنت سأصبح ديوثا..تلوكني الألسن وتقرع على سيرتي كؤوس الشاي والقهوة وأشياء أخرى...فبقيت أترصده حتى حضر متأخرا كعادته، وترجل من سيارته متجها نحو المصعد الخاص، تبعته عن قرب..وكدت أفقد أصابعي وأنا أمسك بالباب قبل أن يغلق..ثم أنزلته إلى المرآب، وعملت بلوك للمصعد..وهناااك..لُكته كما تًلاك العلكة..وعركته عرك الثوب الوسخ..والنتيجة رأيتموها وليس هناك شهود !!
-الاعتراف سيد الأدلة وهذا ..وأشار للأشرطة، بفخر من أتم مهمته على أكمل وجه، كفيل بزجك في السجن لمدة طويلة..سيتوفر لديك وقت كثير..لتقرض الشعر وتؤلف الروايات والقصص والحكايات.
- سيدي ..
- لقد انتهينا.. أصمت
- سيدي.. القفلة ..أعني ..الجزء الأخير من التحقيق لم يسجل .
انتابه ذعر أزرق بلون الكهرباء أوْن سقوط صاعق رعد..احتفظت ببريقه في ذاكرتي، فقد أحتاجه للتشبيه يوما ما..
- - كيف حدث هذا ؟ومنذ متى ؟
- مذْ دخل الضابط وهامسك.
ومنذ..بجرة قلم على زلة قدم .

القراءة الأولي 
الأديب الشاعر: سليمان جمعة / لبنان
القاعة...من القاع أي أسفل المكان العميق..قاع الوادي.والبحر، وقاع النفس، فالقاعة.. في مكان الهوة..والدرس ليس للتعليم إنما لفصل الحب عن التبن..بعد تذريته..
فهناك يكون الأمر..استخلاص المعلومة من قاع النفس بالدرس..فالنورج هنا هو المحقق..فمن درس الآخر
المتهم أم المحقق؟
يبدأ الحوار..
بتجهيل المتهم بالأحرف الأولى من اسمه..ادخله قاع اللاتعريف...
ومن اسمه الواضح..ساطو...تأخذنا إلى السوط والسائط به...
.اذن حركة المقدمة..الاستهلالية تشرب من العنوان...
فيسوطه بالتهديد...
لننتقل إلى مستوى آخر
المحقق يريد التفاصيل والحيثيات..
المتهم ينقل إلينا تفاصيل المكان....وحركات المحقق.ويوهمه بالخوف إذ يدخن وهو لا يدخن أي يراوغه..أي خضع..ولكنه يدقق فيما هو حوله..
فيفصل له.حياته..
من صعوبات العيش..وغير ذلك من أنه نال درجة عالية من التعلم.في الفيزياء والكيمياء...ويكتب الشعر..
مما يحيل أنه يجيد تفسير الحركات ويجيد دمج وخلط الأشياء.ويستطيع أن يعبر عن ذاته...الآخر يستمع لذلك...فهو له حكمة امه..أن يبتعد عن النار والماء والمخزن..وتلك ثقافة شعبية.فالسيل يجرف، والحريق يتلف، والرجال يقتلون...
لننتقل إلى مسرح العمل..والنازلة..
عمل بغير العمل الذي يناسبه..الناس يكرهونه....المسؤول..
يمنحه ترقية..يفرح يقع..يكسر يده..يزوره في البيت..ليرى شخصيا زوجته بعد أن أعجب بها رسما..يقدم المال..يدعو الحفل، ترفض..يستشيط غضبا..ينقل إلى مكان بعيد...يقتله...تلك حركات تتالى بسرعة..تقابل تفاصيله للمكان..ولعلمه في الفيزياء والكيمياء..والشعر..يحلل يعرف النتيجة يبني رؤية..
أي هو في موقعه الصحيح هنا..عرف إرب..مديره..وهي عرفت..
هو أراد أن تذهب معه إلى الحفل..هي لم تقبل....وعند الغضب..عرف هو..المعادلة..والنتيجة..
إذن..
لننتقل إلى القاعة..
مكان التحقيق. والتسجيل...عند اعترافه بالقتل توقف التسجيل. منتهزا دخول ضابط آخر...
وهكذا نرى حركات تحدث على مستويات مختلفة..كلوحة مؤلفة من عدة مشاهد لقصة واحدة
لولا...حادثتين لكاننت الأحداث توقفت عن التطور....حادثة السقوط..والكسر.وحادثة دخول الضابط...في الحالتين تتخذ القصة مسرى مختلف..انتقل المدير من المخطط للتنفيذ..زيارة ودعوة..
وفي الثانية..توقف عن المراوغة واعترف..لأن المسجل أصبح بلا فاعلية..وسيسقط بيد المحقق.وما هدد به...وما حسبه شطارة فرويدية..سريرية لمريض نفسي بطريقة التداعي..بفعل الضغط النفسي أو الخوف..فيفرغ المخزون..
فباء بالفشل..
البناء اذن مستوحي من التحقيق البوليسي والمرضي معا.. والثاني بالمرصاد بالتحليل والرؤية والشعور..
صراع ثقافات وحقول مختلفة..
الدافع هو أخلاقي..نبيل وسافل
...نبالة القاتل وسفالة القتيل...هل نبرر له القتل..خوفا على شرفه..وأن يصبح ديوثا..
تلوكه الالسن..والقتيل هل يدفع بلا مقابل.؟
له حق بظنه أن يستوفي... والآخر له الحق بظنه أن يقتل...
فساد الأول..من مركز عال..ونبالة الآخر من مركز ضعف..
المحقق مع فساد القوي لأنه القتيل...وضد الضعف لأنه القاتل.. ذلك هو القانون...
كيف نحل الاشكالية الأخلاقية..
كيف نحل الاشكالية الوظيفية..
كيف نحل غياب الدولة..والشارع...والمجتمع..
هل يقدم النص بحركته حلا..أو يقترح حياة للمعنى.. ؟
الاقتراح..بالنقل إلى مكان ناء... أي الابتعاد عن المشكلة أو الانتقام بالنفي..هل هي مجدية ؟
وكذلك اقترح من بعيد أن المحقق الحقيقي هو شخصية القاتل الذي ساقته الظروف لأن يقتل..هو من كان يجب أن يكون مديرا.. لعلمه ومكانته الاخلاقية المسلحة بحكمة أمه أي التجربة..
هل يحمل النص قيم تغييرية؟
في البناء السردي وفي محاورة الواقع....
ان اختيار المسؤول الخطأ يعرض الاخلاق العامة للفتك بها...وانتهاك الآداب الاجتماعية..
البناء..كان بإبدال دور الشخصيات..القاتل هو القتيل الفعلي بفعل إ


همال طاقاته..

قصة بين مرتفعين

القراءة الثانية
محسن الطوخي / مصر

أدريس مطحون هو مواطن عربي بامتياز، شاعر، وحاصل على إجازة علمية في الكيمياء والفيزياء، وبعد سنوات عشر من العمل في وظيفة دنيا لا تليق به، كان في حاجة إلى منحة مالية تسوقها له الأقدار ليدفع إيجار شهرين متأخرين، ويسدد فواتير الكهرباء، وليرسل بعض المال إلى أهله، ولكي تطعمة زوجته وجبة مميزة.
والفكرة التي يدور حولها النص هي أن ادريس في لحظة ما كان يقف في مفترق طريقين، وكان عليه أن يختار بين أن يواجه الإهانة والاضطهاد، وبين أن يتشبث بطاقة الأمل التي فتحت له فجأة، فيواصل صعوده الوظيفي بعد أن صار سكرتير الرئيس وكاتم اسراره. لكن لأن ادريس بالاصطلاح الاجتماعي الشائع ( وش فقر ) ، فقد ركل الفرصة المتاحة، واختار أن يلقن الرئيس الخنزير درسا، فلاكه كما تلاك العلكة، وعركه عرك الثوب.
فهل تقول القصة أن كل من فازوا بالارتقاء الوظيفي هم ديوثين؟، لم تهمل مهدية هذه القضية، فدست بمهارة خلال السرد مايلقي الضوء على شخصية ادريس، فهو رغم ملكاته المتعددة شخصية تفتقر الى مهارات المواجهة والمغامرة، فهو يحفظ عن أبيه مقولته " إياك والماء والنار، والمخزن "، وهو يخلط فيما بين الضعف، والطيبة، وغير مدرك للحدود والواجبات التي تحكم مصالح العاملين في دولاب عمل واحد، فيتعدى على مصالح القائم على التصليحات متجاوزا حدود وظيفته كعامل مصعد. هو ببساطة يفتقر الى التوازن النفسي بدلالة اعتبار علاقته بزملائه جيدة رغم إقراره بأنهم يحتقرونه " بعض الشىء ".
ومعالم شخصية ادريس تكتمل على ضوء حواره مع ساطو المحقق، إذ يلمس القارىء الكثير من التباهي الكاذب، والتذاكي، وميله الى المراوغة، وهو يظن أن الفرصة التي ساقتها له الأقدار ليبطل عمل المسجل كافية لينجو بفعلته بعد ان أفصح للمحقق عن تفاصيل اعتدائه على رئيسه، وهذا دليل أخير على سوء تقديره للعواقب، وهو سلوك يتماشى وينسجم مع بنائه النفسي الذي برعت مهدية في كشفه، وتفصيله على مدار السرد.
الخلاصة: عمل فني بارع، ومدروس. يشرح شخصية انسانية، ويكشف خباياها، ويجعل منها العمود الفقري للقصة. بينما على مدار السرد نكتشف على هوامش الشخصية تشريحا موازيا لمجتمع شرقي بامتياز يوضح عوامل سقوطه وتخلفه. مثل المحقق السلطوي الذي لا يهمه الا انجاز عمله مهملا تماما البعد الانساني، فدلالات التحرش، والتنمر للمتهم لا تخطئها عين القارىء، والرئيس الخنزير الذي لا يتورع غن رفع مرتبة عامل مهان في مرؤوسيته منذ عشر سنوات لاشتهائه زوجته منذ وقعت عينه على صورة فوتوغرافية لها.
تثبت مهدية يوما بعد يوم أنها قاصة فوق العادة، وأنها سيدة الحوار، تديره ببراعة، فلا تجد شطرة في الحوار إلا موظفة لكشف جانب من جوانب الشخصية، أو تفسير جزئية من الحدث.
عمل قصصي بارع يستحق التحية والتقدير.

التسميات:

القصة القصيرة " بين مرتفعين" - مدونة واحة القصة القصيرة

نهلاء توفيق


قراءتان ونص واحد
القصة القصيرة : بينَ مُرتفعيْن
للأديبة العراقية / نهلاء توفيق
كم كنت فرحةً بهذه الرحلة التي قرّر لها زوجي الشيخ وأحبّ اصطحابي معه. المسافة طويلة ولكنّ سعادتي كانت لا توصف فأنا زوجة الشيخ المثقفة الفاهمة والعارفة بإمور الدين والساعية للدعوة يصطحبها زوجها إلى العُربانْ.
القرية رائعة ورائحة الروث والدجاج يهب معها نسيم عليل تفوح منه رائحة قداح النارنج والبرتقال، مع رائحة ترابٍ رُشَّ للتوّ ممزوجة بعبقِ الأصالة والبساطة والجمال...هذه الأمور تُسحرني فكنت أسير كالنعام متبخترةً يسير بي جلبابي الأسود بعدما ابيّضَت أذياله وكأنه تعمدَ سحبَ التراب وميزات الجمال فيه.
)
الديوان) كان كبيراً يسعُ الكثير من الرجال، فأعدوا لزوجي متكئاً يليق به وبمكانته. أما الزوجات الأربع فقد جعلنَ لي مكاناً مميزاً في مقدمة غرفة ضيوف النساء، بعدما جلست كبراهنّ بجانبي.
نساء كثيرات من زوجاتً وكنّات وبنات وحفيدات، وضيفات جئنَ فضولاً أو حباً للدرس، هكذا بدا لي من نظرات وجوههنّ.
الشيخ يعطي درسه في الديوان، بينا أنا بدأتُ حديثي بالصلاة على محمد وآل محمد.
استغربت لحالة لم أعهدها في كل درس حضرته زمان، وهو أنهن كلهن يستمعن لي وهنّ فاتحات أفواههنّ، لدرجة أن الضحكة (على طارف لساني) يمسكها خجلي من الخروج. قطعت احساسي هذا كبيرتهنّ حين قالت: ياشيخة، استمعنا للحديث وفهمناه، وبقي لنا أن نحدثك نحن، قلت: هاتِ. فأكملت: نحن لا نطبق هذا كله، فنحن حين نعمل نؤخر صلاتنا إلى أن ننهي كل مهمتنا في البيوت وإلا لوبخونا وضربونا. ثمّ أننا بصراحة لا نفهم الحلال والحرام هذا الذي تقولينه، الحلال عندنا ما يؤمرونه والحرام ما يمنعونه. الرِجال هكذا خلقهم الله، ونحن جُبلنا على هذا وسعداء به. ردت إحداهن في آخر صفٍ: ولو لم يضربونا يوماً لا نرتاح ولا ننام، تبعَ كلامها ضحكهنّ بخجل واضعاتٍ الفُوَط على أفواههنّ.
لم أعرف كيف أردّ، ولكنّ زوجي هناك كان يعطيهم درساً في الوعظ موصياً إياهم بمساعدة النساء واحترامهنّ وعدم وضع كل حمل الأعمال اليومية عليهنّ. كان كبيرهم يقول: ياشيخنا، الرجل مكانه الديوان، وليس رجلاً من يحمل طفلاً ويدخل المطبخ. ياشيخنا، بربك اترك هذا الكلام فأنت الآن تعلمهنّ العصيان لو سمعنك.
قال الشيخ الكثير، وقلت وأنا زوجة الشيخ الكثير، لكنّا كنّا وكأننا ضيوف ثقلاء ودعاة فاشلون متطفلون.
النساء ثرثرن كثيراً، وبدأن أحاديث خاصة عن رجالهنّ، استلم على اثرها زوجي مني رسالة عبر الجوال، فحدثهم: علموا نساءكم عن حرمة الخوض في ما يدور بينهن وبين أزواجهنّ عندما يجتمعن، وليعوّضن هذا بمدارسة القرآن. نطّ أصغرهم: والله يا شيخ لا تحلو الأحاديث إلا بهذا.. فضحك الجميع بصوت عالٍ جاملَتْهم ضحكة زوجي معهم.
رجعنا نجرّ أذيال الخيبة أنا وهو. كان طريق الرجعة هادئاً بدون كلمةٍ مني ومنه. كان شيء داخلي يقول له: أظنهم سعداء.. وبدا لي أن شيئاً بداخل زوجي يرد: نعم، إنهم الأسعد.
دخلنا البيت، فإذا المطبخ مقلوباً رأساً على عقب، والبيت كله(مهووس) الأولاد نائمون على أريكة الصالون، وجهاز التلفاز يشتغل وصوته عالٍ.
زوجي استلقى على السرير يفكر، وأنااستللتُ نفسي وأدخلتها تحت اللحاف.. ادعيتُ النوم، ولم أنبس ببنت شفة.
القراءة الأولى
للأستاذ الناقد العراقي/ حيدر أديب .


القصة القصيرة " بين مرتفعين" - مدونة واحة القصة القصيرة
حيدر الأديب
الذي أقوله الآن هو نقد ثقافي
يمارس النص تعابراً ( فلسفياً - دينياً - ادبياً )، يتجلى هذا التعابر فلسفياً على أن الإنسان مجبول على ظمأ أنطولوجي لا يحدد له شكل المعتقد، بقدر ما يحثه على أنه لا بد له من معتقد، وقد حاولت الفلسفة أن تقول في هذا النص أن أشكال السعادة لهذه المجموعة من الناس كافية أن تطمئن الظمأ، بأنها طقوس راسخة وصحيحة، لأنهم على الأغلب سعداء، وهذا كاف في رضاهم عن أنفسهم ( حديث النساء مع امرأة الشيخ )، وهنا الفلسفة بحسب النص ناظرة إلى البعد التكويني لهذا الظما . إزاء ذلك يريد الدين تصحيح وجهة هذا الظمأ، وتصحيح مفهوم السعادة، وأن هذه العادات هي أوهام، وليست حقائق، لكن النص أخفى ماهية وأسلوب التصحيح، واكتفى بعرض الرد الذي يكشف وعي النسوة الذي لم يكن مبالياً، ولا مدركاً لأهمية الدين، مستبدلا إياه بما جاء في القص، وهذا الإخفاء أوحى للمتلقي بعدمية جدوى الدين، أو على الأقل ضعف الخطاب الديني في التغيير، لأنه لم يعرض كيف، وبأي أسلوب دعاهم، وكان عليه أن يدهش المتلقي بروعة وعظمة الدين، لاأن يتسلل خلف جمله الخائبة، والمحبطة إلى حد الإذعان لهم بالسعادة، والانسحاب كما حدث به الدعاة نفسيهما، إلا أن النص استدرك ذلك، وعلل أن العلة في الداعية، لا أصل الدعوة، كما في مشهد البيت المقلوب رأسا على عقب، وذهول الشيخ وتسلل الزوجة إلى لحافها .
التعابر أدبيا تجلى في استخدم النص تناصاً معرفياً، وليس لفظيا وكما يلي
زوجة الشيخ المثقفة الفاهمة، والعارفة بإمور الدين، والساعية للدعوة ، ( قل هذه سبيلي على بصيرة انا ومن اتبعني )
نحن لا نطبق هذا كله، فنحن حين نعمل نؤخر صلاتنا إلى أن ننهي كل مهمتنا في البيوت، وإلا لوبخونا وضربونا. ثمّ أننا بصراحة لا نفهم الحلال والحرام هذا الذي تقولينه، الحلال عندنا ما يؤمرونه والحرام ما يمنعونه. الرِجال هكذا خلقهم الله، ونحن جُبلنا على هذا وسعداء به ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ)
ليس النص درساً في الدعوة، أو الدعاة، ولكنه بمجموعه دالة اشتغلت على اشكالية المفاهيم في الوعي البشري، ( الدين وخطابه / السعادة / الدين وتمثل الدين ).
تجنب النص الوعي العمودي، واكتفى بعرض وعيه الافقي، بدءاً من جنوبيته العراقية، والتقاطاته الشاسعة، ( رائحة الروث، والدجاج يهب معها نسيم عليل، تفوح منه رائحة قداح النارنج، والبرتقال، مع رائحة ترابٍ رُشَّ للتوّ ممزوجة بعبقِ الأصالة والبساطة والجمال...هذه الأمور تُسحرني فكنت أسير كالنعام متبخترةً يسير بي جلبابي الأسود بعدما ابيّضَت أذياله وكأنه تعمدَ سحبَ التراب وميزات الجمال فيه.) وهذه لوحة مجنونة، لو رسمت>
هذا نصيب من الفهم وليس نصيب من النص فالنص يبقى ويموت الناقد حتف قلمه
وتحية وتقدير.
القراءة الثانية 

 الأديبة / الزهرة الصالح / المغرب: لقد أجادت الكاتبة في وصف الشيخ وزوجته وطريقة الاستبقال، فمن طبيعة الإنسان العالم والعارف والمتمكن من الشيء أن تكون له ثقة كبيرة بنفسه وأنه يستطيع إقناع الآخر بما يعلم.

ومن طبيعة أهل القرية حسن استقبال العالم وإكرامه، فبغض النظر عن جهلهم يقدسون العلم بالفطرة...
أجادت الكاتبة في وصف المكان.
نأتي إلى الدرس:
وصف دقيق للنساء وكيفية استقبالهن للدرس، بحيث أنهن استقبلنه من دون اكتراث وبلا مبالاة. فلقد تعودن على حياة غير مقيدة لا بالوقت ولا بالمواعيد ومن بينها مواعيد الصلاة، كما أنه في أغلب القرى نجد وكأن الصلاة فرضت على الرجال دونا عن النساء، إذا فمن المنطقي ألا يستوعبن الدرس من خلال حصة واحدة.لا ترتاح النساء إلا إذا ضربن، لماذا ياترى؟ ربما لأن بعد الضرب تأتي العلاقة الحميمية، إذا فعندما تحثهن الداعية على الاعتراض عن الضرب فكأنها ستحرمنهن من اللحظة الجميلة التي يقضينها مع أزواجهن.
أما بالنسبة للكلام عما يدور بينهن وأزواجهن فهو المتنفس الوحيد والوسيلة التي يرفهن بها عن أنفسهن وتتباهين بها كل واحدة على الأخرى..وكذلك بالنسبة للرجال.
إذا فهؤلاء الناس رأوا في الدرس الحرمان من كل ماهو جميل بما في ذلك السعادة.

يستوعب الشيخ وزوجته الأمر ويعودا خائبين.
لتأتينا بعد ذلك الخاتمة والتي أظنها أهم فقرة في النص، وأراها الهدف، وربما الفكرة التي ترمي إليها الكاتبة: ترى هل أكمل الداعي وزوجته الرسالة مع الأبناء قبل أن تنتقل للعموم؟ وهل استوعب الأبناء الدرس بأن يرتبوا البيت، وينظفوا المطبخ، ويطفئوا التلفاز قبل النوم، وهم الذين ترعرعوا في كنف أسرة عالمة بالدين كي يستوعبه أهل القرية من درس واحد؟
صعب أن تغير مفاهيم أناس تعودوا أشياء ولدت معهم وكبرت وتوارثوها أبا عن جد...
تحيتي وتقديري لك أستاذة نهلاء.
الزهرة الصالح / المغرب


التسميات: