الأحد، 17 فبراير 2019

قراءة في القصة القصيرة" العقدة"- مدونة واحة القصة القصيرة


قراءة في القصة القصيرة" العقدة"- مدونة واحة القصة القصيرة

قراءة في القصة القصيرة

"العقدة"


للأديبة العراقية / نهلاء توفيق


البون شاسع بين لفظي امرأة، ومره.
امرأة اسم جنس، وهو دلالة على النوع، و"مره" مرادف دارج لذات اللفظ، أسقط عنه العوام الهمزة للتخفيف.لكن الألفاظ ليست كائنات جامدة، بل هي كائنات حية، تتطور، وتنمو مع الاستعمال. وإذا كان اللفظان يشيران إلى مدلول واحد، إلا أن كل منهما قد اكتسب حياة مستقله، وسلك طريقاً مختلفاً في مسيرة تطوره.
وأكاد أجزم أن اللفظ الدارج كان أوفرهما حظاً في اكتساب المحمولات،فبينما لا نجد اختلافاً كثيراً في استخدام اللفظ المعجمي، نرى اللفظ الدارج وقد اكتسب محمولات سلبية تعكس البون الحضاري بين الحضر وبين الريف.
والتقنية المستخدمة هي الإسقاط، فالشخصية الرئيسية في القصة فتاة ريفية لا تخطر لها بطبيعة ثقافتها وتربيتها تلك الأفكار التقدمية التي حركت القلم، لكن دوافع التمرد والرفض لديها، تعد ترجماناً صادقاً لأفكار الكاتبة. لذلك بدت كل الجمل التي تعكس فهم الشخصية لدوافع تمردها تقريرية، على سبيل المثال:
 - الجملة الاستهلالية " منذ ولدت وصرت أفهم الكلمات..... الخ ".
 المقطع-
  "بين عشية وضحاها صرت امرأة. كرهت هذه الكلمة التي قتلت طفولتي في لحظات وحولتني لكائن لم آلفه، ولا أفهمه".
 جملة-
 "المأساة أني لا أقتنع بكل هذا .... الخ"

فقرة " قلت لك أنا لا أعرف ولد ولا بنت"

- فقرة " الزمن يسير ......... الخ".
ترفض الشخصية الإذلال المعنوي الذي يمثل لها إرثاً لا فكاك منه. لكنها لا تستطيع إنكار هذا الإرث أو مقاومته مقاومة علنية. يملك المجتمع - برسوخ تقاليده - سلطة عاتية تكفي لقمع أي محاولة للرفض، بداية من النبذ، مرورا بالعقاب الجسدي، وصولاً إلى القتل باسم العار.
لذلك نرى الأفكار التنويرية المحركة للفكرة تتحول على لسان البطلة الراوية، وتترجم في سلوكياتها على هيئة تمرد داخلي، وإصرار على المقاومة السلبية إزاء الشعور بالدونية.
الموقف العلني الوحيد في النص هو ثورتها على زوجها رافضة مناداتها بلفظ المرة، وهي ثورة على بساطتها انتهت بها الى بيت أبيها مرفوضة، ومنبوذة. وهذا الموقف بالتحديد من أقوي مفاصل القصة دلالة على رسوخ الإرث المعنوي الخاص بقمع النساء. فالأب الذي رأيناه في صدر القصة يقول " روحي يامره .. تعي يامره "، نراه يحنى رأسه مستعطفاً الزوج باعتباره صاحب حق : " عقل النساء صغير، ولا تصلح معه إلا الاحتواءات " . لم يخطر ببال الأب أن يوجه الزوج إلى وجوب حسن معاشرة ابنته. فهو ذاته لا يدرك هذا الحق. إذ أنها في نظره لا تعدو مجرد" مره.
وقد لعب هذا الموقف دوره في سحق إرادة التمرد لدى الراوية، فالأب المرهوب الجانب أرغم على ابتلاع صلف الزوج الذي يقابل لين حميه بخشونة: " لولا خاطرك عندي كبير، فأنا هكذا "مره" لا تناسبني".
من حيث البناء:
تمهد نهلاء لنشوء بذرة التمرد داخل الشخصية بتدرج نلحظه في بدايات وعي الراوية -

- أتواجد كثيرا في الحمام"
للجملة دلالاتها لارتباط الحمام ارتباطا إشاريا بالعلاقات الجسدية المغلفة بالسرية.

-لقد كبرت بسرعة وصارت مرة "
أبي ينادينى: تعاي يامرة "صارت مره). فكرة تسيطر على النص، حتى ليمكن اعتبارها أيقونة ترسخ حقيقة التحول من طور إلى طور، حتى الأب يؤكد هذا التحول، هو إذن تحول تؤكده السلطة الأبوية الآمرة الناهية. ولذلك أيضا دلالته في وجوب الرضوخ لاستحقاقات هذا التحول.
-  
أمي تخيط لي الملابس الطويلة الفضفاضة".
تعني الملابس الطويلة وجوب الستر، وهو أول تلك الاستحقاقات. لذلك سنرى الشخصية تبادر في سلوك عفوي إلى رفض هذا الاستحقاق، غير مدركة للعواقب. وهي تملك منطقها: " إنهم يعرفون شكل شعري حتى وهو مغطى..".. لكن المنطق الذكوري لابد أن يقمع المحاولة الأولى للتمرد، لأنها مجرد توطئة لمسار طويل من الانتهاكات المعنوية والمادية لآدمية المرأة. مع ملاحظة أن المنطق الذكوري غير موقوف على الرجال، بل تساهم النساء اللواتي خضعن طويلا لهذا الانتهاك - إلى درجة التدجين - بقسط وافر في بسط الولاية الذكورية.
-
فانت الآن امرأة، وهم رجال ". - يجب ٱن تضحي، فهم ٱولاد، وأنت كبرت، وصرت مرة".
العبارتان السابقتان على لسان نسوة من العائلة. الأم، والجدة. - فخيل إلي أنه لا يعرفني بثوبي الطويل ، وغطاء رأس"
ضمير الغائب في الجملة السابقة يعود على الشارع، في إشارة ضمنية إلى العالم الخارجي. وربما في إشارة أبعد إلى خالق هذا العالم، وجملة "لا يعرفني" هنا لا تنفي العلم - حتى لا يتحسس البعض- بل تعني الإنكار، دلالة على الفكرة المبطنة التي تحرك مسار السرد، وهي أن قمع المرأة يخالف الناموس الطبيعي الذي فطر الله عليه العالم، والذي ترتضيه الفطرة السليمة.
وقد أجادت صديقتي نهلاءاللعب على لفظي "امرأة" و "مره" . من أجل إبراز الفارق الحضاري الذي يمثله الفارق بين اللفظين بمحمولاتهما.
راوحت بين اللفظين لتؤكد البون الشاسع بين النموذج، وبين الواقع.
والحقيقة أن القصة لا يشوبها أي غموض، أو نقص في اكتمال التجربة الإنسانية، هي فقط محملة بالزوائد التقريرية التي أشرت إليها والتي من المستحسن التخلص منها، بالإضافة الى الملاحظة الأهم التي انتبه إليها الأستاذان حمدي البصيري، ورعد الفندي. وهي ترهل الخاتمة. فلقد توقفت فعلا عند صيحة الأبناء: " أنت أعظم مره ". وقلت هذه خاتمة مثالية لا يجب أن يخط حرف واحد بعدها.
فكل ما قيل بعد تلك الصيحة طمس جمال الخاتمة.

محسن الطوخي


نص القصة

"العقدة"

منذ أن ولدتُ وصرتُ أفهم الكلمات أُشبعتُ بوصفي امرأة.
كانت حفلةً كبيرةً تلك التي زينوني بها وألبسوني ثوباً أبيضَ في سنّ الثالثة عشرة من عمري. العشاء كان فاخراً والكل يبارك لي وأنا أبتسم كالعروس القروية الخجلى؛ ولكني بصراحة لا أفهم مغزى الحفل وخاصةً أنني أتواجد كثيراً في الحمام.
النساء تتهامس فيما بينها وهي تبتسم: لقد كبرت بسرعة وصارت "مَرَه".
بين عشية وضحاها صرتُ امرأة!.. كرهت هذه الكلمة التي قتلت طفولتي في لحظات وحولتني لكائن لم آلفه ولا أفهمه. أبي يناديني: تعاي يامَرَه، وخالي وأخي. أمي تخيط لي الملابس الطويلة الفضفاضة وتؤكد لي بأنّ عليّ نسيان البيجاما والبنطلون والثوب القصير، وحتى"الّلعابة" التي هي صديقتي وصاحبة أسراري.
أثقلوني بعدها تدريجياً بشغل المطبخ وتنظيف البيتملابس إخوتك اغسليها واهتمي بطلباتهم ابنتي، فأنتِ الآن امرأة وهم رجالياليتني كنت رجلاً... هذا ما كنت أحدث به نفسي دائماً وأسائلها عن حظي بكوني أنثى وليس ذكراً.
جدتي أعطتني نصف تفاحة، وإخوتي لكلٍ تفاحة. "لماذا ياجدتي؟ أنا أكبر منهم ولاتشبعني النصف!.. "الولد يأخذ ضعف البنت لأنه يحتاج للقوة بنيتي. ثم يجب أن تُضحِي، فهم أولاد وانتِ كبرتِ وصرتِ "مره".
المأساة أني لا أقتنع بكل هذا، وأذهب لأسرق تفاحتين من جرّور البرّاد فآكل واحدة وأخبىءُ أخرى تحت السرير، أتركها حتى تتعفن؛ انتقاماً لكرامتي فقط.
الشارع يناديني عصراً للّعبِ مع أقراني، ولكني أُمنع وبقوةٍ للحدّ الذي أغافلهم فيه وأهرب إليه، فخيل إليّ أنه لا يعرفني بثوبي الطويل وغطاء رأسي.
الأولاد صاروا يضحكون وهم يؤكدون لي أنهم يعرفون شعري ولا حاجة لتغطيته؛ مما اضطرني لنزعه عن رأسي ورميه.
كم كان تعنيف امي وضربها لي صعباً حينها، وأنا مازلت أؤكد لها أنهم يعرفون شكل شعري حتى وهو مغطىً فلن يفرق الأمر.
.....
زوجي يقومني ويقعدني على: مره... مره...
"
اغسلي هاذ يمرة..اكوي يامرة... تعالي يامرة...
إلى أن صرختُ في وجهه يوماً: لا تقل لي"يامرة".. نادني باسمي فقط. وكل مرةٍ ألبس فيها عباءتي فأهرب إلى بيت أهلي، يقنعه أبي بأن عقل النساء صغير ولا تصلح معه إلا الإحتواءات. فيرد بقوله: والله ياعماه لولا خاطرك عندي كبير، فأنا هكذا "مره" لا تناسبني.
فصرتُ حقاً كما يريدون امرأة بمقاييسهم وحكمهم؛ إلى أن كان الأولاد وكانت الأزمات.
.......
قلت لك أنا لا أعرف ولد وبنت، فكلهم سواسية عندي، فلا تفرقة في المعاملة وإلا وضعت حداً لهذا...
أين العباءة؟!
.....
الأولاد تزوجوا وصاروا يتخانقون... نعم، لقد كبروا.
الكنّة... أنا مع الكنّة، وصديقتي تنعتني بالمجنونة لأني مع كنّتي وضد ابنيفي حياتي ماشفت مرة تقف ضد ابنها...ها ها ها
......
الزمن يسير... ويدور..يتغير...
وتتغير معه مفاهيم كثيرة لي ولمن حولي.
.........
في عيد المرأة فاجأوني بحفلة وهدايا كثيرة، وقالوا لي: سامحينا.
نعم، لقد سمعتُ زوجي معهم يقولها.
......
في عيد الأم كانت الحفلة أكبر، وكان الأحفاد معهم، فاتفقوا على أن تكون صيحاتهم في وقت واحد وبصوتٍ عالٍ: أنتِ أعظم "مره".
.......
أصرّ الأولاد أن يعملوا عيد ميلاد لي للمرة الأولى في حياتي؛ فقد كنتُ أخجل من هذا وأعدّه مسائل طفولية.
لبستُ بلوزة وبنطالاً، وضعتُ وردةً بشُكّالةٍ على شعري. صاحوا بنَفَسٍ واحد عندما أطفأتُ الشموع: حفظك الله لنا يا أجمل امرأة في بيتنا.
"
صراحة أول مرة أحب هذه الكلمة، وأستذوق معناها "
يا إلهي، أين كنتُ أنا من هذه الكلمة! ولماذا لم أكن أحبها!
......
على فكرة، نسيت أن أخبركم أنني لم أعد ألبس العباءة، فأبي رحمه الله أجاز لي لبس الجلباب حينما رآه حلواً وصديقاتي لبسنه.

إقرأ أيضاً: صوت الذاكرة- مدونة واحة القصة القصيرة


التسميات:

الأحد، 3 فبراير 2019

قراءة نقدية حول القصة القصيرة " جوع "- مدونة واحة القصة القصيرة

قراءة نقدية للأستاذ الناقد / سليمان جمعة حول القصة القصيرة :   " جوع " .. لمحسن الطوخي
سليمان جمعة
قراءة نقدية
للأستاذ الناقد / سليمان جمعة
حول القصة القصيرة :
 " جوع " .. لمحسن الطوخي

الراصد من شباك هو الراوي الذي يعلم أقل من الشخصية ..
التبئير ...
هو على مسافة سمع ورؤية ... لاحظ واكتشف .....يصف الحركات.. وبسمع العبارات
اذن هناك أربعة مناطق...
حيث الراصد /الراوي
الولد المساعد .. بين الراصد ومعلمه
وثالثة هي حيث يعمل الرجل الممصوص..
والباب حيث تظهر المرآة وتتوارى في الكوخ ... ..
يرى ويسمع من خارج ..لم يعط أي داخل لاحدى الشخصيات الثلاث....
الولد يعجن المعجون ..الرجل يكحت الحيطان من طلائها والملصقات ...المرأة تنادي الرجل إلى الداخل ليأكل ويشرب الشاي ...ويبلل رأسه
..
ينفث دخانه ...يطلب من الصبي الرحيل ..الصبي يمتنع ...يزداد حدة في العمل والتدخين وحركة رجليه .....
ينهر الصبي يرميه ببعض الأشياء يبتعد ولا يرحل ..لماذا ؟..
هذا هو اللغز الذي وضعه في أفق التوقعات ...ليس جائعا . .لا يطيع معلمه بل يعمل عمله ...لماذا يطلب منه الر حيل ؟ أفي نية الرجل شيئاً نحو المرأة ..أفي دعوتها ريبة؟ ..حركاته برجله لحائط الكوخ ..هل هو موافقة على الدعوة ؟ لماذا اهتز السطل .للحظة ...؟ .
جوع عنوان ...يشع على المناطق الأربع....الراوي يريد أن يعرف فيستمر في الرصد طوال وجود العمل...و..الصبي يعمل، به جوع أن يراقب معلمه ...المعلم به جوع أن يكون لوحده مع المرأة .المرأة بها جوع آخر ..الكوخ به جوع أن يكون جديداً ..كجسد الممصوص ...كجوعه للتدخين ففيها ينفس عن غضبه...العين جوعانة لترى والنفس أن تهدأ والجسد كذلك ...
الباب موارب علامة بليغة عن السماح بالدخول ...وإرادة اللقاء ..فالتردد يزول فورا ...ظهورها المتكرر كذلك علامة عن جوع ...الشقوق في الحائط وملئها بالمعجون والدهان ..هي ارتواء ..ومظهر جديد بدلاً من منظر الانحناء وهيئة الممصوص ...
إذن العنوان استطاع أن يكون تكثيفاً لحركة الفكرة ...
الصبي يراقب جهراً ...الراصد لا يرى ..
ضفتي الرغبة عند الكوخ ..تتمثل بالمعلم والمرأ ة وطريق ذلك أو التلميح إليه كشح الكوخ/تعرية ...مواربة الباب واهتزاز السطل وركل الحائط ونداءات المرأة ...
الغامض هو انتهاء العمل بالكوخ الذي أمسى مزهواً ، وغيابها فيه ..هل نال ما نوى؟ .نفخ الرجل حمل أدواته ..كان الصبي ما يزال مقعيا ....
نص مليء بالحركات .والأحوال
وأظن أنه لم ينل شيئاً...لكثرة ما ورد من حركات تسجل قهره
الحال تسطر الداخل حركات خارجية ..والنص عامر بها ..أين القفلة ؟
إن النص بناء يكاد يكون مرصوصاً، لا يسمح بثغرة من تتابع مستمر ....من وجود الصبي وصراع المعلم ...مع عمله ورغبته... ..أين تجلئ المكان روائيا ...المنطقة الأولى صفر إلا من رغبة عارمة بمعرفة النتائج...الثانية في صراع مع الثالثة والرابعة مع التالتة كرغبات... الحادة بين الثانية والتالتة ..تلك حملت القفلة وهي تختم/ تقفل/ القصة...إذا بقي على مسافة بينهما ...من هو هذا الصبي؟
هل احتاجت القصة لصور أو اكتفت برسم حركة الفعل ...فوصلت العلامة .والدلالة ..مهيأة للتأويل؟...
رسم الحركات ...في غضب المعلم من الصبي ونفثه الدخان ...
غادر الرجل محنياً تماماً ..ليس مزهواً كالكوخ ..المرأة توارت..
السلم المتهالك الكوخ الغارق في الإهمال ..الرجل الممصوص.. ان الكوخ مسكون...
كلها توحي بالزمن المتهالك الذي يحتاج تجديداً .....حجراً وبشراً ...والصبي هو الذي لا يفارق كمتصل لا يريد السقوط ..الأخلاقي . ويريد إكمال التصليح ....والشباك المراقب ...المجهول ..المكسو بشباك تمنع البرغش ..ذلك الذي لم ينتبه الا أخيرا ....هو الساهي عن الذي يريد أن يسقط ..والكثير الاوساخ ...ضفاف عالم ... تربطهم الرصد والمراقبة وعدم التفاعل..
النص بفكرته ...تهالك المجتمع ... جوع في كل اتجاه.. وفي كل رغبة .. كنى لها هذا الإنشاء ..المتخييل..
ما دور الكناية هذه؟
حال تمثيلية، أي لغة أيقونية تتكلم مجرد إن حضرت الصورة الكلية ... الكناية توحي بحال اجتماعية ...تسلك سلوكها كمعتقد راسخ ثابت ..وهذا مكمن خطورتها ...المعنى المتستر هو الانهيار والتجديد، هو كساء موقت ..في داخله عفن ..والمصلح ..ممصوص اي لا نسغ حياة فيه ...ولكن الأمل موجود في الصبي ...
ما دور المراقب أي الراوي ..السلبي كأنه العالم الذي يرى ولا يتدخل ولا يفعل شيئاً بل .
يضع حاجزاً حتئ البرغش أن يخترق مكانه ...
 هنا أردت أن أطرح فكرة البلاغة العربية، وصلاحيتها لتضم كل الحقول النقدية.. عندما نطلقها من ميراثها المدرسي إلى جاراتها من من المعارف السيميائية، والتاويلية، والتحليلية، والبنيوية التكوينية. كلها تستطيع الانخراط فيها إذا كانت بلاغة وظيفية.

سليمان جمعة / لبنان

نص القصة
(جوع)

  لم  انتبه على مدى شهر من ارتيادى المكان إلى الكوخ الخشبى الغارق فى الإهمال عند المنعطف. اكتشفته عندما لاحظت صباح اليوم ذلك الرجل الممصوص يعتلى سلماً خشبياً متهالكاً، مستغرقاً فى إزالة الأوساخ والملصقات مع طلاء الكوخ القديم. بوسعى رؤية هيكله الضامر من النافذة المكسوة بسلك مانع للحشرات وهو يمتص لفافته المعلقة بزاوية فمه، ينعقد الدخان فوق رأسه. اكتشفت بعد مرور ساعات أن الكوخ مسكوناً حين تحرك الباب بقدر مايسمح به السلم الخشبى, وبرز رأس امرأة، نادته، فتوقف عن العمل: تعال كل لقمة.
جفف جبهته بظاهر ساعده، ألقى نظرة على الصبى المقعى فى الجوار يعالج خلط المعجون، ومالبث أن عاود عمله. تناثرت بقايا الطلاء القديم، فتوارى رأس المرأة، وبقى الباب موارباً. توقف الرجل وهتف بالصبى: رح كل لقمة. أجاب الصبى دون أن ينظر إليه: لست جوعاناً، واستمر فى خلط المعجون، عاود الرجل عمله فى إزالة الطلاء القديم فتلوث الجو بالغبار.
بحلول الظهر بدأ الرجل فى سحب المعجون. بدا الكشك بعد إزالة الأوساخ فى هيئة مغايرة، أشبه بلوحة تجريدية وقد لاحت الشقوق والفتحات التى تعرت فى البدن المتآكل. تمر سكين الرجل فتطمس الشقوق وتكسو الخشب المهترىء بطبقة صقيلة من المعجون. احتكت قدم الرجل بجدار الكوخ، فتح الباب وأطل رأس المرأة : تعال اشرب شاياً، وبلل رأسك. توقفت السكين، واهتز الدلو المعلق بعارضة السلم. لحظة وعادت السكين لسحب المعجون, ثم مالبثت أن توقفت. هتف الرجل بالصبى القابع: هيا انصرف، انتهت نوبة عملك. لم يغير الصبى جلسته، استمر فى خلط المعجون. هتف الرجل بصوت أعلى: انصرف، لم أعد بحاجة إليك. قال الصبى دون أن يرفع رأسه: أريد أن أبقى. تميز الرجل غيظا: قلت انصرف. طارت لطخة المعجون العالقة بحد السكين تجاه الصبى فلوثته، فر الصبى فعبر الطريق واستمر فى العدو للناصية القريبة، وأقعى. ركل الرجل الباب نصف المفتوح بغضب فكاد أن يحطم رأس المرأة. طاشت ضربات السكين فعرت مساحات سبق تكسيتها. نفث الرجل دخان لفافة جديدة، ولم يكف عن استبدالها كلما زوت. والمرأة ماعادت تطل.
عند اقتراب الأصيل كان الكوخ يربض مزهواً بكسائة الجديد، صار متأهباً لاكتساب الألوان، بينما نال التعب من الرجل، انحنى عوده، وتلطخت ذراعاه وقمة رأسه بطبقة جيرية من أثر التجليخ. راح يتحرك القهقرى مبتعداً ليلقى نظرة جانبية متفحصة، ساعداه المحمصان يمسحان حبات العرق فيلطخان الوجه. والمرأة بصت بصة أخيرة. التفت الرجل إلى الناصية. كان الصبى لا يزال مقعياً. نفخ الرجل فتوارت المرأة مسرعة. غادر الرجل محنياً تماماً حاملاً سلمه وأدواته. ما أن ابتعد حتى نهض الصبى واقتفى خطواته محتفظاً بمسافة أمان.


محسن الطوخي


 ( من مجموعة " الضعفاء يموتون " )



التسميات:

قراءة نقدية في القصة القصيرة " فوق الرأس "

قراءة نقدية ف يالقصة القصيرة" فوق الرأس"قراءة نقدية
للأستاذ الناقد/ مصطفى بلعوام
في القصة القصيرة: فوق الرأس.

للأديب/ محمد رسلان

----------------------------
طلة عابرة في شكل خربشة أولية تركتها تنكب كما جاءت وجاء الوقت يحكمها في ضيقه الضيق .. أو قل تلك هي الارتسامات الأولية التي تأتيني من دون رغبة مسبقة كي تتحول إلى موضوع تفكير .. أضعها هنا كما هي ، أي مجرد ارتسامات عابرة .
/- 
ما أجمل القصة القصيرة عندما تجد من يفهم لعبتها الفنية في معانقة لغةِ لحيظة حياة والقفز بها في رحاب تجربة قصصية تتنفس حياتها من دون اجترار ولا استنساخ لما يسمى تحث مسميات متعددة: " قصة واقعية". لأن القصة القصيرة التي لا تخلق واقع حياتها لا واقعية لها غير السقوط في لغة الحكي عِوَض لغة القص .. فلغة الحكي تجري وراء حكاية كما الحكواتي وهو يتتبع حدثا وراء حدث في صيغ سلوكات خطية الحدوث؛ أما لغة القص فتبني فضاءها من تثوير عالم الكلمات في علاقته بأشياء الحياة
بحيث لا تُخٌتَزَلُ في حدث، هذا الذي يقع أو ما يدخل في حيّز المجريات.. ولكنها تمثل هي ذاتها الحدث الذي يخدمه هذا الذي ما كان عليه أن يحدث، فلا تعطيه أبدا في فعل فاعل أو مفعوله ولكن تدعونا للبحث عنه، وإقتفاء أثره في ذات الأثر الفني الذي يشغل القصة. وهذا ما تعطينا إياه للمعاينة قصة " فوق الرأس": 
وهج لغة القص في خلقها لشعرية الحدث.
وتعني شعرية الحدث هنا مداعبة الكلمات للحدث بحيث تأتي إليه كما يأتي إليها من دون أن نعرف أصله كما حلم اليقظة.. بين بين، أي وهج لغة القص التي نلامسها ليس فيما تعنيه الكلمة للشيء، ولكن فيما تتركه من بريق سيميائي وأثر فني يحتاجان دوما إلى إعادة التشكيل .. إنه المناخ السيميائي:
يتعلق الأمر بسمات دلالية يأخذ النص منها نكهته العامة والتي لا تتحدد بعلامة أو دلالة واحدة .. فهو مناخ سيميائي تتحرك داخله فضاء القصة والذي يمكن استجلاءه كعينة على هذه الشاكلة : 
١- إوزة : سمينة، ممتلئة، لحما وشحما..(ستلتهم منها قمر )، وركا أو صدرا، مؤخرة أو "زملكة" (ينضح عليها ما أكلت ) على وجهها، وجسدها، توردا واحمرارا.. نضرة وامتلاءا.. 
٢- المرأة التي هي امرأة، أنثى بحق وحقيق: خصرها، طبقات اللحم، كتلة من اللحم الأبيض ..
٣- هذه المرأة وقحة : إصرارها منذ البدابة على قصقصة ريشي، وسلخ جلدي .. 
٤- قمر : حلوة بالجملة.حلوة ككل متكامل ..
ما يجمع هذه العينة ليس المرأة/الجسد ولكن الأنثى/اللحمة التي حولها ينبني فضاء القص؛ فكيفما كانت صفات المرأة فإنها هنا في مخيال "الأنا النصية" لا تكتسي وجودها إلا من حيث هي لحمة أنثوية. كيف ذاك؟
في المحور ٤، قمر حلوة بالجملة، حلوة ككل متكامل؛ الكل متجانس بالجملة في ظاهره، ويأخذ معناه من المحور ١. إذ ستأكل قمر الإوزة فتأخذ صفتها : نضرة، وامتلاءا. الإوزة "سمينة، ممتلئة، لحما وشحما..".. يعني أن رابط المحور ١ بالمحور ٤، هو.le principe d’incorporation الذي يعتمد على إضفاء
مفعول لفعل مع تقويض مكانيزم السببة :
- ما تأكله تتخذ صفته : قمر/إوزة.
والمعادل هو علاقة الأنا النصية ب قمر" الحلوة بالجملة وككل متكامل : إذ يريد هو الآخر أن يأكل اللحمة الأنثوية .. وهي أنثوية لأنها لم تؤكل بعد.. لا يتعلق الأمر بطريقة في الكلام ولكن بطريقة في التفكير..
من هنا نلامس "الأنا النصية" من خلال مشهديات القصة :
١- مشهدية "تهندمت"؛ شكلي في كسرة
٢- مشهدية "اعتراض": المرأة التي هي امرأة .. أنثى بحق وحقيق
٣- مشهدية "قصقصة": هذه المرأة وقحة ٤- مشهدية "إيضاح ": قمر "حلوة"
٥- مشهدية " وعددت المهر
٦- مشهدية "فوق الرأس":
يقابل المشهدية ١" شكلي في كسرة المرآة السوداء — المشهدية ٢: اهتز معها جسدي النحيل". روعة شكل في مرآة سوداء لجسد نحيل.
يقابل المشهدية ٢ : "المرأة التي هي امرأة .. أنثى بحق —- المشهدية ٣ : "هذه المرأة الوقحة"، وجهان لأنثى /لحمة ..
يقابل المشهدية ٣ : "إصرارها منذ البداية على قصقصة ريشي وسلخ جلدي ——-المشهدية ٤: "قمر حلوة (..)وجيوبي خاوية"
وتبقى المشهدية ٥ متلازمة للمشهدية ٦ : عددت المهر ... كان الطست مستقرا فوق راسي ..
هنا وهج اللغة التي تجعل المشهديات متداخلة فيما بينها وتكسر خطية تتبع " المعنى" ... لغة في خدمة المناخ السيميائي للقصة .

المصطفى بلعوام


نص القصة:

فــــــــــــــــــــــوق الرأس ... 

تهندمت ...

شكلي في كسرة المرآة السوداء كان رائعا .. و قد فرقت شعري إلي جانب ، و لففت حوله الشاش المزهر. ضمخت شاربي بعشرين قطرة من زجاجة ( ريحة الحبايب ) التي ابتعتها المولد السابق .. استللت عصاي المعقوفة ، و التي توالت علي اكف أفراد عائلتي ،حتى استقرت في يدي ، بعدما اصطدمت - عبر رحلة طويلة - بمئات الرؤوس و الأذرع و العصي الاخري ، في معارك ضارية ، و حلقات تحطيب لا تنتهي ، كانت غراما لجدي الأكبر ...اصطحبت الإوزة التي اشتريتها من السوق ، بعد مزايدة مريرة مع أم " العنجوك " ، التي تربي الدواجن . لكن الصفقة كانت مغرية ، و ها هي الإوزة ..سمينة .. ممتلئة لحما و شحما .. تليق كزيارة محترمة لعريس مرتقب .. إوزة .. ستلتهم منها " قمر " وركا أو صدرا .. مؤخرة أو حتة " زلمكة " .. ثم تتجشأ بعدها ، صحة و عافية ، لينضح عليها ما أكلت .. علي وجهها ، و جسدها .. توردا .. و احمرارا .. نضرة و امتلاءا ..و استدارة .. هذا ، ما لم تطمع أمها في الإبقاء عليها لتربيتها ضمن ما تربي ، فيقفز عليها ثعلب ، في ليلة مغبشة ، ليلتهمها حتى الريش ...

اعـــــــــــــــــــتراض ...
المرأة ...
المرأة التي هي امرأة .. أنثي بحق و حقيق ، واقفة علي شكل رقم اثنين ، مسندة كوعها إلي الباب ، بينما رأسها مسند إلي كفها ، و قد ثنت منطقة خصرها ناحية الخارج ، لم تفسح لي الطريق كي أمر من أمام بيتها .. الزقاق كان ضيقا .. تنحنحت .. كانت هي تسب احدي بناتها :
- " هلم أيتها الاهر .. هيي هيئ .. "
ضحكتها .. رجت الأرض التي اهتزت ، فاهتز معها جسدي النحيل ، و اهتزت لها طبقات اللحم التي تكسوها. دفعت يدها في فتحة جلبابها ، و راحت تبحث عن شيء هناك . هذه الكتلة من اللحم الأبيض المشرب بحمرة يانعة ، و الموزعة بالتساوي عي جميع بدنها ، كانت تسد أمامي مدخل الدرب .. تنحنحت مرة أخري ، عندما مالت بصفحة وجهها ناحيتي ، رمقتني بطرف عينها شذرا ، ثم ... أخيرا ... انفرجت مساحة ضئيلة جدا ، كنت امرق منها ، وجهي للحائط ، و قد فردت ذراعاي بالإوزة التي لم يعجبها الأمر ، فـ ( كاكت ) ، اجل ( كاكت ) ، و مطت عنقها ، و نقرت بمنقارها المرأة التي ضحكت بغنج ، بينما أكملت مروري ، يغسلني عرق بارد ..
و دخان كثيف ...
قـــــــــــــــــصـــــــــــقـــــــــصة ...
- " أريد ثيابا غالية .. و سراويل ، لا أريد جلابيب كجلابيب أمك .. "
هذه المرأة وقحة ، و تذكر أشياء عن أمي لا يعرفها احد ، و لا حتى هي .. أمي .. لو كانت موجودة ، لكانت " ربتها " .. لكن .. أمي طيبة ، و لم تكن لتستطيع التغلب علي أم " قمر " لكنها كانت ستساعدني في درء حملتها الشعواء علي .. و إصرارها منذ البداية علي قصقصة ريشي ، و سلخ جلدي ..
عندما دلفت للدار ، ما إن مدت " قمر " يدها الرقيقة تسلم بها علي ، حتى " زغدتها " في ساعدها ، ثم جذبتها للداخل أن :
- " امشي يا مقصوفة الرقبة .. "
هذا التبدل المفاجئ في سلوك والدة " قمر " جعلني أوقن من صحة ما يتناقله الناس .. ها هي ذي الانثي تحاول بسط جناح سيطرتها علي ، ازددت رغبة في اقتناء " قمر " ، في إخفائها بين جنبي ، بعيدا عن أمها ، و أبيها ، و عن العالم اجمع ..
- " سيحدث إن شاء الله .. هناك ثمة نقود قادمة سأقبضها .. "
لن اخبرها عن المائة جنيه لدي المقاول الذي أعمل لديه ، حتى لا تتذكر أشياء أخري ، تدرجها في بند القصقصة ، فتتضخم الميزانية علي حساب جنيهاتي المستقرة حاليا في أحشاء المقاول الواسعة ..
بعد جلسة مطرقة في المندرة ، لدي عمة " قمر " مضت علي ما بين الحملقة في سقفها ، إلي غرس بصري في أرضيتها ، ثم احتساء كوب ملوث من الشاي ، عفت عيه مائة ذبابة ، إلي تحمل نظرات مستريبة ، تبادل إلقاءها علي والدة " قمر " ، و والدها .. ثم عمتها ، ثم كلب اسود صغير ، اقتحم المندرة لينبح علي ، ثم فر هاربا ..
هممت بالانصراف ، فلم يستوقفني احد ..
- " أولن تسلم علي " قمر " ؟ "
قلتها ببراءة .. ببشاشة ، و إقبال علي حياة غضة آتية ، فسحب والدها بندقيته .. أصابني الذعر ، قلب بصره في مستنكرا ، فاستطردت :
- " اوليست خطيبتي ؟ "
- " تزوجها أولا ، ثم افعل ما يحلوا لك .. "
قالها ، مسددا إلي فوهة سلاحه ، ثم بصق علي الأرض ، فوليت وجهي منصرفا ..
- " و قبل ذلك ، لا نريدك أن تقفز لنا هنا كل يوم .. أفهمت ؟ "
كانت أمها ، تشيعني بأولي بشائر ممارساتها كحماة .. لكنها كانت تعلم أنني سأعود .. لابد و أن أعود .. لأني ، و الحق أقول ، و برغم المسئولية التي ألقيت علي عاتقي ، كنت منتشيا ..
هاأنذا سأكمل نصف ديني .. و نصفي الحلو ..
كان غروب الشمس رائعا ...
و الليل القادم ... يشعل بخور السعادة ...
لتتعبق الحياة ...
إيضـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاح ...
" قمر " حلوة ...حلوة بالجملة ... حلوة ككل متكامل .. و عيناها - آه من عينيها - هما سر جمالها ، سلاحها الحاد ، و نصلها المسنون .. تشحذه وقتما تشاء ، لتشرح به قلبي و روحي ..
من زماااااااااااااااااااااااااااان و أنا أحب " قمردين " ...
و من زماااااااااااااااااااااااااان و " قمردين " - اعتقد - تميل إلي ...
و الآن فقط يتوج حبنا بالزواج ...
ألا سحقا لقلب لا يحب ...
عـــــــــــلي جانب ...
ذهبت اليوم إلي المقاول في داره ...
بعد فترة طويلة جدا من وقوفي منتظرا أمام بابه ، جاء .. شاله الحريري ملتف حول عنقه الرفيع و منسدل علي جاني جسده ، و قد علت هامته الطاقية " الشبيكة " البيضاء، و التفت قبضته علي رأس عصا سوداء لامعة .. جلسنا علي مصطبة أمام الدار .. كنت متعجلا .. و قد عزمت علي استيفاء كل ما تبقي لي عنده .. لكنه استبقاني ..
و مع غروب الشمس .. كنت أغادر المقاول .. جيوبي خاوية ، بينما هو خلفي .. واقف يبتسم ...
و ... عــــــــــــــــددت المـــــــــــــــهر ...
مرت أيام عدة .. كانت أفراحا بهيجة .. اكتست فيها الأشياء ، و الأماكن ، و البشر ، بألوان زاهية .. مفرحة .. تدفقت ينابيع الحلاوة تغمر كل شيء .. ذهبنا صباحا لشراء الشبكة .. وافقت أم " قمر " بعد جهد جهيد ، علي أن اذهب معهم .. و بعد أن وافقت أنا أن امنحها المال أولا .. راق لي منظر " خلخال " فضي أنيق .. جالت " قمردين " بمخيلتي ، و هي تترجح لابسة إياه ، لكن نظرة صارمة من عيني أم " قمر " جعلتني أحجم عن التصريح بالفكرة ، فابتلعت لساني منخرسا .. حتى عدنا مساءا .. " الغوايش " الذهبية تصدر وسواسا من معصمي " قمر " ، بينما " الكردان " المتدلي علي صدرها يعكس أنوار المساء إلي عيني ، فينفذ الضوء لداخلي ، يضيء قلبي و كأنه " كلوب " .. تزغرد روحي فرحا ، فترقص جوانحي طربا ، و يهتز شعر رأسي حبورا .. برغم أن جانبا كبيرا من مالي الذي كنت ادخره ، قد تجمد ذهبا تترصع به أطراف و أصابع و عنق " قمر "
لكني كنت منتشيا ...
عندما أعلمت صحبي - علي قلتهم - بالأمر ، كانت مفاجأة لهم .. هنأني البعض .. في دهشة ترجحت ما بين الاستكثار ، إلي عدم التصديق ، إلي الاستنكار، مال علي البعض باسمين يربتون كتفي .. و وجم البعض ، و انتحي بي بعضهم إلي جانب ، مفضين إلي بأقوال عن حسن الاختيار ، و صلاح البيت الذي يبدأ من صلاح الزوجة ، و طيب المنبت .. و أنني رجل طيب .. و ستباركني حتما عناية السماء ...
و في جلسة ودية رائقة ، ذات أمسية باسمة ، رقيقة النسيم ، عليلته ، قرأن الفاتحة .. كتبنا الكتاب .. و الأهم من ذلك أنني قد ..
عددت المهر ...
فــــــــــــــــــــــوق الرأس ...
قامت أم " قمر " بحملة مداهمة واسعة النطاق علي مواردي القليلة .. ابتعنا ( العدة ) .. بدءا من الطست النحاسي الكبير ، لزوم الاستحمام و غسل الملابس و المواعين ، و سباحة البط و الإوز صيفا ، ثم تغسيلي أنا شخصيا ، في حالة إذا ما فعلتها و غادرت الدنيا " بدري بدري " ، مرورا بالإبريق و الصبانة .. براد الشاي و أطقم الصيني ، و خمس عشرة قطعة قماش و ملابس و قمصان نوم و سراويل و فانلات و أغطية رأس ، و أرواب ، و ستائر و مفروشات ، و طاقم أشواك و سكاكين و ملاعق ، و صحن فتة عملاق ، و كيزان ماء و طاقم كاسات ، و أكواب شاي و قهوة ، و صندل ابيض لـ"قمر " ،و كسوة لإخوتها ، و شبشب و مسبحة و شال لوالدها ، و قطعة قماش رائعة و غالية " فسكوز " أصلي لوالدتها ، و طاقية ... فقط طاقية صوفية لي .. و قفص حمام و إوزتين .. و ذكرا من البط ، و أمشاط و فلايات ، و علبة " ماكياج " و زجاجة زيت شعر رديء من عند احد العطارين ...
كانت كل هذه الأشياء محملة في الطست الكبير ...
و كان الطست مستقرا فوق رأسي ...
فوق رأسي بالضبط ...


التسميات: