الأربعاء، 28 سبتمبر 2016

مطر أيلول .. قصة قصيرة جداً . محمود عودة

مطر أيلول


قصة قصيرة جداً
محمود عودة

للأديب الفلسطيني/ محمود عودة.
في زيارة عادية لصديقي وجاري الحاج إسماعيل صاحب معصرة
زيتون، تفاجأت بحشد من ملاك مزارع الزيتون، جلست
صامتا مستمعا لحديثهم بلا تعليق، أنأ موظف بسيط بالكاد راتبي
من الوظيفة يسد رمق أسرتي .
قال احدهم : الحمد لله السنة صلب الصليب بدري.
وقال آخر : نعم يا أبو حسن منذ سنين لم تمطر السماء في أيلول
وقال ثالث :
ولكن واحسرتاه المحصول هذا العام ضئيل جدا، ربما لا يوفر
حاجتي وحاجة أسرتي من الزيت والزيتون.
وكرر الآخرون كلمات متشابه لما ردده الثالث والأسى والحسرة
تعصر قلوبهم.
دخل إلى الحديث المؤثر الشيخ عبد الرحمن أخ أبو إسماعيل
وقال: يا أخوتي اخلصوا النية لله فيرزقكم من حيث لا تحتسبوا
اكفهرت الوجوه وساد الصمت بين الحاضرين تلا خلاله الشيخ

بصوت عذب بعض الآيات القرآنية.
نفحة إيمانية أصابت احدهم فقال: صدقت يا شيخ
هذا العام إن شاء الله سأهب ما زاد عن حاجتي إلى المحتاجين
وكرر الجميع نفس الحديث.
في العام التالي كان المحصول وفيرا وأمطرت السماء في أيلول
واجتمع نفس الحضور في العام السابق لأخذ دور قبل الأخر في
عصر المحصول وعلا نقاشهم لدرجة الشجار كل يريد دوره قبل
الأخر ليحصد أعلى سعر في البيع ويردد أريد تعويض خسارة
العام الفائت.

محمود عودة

التسميات:

" تقول العرب " .. المنجي بن خليفة



المنجي بن خليفة

قصة قصيرة
الأديب / المنجي حسين بنخليفة 


تونس

تقول العرب

لا أرى إلاّ أنا في حضن هذا المجهل، وحيدا إلاّ من أنفاسي تذكّرني أنني مازلت حيا، منذ إن امتطيت الصحراء طريقا، وأنا أدعو الله ألاّ تخونني سيّارتي، كان الطريق أمامي حبلا أسودا ارتمى في هذه البيداء، يتلوّى مع آكامها، يرتفع بارتفاعها، وينخفض إذا مدّت على الأرض ظلا، عرفت له بداية، ولكنّه كذيل ثعبان خرافي كلّما حدّه الأفق، غاص في الأفق من جديد بلا نهاية.
لكن يا أنا، خانك من دعوت الله ألاّ يخون، لعلّ لها في الأمر عذرا، فتحتُ صندوق سرّها، لعلّها تبوح لي بعذر توقّفها، لكنّ جهلي بمعرفة ما توارى من الأعذار أوقفني أمامها كصنم ظنّه الجهّال أنّ له في الحياة معرفة وقُدرة، ولكنّه كما قيل في غيره عرف شيئا و غابت عنه أشياء.
قلت في نفسي: ما نفع كلّ تلك الشهادات العلمية التي نلتها من مختلف الجامعات وأنا أقف الآن أمام سيارتي كبدويّ رمته خطاه في زحمة المدن، فارتبكت حركاته، وجهل مسلك عودته، فلا الحركات عرف كيف يُهدّئها، ولا المسلك أماط لثام تستره.
المكان قفر، لا طائر في السماء، ولا دابة تدلّني آثارها عن أناس كسّروا صمت المكان ووحشته، ولا سيّارة أجد عند راكبها أمل النجاة، كأنّ الطريق حُرّم على غيري، ليُرخّص لي فيه لوحدي.
وقفتُ على هضبة قريبة مني، لعلّ العين تقتنِص أثرا للحياة، فلم تر إلاّ رمال تلاطمتْ كأمواج بحر في يوم عاصف، زادتها شمس الأصيل حُمْرَة حين أرختْ عليها أشعتها قبل الرحيل، تسرّب للنفس شيء كالخوف من مجهول قادم لا أعرف له ملمحا، لعلّ الخوف من أن يكون هذا الصحصاح لي قبرا، فأكون وجبة لدواب الأرض، آه ما أقسى على الإنسان أن يكون لوحده، يصبح شيئا مهملا، وإن ظن أنّه استقوى بما ملك، فقد ضعف بما جهل. تذكرت قول الأحيمر السعدي وما أظنه صادقا:
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى *** وصـــوّت إنسان فكـــدت أطيــــــــر
وأنا كلّ ما أرجوه سماع صوت إنسان، أو رؤية هيئته ولو من بعيد.
كلّت رجلاي من طول الوقوف، والعين أتعبها الترقّب، والقلب كثرتْ هواجسه، كلّ شيء في المكان ساكن، إلاّ رداء أسودا موشّى بحمرة، يزحف فيحيل صفرة وحمرة المكان إلى سواد، سرّحتُ ناظرَيَّ، رأيت على صفحة السماء حروفا خطتها نجوم تسابقت في الضياء، هذا الصفاء، وهذا اللمعان ما اعتادت عليه العين في مدينة رانتْ الغازات، والأدخنة على سمائها بأدرانها، فحجبتْ هذا الجمال المتراقص من البريق، فالعين كبّلتها قيود البنايات، والصدر أطبقتْ عليه الروائح العطنة.
لم يكف هذا الليل عتمته، وسواده، فأنزل صرده يطرق العظام فترتعش، ولجت في السيّارة واتّخذتها مسكنا ومبيتا، حمدت الله أن معي بعض الزاد والماء، الآن صدّقتُ زوجتي حين تقول: لا تأمن الطريق، خذ معك ما يحميك، ويقوتك. 
في هذا الصمت الرهيب وجد العقل فسحة فراح يتخبّط في فوضى ذاكرته، قفزتْ صورتي وأنا طفل صغير، والمعلم يمدحني أمام أقراني: أنت أذكى من في الفصل، سيكون لك شانا، زاحمتها صورتي وأنا استلم شهادتي الجامعية وجائزة الطالب المثالي، فأراني بعد سنوات أعبر ممر كلّية الآداب، وطلبتي يتهامسون: كيف نال كلّ هذه المعرفة عن أحوال الشعراء، ولغتهم، وبيئاتهم؟؟ ازددت تيها وفخرا، فلا أرى من هو أعلم مني بلغة العرب، وأشعارها، فإذا تكلمت في أي مؤتمر ساد القاعةَ السكونُ، وما رحلتي هذه إلاّ زيارة لدولة مجاورة لحضور مؤتمر أدبي، فضلت أن أسلك هذا الطريق الصحراوي، حتى أرى الصحراء وما استبطنت من الأسرار، وإن من خلف بلور السيّارة، فقد أحطت بمسمياتها علما، وجهلت معرفتها عن قرب.
بعد طول ليلة مقطعة الأحلام والنوم، شعرت بحركة غريبة خارج السيّارة، فتحت عينيّ، فإذا برجل طويل، رثّ الملابس، أشعث شعر الرأس، واللحية، انحنى يتفرّس ما في داخل هذه السيّارة المرميّة في حضن الصحراء، ليس بعيدا عنه وقف حماره الصغير، وقد ربط على بردعته بعض الزاد، سرّحت جسدي المنكمش على الكرسي، خرجت من معتقلي، انتشيت بنسيمات الفجر النقية، والشمس قبل بزوغها ملأت المكان بنور أشعتها المطلة من خلف كثبان الرمال، سألني بكلماته القليلة عن سبب نومي في هذا المكان، شرحت له السبب، عرفت أنه راعي إبل حين رأيت أعناقها ترتفع وتنخفض تتّبع منابت الكلأ. 
تمشيت معه قليلا، سألته:
ـ هل هذا القطيع من الإبل لك؟
ـ يا سيدي، تقول العرب صرمة من الإبل لأنها أقل من أربعين رأسا.
أصابني ارتباك أمام هذا البدوي، لأني أول مرّة أسمع بهذه الكلمة، اقتربت منّا ناقة ضخمة، فحتى أخفف عني الارتباك لذي أصابني قلت له:
ـ الواضح أن هذه الناقة حبلى، وقريبا ميلادها.
أتتكلم عن امرأة أم عن الناقة؟ لأن العرب تقول: ناقة خِلفة، وإذا ولدت تقول: نتجت.
لقد أصابني هذا البدوي بجرح في كرامتي العلمية، واللغوية، وأنا من أتقن لغة العرب وعلومها، وحتى استرجع ما هدر لي من كرامة، أضمرت في نفسي أن أُرِيَ هذا البدوي مدى اتساع معرفتي في مسميات البيئة التي يسكنها، فأنا أستاذ جامعة معروف، وهو مجرّد راع يتتبع عطن عيره أينما اتجهت، جلست فوق كثيب رمل وقلت له:
ـ العرب لم تترك شيئا في الصحراء إلا وأطلقت عليه اسم يناسبه، أتعرف أن هذا النوع من الكثيب تطلق عليه العرب " العقنقل"
نظر إليّ باستغراب وقال:
ـ لا يا سيدي، تقول العرب عن هذه الرمال المجتمعة "العوكلة" أما "العقنلقل" فهو الكثيب المتداخل الرمل، فالكثيب إذا استرق رمله تقول عنه العرب "العداب" وإذا انحدر يقولون عنه "اللبب" فإذا غلظت رماله، وانقطعت يقولون عنه "الشقيقة" وإذا لانت رماله يقولون عنه "رغام" وإن صعب عن البعير السير فيه فيقولون عنه"العانك"...
حمدت الله أن رأيت سيّارة من بعيد، تظهر حينا، وتغيب في انخفاضات الطريق أحيانا، فانتفضت واقفا، فلولاها ما سكت هذا البدوي، فكلّما ذكر اسما شعرت بالصغر، والتلاشي، وكل ما تعلمته من لغة العرب محاه هذا الراعي كما تمحي رياح هذه الصحراء أيّ أثر على رمالها.
وصلت السيارة، وجدت فيها من يفضح جهلي، فالعطب كان صغيرا، وبسيطا، ولكنّه رماني في الصحراء ليلة كاملة...
وقفت على منصة المؤتمر، صفق الجميع، بسطتُ أمامي ما لديّ من وريقات، أقرأها بتأنّي العلماء، لكنّي كلّما رفعت رأسي للحضور رأيت ذلك الراعي بملابسه الرثة ينتقل بين الكراسي وهو يصرخ في: لا يا سيدي، هكذا تقول العرب...هكذا تقول العرب... تلعثمت فصاحتي، واللسان أصابه ثقل الكلام، والصرح الذي بنيته من الشهادات العلمية تشققت أحجاره، كاد ذلك الراعي يجعله ركاما.
المنجي بن خليفة 2016-09-28

التسميات:

الأحد، 25 سبتمبر 2016

بين زمن الحدث, وزمن السرد .. مصطفى بلعوام


بين زمن الحدث وزمن السرد
في القصة القصيرة: دمع الأراجيح
للأديب العراقي/عبد الكريم الساعدي
مصطفى بلعوام
الناقد المغربي/ مصطفى بلعوام


كيف أفكك تراجيديا الحياة بلغة رمادية باردة تتقد من نياح أراجيح معلقة بين الأرض والسماء وبين مطلعي يوم العيد ويوم القيامة؟ الأستاذ عبد الكريم الساعدي يقايض هنا في نصه على لغة السرد كي تقول ولا تحكي ما لا تستطيع اللغة أن تحكيه. أين هو الحدث ؟ وأين هي القصة ؟ وآية تقنية يستعملها الأستاذ في لغة القول من وراء القص؟ الحدث رماد والرماد طلسم الموت الغادر الذي حصد كل شيء في ليلة مقمرة بالامل بما فيها ابتسامات أطفال وزغاريد وطن كانت تتراقص في عيونهم. فلا قصة تقص ولا حكاية تحكى في النص. لأن الحدث صدمة والصدمة لا تفك طلاسمها بحكي أو بقَص بعد حين. وتلك هي قصة " دمع الأراجيح" التي تعتمد على تقنية سردية لا زمن لها غير زمن فجاعة الصدمة ذاتها.
١- تقنية السرد بلغة الرماد
يبدأ النص بسوْال يحتوي على غرابتين تتعلقان أولا بملفوظه اللغوي وثانيا بطبيعة علاقته بالسارد له : "- كيف أفك طلاسم لغة الرماد وأستدل عليك؟ ". السؤال يبدو كأنه استهلال لحوار ما بملفوظ لغوي ينفي عنه في ذات الوقت صفة المخاطبة لمرسل إليه. فالسارد له يسأل أو يتساءل من موقع ضمير المتكلم مستعملا ملفوظا لغويا تحمله لغة غير عادية من حيت بلاغية الكلمات التي تتضمنها في إيصال المعلومة، مما قد يوحي بأنه صادر من جوانية حوار أو على الأقل من حوار داخلي. هل هو بالفعل ملفوظ صوتي لسارد له داخل حوار داخلي ؟ وهل الاستهلال به في النص له وظيفة معينة في تقنية السرد ؟
فرضيتنا أن هذ السؤال أو التساؤل الاستهلالي يبنين النص من أوله إلى آخره ، إذ يعتمد عليه القاص في تثبيت الحدث أكثر من الاعتماد عليه في البحث له عن جواب. لنقل إنه إعادة صياغة لموجود مرعب لا جواب على ما يتضمنه من أسئلة غير النص ذاته.
"- كيف أفك طلاسم لغة الرماد وأستدل عليك ؟". إنه سوْال أو تساؤل يبدو حينيا للحدت من حيث زمنية ملفوظه اللغوي غير أن أسلوب صياغته البلاغية يخلق تشويشا على مستوى علاقة السارد له بظرفيته الزمنية. فيدفعنا إلى القول بأنه يكتب زمنين في زمن واحد :
١- الزمن الأول :
- زمن الحدث/ الصدمة : رماد الجثت.
٢- الزمن الثاني:
- زمن ما بعد الحدث/ الصدمة : فك طلاسم لغة الرماد.
يتوزع النص إذن على هذا النحو :
١- الزمن الأول :
يبدأ بزمن الحدث :
" - كيف أفك طلاسم الرماد وأستدل عليك؟
أعزف لحن الدعاء صامتا، مرعوبا حد الثمالة، أسير بخطى حثيثة نحو الموت، نحو الفجيعة، أحرم لمناسك العويل في حضرة الجحيم ورائحة شواء أشلاء الموتى ، في جثت مفحمة، بلا ملامح، وأخرى متشابهة، تشكلت من لحم متناثر، فكان لها طعم واحد، طعم الموت لا غيره.
- أيهم أنت ياولدي ؟ من يدلني عليك ؟ ".
زمن الحدث هنا هو مشهدية الفجيعة/الصدمة بلغة إنزياحية متاخمة للشعري وللإنشائي حيث الكلمات تبدو مبنية على إيقاع وصور موسيقية: أعزف/لحن، دعاء / صمت ، الثمالة / طعم الموت، شواء / أشلاء، فجيعة / جحيم. من أين تجد شرعيتها في ملامسة حدث تراجيدي ؟ ولماذا اختارها الأستاذ عبد الكريم الساعدي ، سواء أكان ذلك هو أسلوبه في كتابة القصة أم لا ؟ الجواب نجده في النص ذاته حيث السارد له يقول : " مرعوبا حد الثمالة ".
إنه أمام رعب/ صدمة، له مخرجان لا ثالت لهما : حالة توحد أو حالة جنون . الرعب هنا تدمير مباشر لقدرات العقل على تصوره : رائحة شواء / أشلاء الموتى/ جثت مفحمة / لحم متناثر.. لكنه عِوَض أن يتحول إلى حالة توحد أو شيء آخر ويشتغل في الصمت ينقلب إلى ضدّه فيتحول إلى ثمالة تسكر العقل ولغته. إن لغة الأستاذ عبد الكريم الساعدي في القصة هي لغة ما بعد الحدث، لغة جنون كوسيلة وحيدة لفك طلاسم لغة الرماد القابضة على الروح. الرعب لا لغة محايثة له، إنه شحنة تقوض اللغة والفكر وما يأتي بعده ليس إلا محاولة بائسة لتفريغه في لغة ثانية وزمن ثاني له.
٢- الزمن الثاني :
وهو زمن استرجاعي يحاول إعادة حيثيات ما قبل الحدث وسياقه " في تلك الليلة الغاصة بالمسرات الباذخة بالطيب والصفاء، كانت الأضواء تتراقص في حلة من الألوان البراقة، ممزوجة بفرح الطفولة.(..) الأطفال تحدق في مرايا الأراجيح ، تلوح لهم بذراع من سرور عند طرف الزقاق، مصفوفة بين جذوع النخيل واحدة قرب الأخرى، يغرد الأمل على حبال وصلها كبلبل فتان :
- بابا، متى تأخذني لتلك الأراجيح ؟
- عند مطلع العيد.. سنكون هناك ."
الزمن الاستراجعي يحاول التمسك ببهجة ما قبل الحدث في لغة حالمة ليضعها في علاقة تباينية مع هول الحدث ولغته الرمادية ، وينتهي بحوار غريب في موقعته داخله، بدون مقدمة أو إشارة . يسقط هكذا كما سقط الحدث:
"- بابا ، متى تأخذني لتلك الأراجيح ؟
- عند مطلع العيد .. سنكون هناك . "
هو حوار يتيم في النص يؤجج مفعولات الصدمة التي تجد نفسها على شقين : شق صدمة الحدث وشق صدمة ما بعد الحدث الذي يسترجع ما قبله. الحدث ذاته كان رعبا وما يزيد من حدة الصدمة هو فظاعة الأشياء الجميلة التي لن تعود أبدا وفي نفس الوقت نسترجعها كأنها لم تغب أو تمت أبدا : فرح الطفولة. إنها طريقة أخرى في كتابة القصة التي لا تعتمد على منطق الزمن الكرونولوجي أو الموضوعي بل على زمن الحدث وما قبله وما بعده كعناصر متداخلة فيما بينها تعطينا نصا سريالي الزمن في فجيعته. وهذا ما سيتأكد في بقية السرد إلى حدود :
-" أيهم أنت، ياولدي ؟، هذا..لا، هذا، بل هذا..من يدلني عليه.
يهزه صوت خفي :
- للجثت المتفحمة رائحة واحدة، لا يعرفها إلا الأمهات . "
من هنا يتحول السرد والسارد له في علاقتهما بالحدث وينفتح على صوت آخر غريب الصياغة : " يهزه صوت خفي". صوت لا نعرف ضميره ولا نعرف علاقته بضمير المخاطب، إنه صوت الفاجعة الذي يحيل إلى الأمهات ، إلى الآخر ، إلى تراجيديا حياة مجتمع ، إلى أحلام تسرق من عيون الأطفال وإلى الأراجيح اليتيمة التي تنشد النواح حتى مطلع القيامة.
وهو الصوت ذاته الذي يعطي للنص قيمته من حيث لغة القص التي لا زمن لها غير زمن الكتابة؛ كتابة تتأرجح في تحايل تقني بين الزمن الأول والزمن الثاني ، نفقد معها بوصلتها السردية..
مصطفى بلعوام

نص القصة 
دمع الأراجيح

عبد الكريم الساعدي
- كيف أفكّ طلاسم لغة الرماد وأستدلُّ عليك؟.
أعزف لحن الدعاء صامتاً، مرعوباً حدّ الثمالة، أسير بخطى حثيثة نحو الموت، نحو الفجيعة، أحرم لمناسك العويل في حضرة الجحيم ورائحة شواء أشلاء الموتى، في حضرة جثث متفحّمة، بلا ملامح، وأخرى متشابهة، تشكّلت من لحم متناثر؛ فكان لها طعم واحد، طعم الموت لا غيره:
- أيُّهم أنت، يا ولدي؟، من يدلّني عليك. 
في تلك الليلة الغاصة بالمسرات، الباذخة بالطيب والصفاء، كانت الأضواء تتراقص في حلّة من الألوان البرّاقة، ممزوجة بفرح الطفولة، محفوفة بنجوم حالمة، وصبايا مجدولات بالغنج، الأشياء تنساب في فرح، الناس تمتطي أهازيج العيد، ثملة بالأماني، الأطفال تحدّق في مرايا الأراجيح، تلوّح لهم بذراع من سرور عند طرف الزقاق، مصفوفة بين جذوع النخيل، واحدة قرب الأخرى، يغرد الأمل على حبال وصلها كبلبل فتّان:
- بابا، متى تأخذني لتلك الأراجيح؟
- عند مطلع العيد، سنكون هناك.
أمرر أصابعي على وجه الكون، أتذكر وجهك، عينيك المفعمتين بالنور، يا لهما من عينين! حينَ تبسمان في وجه المساء، تزهر الأقمار في السماء، وتضيء كنجمة بعيدة في ليالينا الموحشة؛ فجأة يغيب مشهد بهجتنا على أعتاب صوت الناعي؛ فنصحو على عزف جنائزي مترع بالوحشية، يخفق قلبي لمطلع تلك الليلة، لم يكن فجراً، كان فجيعة معتّقة بالجحيم، منذراً بقيامة جديدة؛ تكشف لنا عتمتها، وغزل حاكته عناكب حمالة الحطب، ليلة مزيّنة بالخداع، تحتطب عريها، تضرم النار في وجه الجمال، تشوّه معالم البراءة والنقاء؛ يبدو هذا الليل مخادعاً، يتحايل علينا، كي يوسمنا بالحزن الأبدي؛ يحاصرني الذهول من كلّ صوب، يرتديني الجنون معطفاً بالياً، يريق دماءنا على دكّة التكبير؛ لماذا نموت، وتسرق الأحلام من عيون أطفالنا؟
- أيُّهم أنت، يا ولدي؟، هذا.. لا، هذا، بل هذا...من يدلّني عليه.
يهزّه صوت خفي:
- للجثث المتفحّمة رائحة واحدة، لا يعرفها إلّا الأمهات.

الأمهات يفترشن عباءة الذهول، يتوضّأنَ ببقايا رماد، يرهفن السمع لصدى صرخة مشروخة، ترددها حيطان متّشحة بالسخام، لأنين طويل، لزفرة قتيل، ينزل بوح خفي من نافذة السماء، النسوة يحدّقن في الجثث المتفحّمة دون أن يطرف لهن رمش، يأخذن قبضة من أديم الرفات، تخفق القلوب، تشهق برائحة القماط وعبق الكركرات، الأمهات يحتمين بصوت المسحراتي، يتدثّرن بالسواد؛ فتراني مجنوناً يلوك شفاه الخيبة، أغرق في بحر الغياب، أحمل ما تبقّى من روحي المتفحّمة، أركض حافياً في الشوارع، أتشكّل طقساً ملتاعاً بكامل الفجيعة؛ فتتوارى الضحكات، التهاني، الحلوى، الدمى، الملابس الجديدة، العيديات، خلف ظلال موتٍ شاخصٍ على رصيف العيد، بينما الأراجيح وحدها ظلّت باكية، تهرق دمعها، تنشد النواح حتى مطلع القيامة.
عبد الكريم الساعدي



التسميات:

السبت، 24 سبتمبر 2016

أرجوحة رجل ميت.. عادل المعموري

عادل المعموري





أرجـــوحة رجـــل ميّت 


 قصة قصيرة 

للأديب العراقي/ عادل المعموري








يأتي إليّ في المنام مبتسما، بابتسامته المعهودة المرتسمة فوق شفتيه الجميلتين وشاربه الصغيرين، يحتضنني ويشمني، أضلاعي أخالها تتهشم تحت ضغط ذراعيه، يقضي وقتا طويلا في معانقتي ثم لم يلبث ان يمسح دموعه بكمه، يركبني في الأرجوحة ويدفعني إلى الأمام ثم يقول: 
_لاتنسي يابنيتي أن تعتني بأمكِ المريضة، يقولها ويتأهب إلى الرحيل، كعادتي أهبطُ من الأرجوحة وأركض وراءه باكية، يمسح على رأسي بكفه الحانية وهو يقول لي وسط دموعه المنهمرة على وجنتيه
_ واظبي على دراستك وكوني مجتهدة كأبيك، هيا عودي الى مكانك ياحبيبتي، وداعا، يلّوح لي بيده، ويختفي عني .
***************************
أخوالي وأعمامي وأمي كانوا في أشد حالات الحزن والحيرة ،باعوا كل شيء ثمين في دارنا، كلما جمعوا مبلغا من المال جلسوا يعدونه دينارا دينارا، وفي كل مرة لا يكتمل المبلغ المطلوب، ينبشون في ذاكرتهم المتعبة والمشوشة عن تذكر حاجة ما يبيعونها كي يكتمل المبلغ، أكثرهم غضبا عمي الكبير هو الذي يجمع المال وهو الذي يعده ،نظرَ إليهم آخر مرة وهو يقلب شفتيه امتعاضا: 
_ألف دولار فقط ويكتمل المطلوب ..مبلغ الفدية مرهق ويصعب جمعه، ،اشترطَ عليهم الخاطفون إثنان وثلاثون ألف دولارا كي يسلّمون لهم أبي سالما، فقد اختفت السيارة الفاخرة من حديقة المرآب والسجاد الايراني الثمين والمصوغات الذهبية العائدة لأمي، حتى خلا البيت من كل شيء ثمين .
************************** 
تلك الليلة قرر أبي أن يعمل أرجوحة بناء على طلبي بدلا من الأرجوحة القديمة التي تحطمت، استدعى فيها الحدّاد الى البيت وجهّز له مايلزم، طلب من الحدّاد أن يعمل أرجوحتين في عامود واحد واحدة لي وواحدة له، ،عندما سالته بعد رحيل الحدّاد قال لي :
_مقعدان أفضل حتى نتأرجح سوية، الا يسركِ هذا؟ تبسمت من قوله ووجدتها فكرة تروق له لأنه يتكاسل بدفعي ككل مرة، سيكون الوضع مختلفا هذه المرة، سيحرك قدميه ويدفع جسمه ويسحبني معه، فعلا كانت الفكرة جميلة ومريحة بالنسبة له، يسحبني معه عندما تعلو أرجوحته ليمسك بحبل أرجوحتي، أشعرُ حينها اني أطير في الفضاء، تتملكني نشوة وفرح عاليين عندما تتطاير خصلات شعري في الهواء المنعش.
*********************
عندما ذهبتْ أمي لتستلم أبي في المكان والزمان الذي قرّره الخاطفون، حسب الاتفاق المبدئي بين أعمامي وأخوالي، كانت امي تحمل المبلغ في حقيبة سوداء تضعها تحت عباءتها، وهي تمني النفس أن ترى أبي بعد تلك الأيام التي افتقدناه فيها ..سلّمت المبلغ لاحدهم ركب سيارته وأشار لها إلى مكان ما قريب من موقع اللقاء، عندماوصلت امي وهي تبحث عنه في الأرجاء، عثرت على جثة مرمية قرب مكب النفايات، .صرخت أمي وهي تلطم على وجهها وسقطت مغشيا عليها ..أصيبت أمي بعدها بجلطة دماغية أقعدتها عن التدريس ومزاولة أعمال المنزل .
***************************
كان أبي على غير عادته يدخل البيت وعلائم حزن ترتسم فوق ملامحه، كنتُ أظن في البداية أنه حالة ستزول عنه عاجلا أ م أجلا، ولم أشا أن أسأله ..سألتهُ أمي عن سبب غضبه وحزنه ..لايحر جوابا، يترك المكان ويخرج إلى ناصية الشارع، حتى سمعته في تلك الليلة التي سبقت خطفه، يقول لأحدهم وهو ينزوي في ركن الحديقة القصي الحديقة، كان يتكلم وعيناه تبحثان عني خشية أن أسمع مايدور بينه وبين المتحدث: 
__اسمع لآخر مرة أقولها لك، لن أخشى غير الله، المستندات المخزنية لن أغيّرها وسأطلعُ لجنة الجرد على كل شيء، حرامية، سرّاق دمّرتم البلد .
*****************************
تلك أرجوحتكَ يا أبي فارغة، منذ تركتنا، هاهي أرجوحتي تنتظر يديك الحانيتين كي تهزهما، لم أصدق أنك مت، لقد أقسمت لي انك لن تفارقني، تركتني صغيرة والآن أنا في الاعدادية، تلك أمي المريضة طريحة الفراش تنظر بعينيها الذا بلتين صوب الباب المفتوح تنتظر مجيئك، مازالت تقسم أن الجثة التي رأتها لم تكن جثتك وأنها تنتظر عودتك سالما، كل يوم تقول لي بفمها المجرور: سيعود و سيملأ علينا البيت فرحا وسرورا. تعال يا أبي واقرأ خطوط الوجع في وجهي، في تجاعيد عين أمي، سطوري التي أكتبها إليك موبوءة بالضباب ووجهك الساكن خلفها، يتلاشى، لا شيء سوى خيوط من حضور أريدها أن تقطّب جروحي، كم مشتاقة لمناداتك باسمي أحنُ إلى كركراتك البريئة، لقد كبرتُ يا أبي ولا تزال آخر قبلة طرية تنمو في جبيني، ماذا أفعل لذراعيّ وهما يطوقانك رغما عني، فأصحو من غفلتي لا أجدُ سوى الفراغ، وأن ذراعيّ كانتا تتشبثان عبثاً بحديد الأرجوحة الفارغة، سأكتب في مذكراتي كل شيء عنك، كل صغيرة وكبيرة.
سأكتب عنوانا كبيرا (أحبك يا أبي ) حملتُ دفتر مذكراتي وهبطتُ من الأرجوحة، دخلتُ غرفة نومي، ما أن وضعتُ رأسي على المخدّة، حتى رنّ هاتفي النقال، الرقم غريب، رقم دولي، ليس عندي أحد في الخارج من هذا الذي يتصل بي بعد منتصف الليل بساعتين ؟!.ترددتُ قليلا ثم ضغطت على العلامة الخضراء، جاءني الصوت هادرا، صوت ليس غريبا عني، صوت سمعته من قبل كثيرا.
_ألوووو،ابنتي ميس، أنا جميل أبوك، أنا الآن اتصلُ بك من السويد، عم من السويد، لا تستغربي، أرجوك اهدأي،لا أريدكِ أن تبكين.
_لا لا أصدّقُ ابدا!
_اسمعيني بنيتي، أنا الآن في السويد أعمل تاجرا كبيرا، متزوج من امرأة سويدية ولي منها ثلاثة أولاد
_آه يا أبي كم نحن مشتاقون إليك.
_أنا كثير الشوق لكم، ولكنني لا أستطيع زيارتكم، أتعرفين لماذا ؟
_...........!
_لأنني مطلوب للقضاء العراقي في صفقة مالية كبيرة، آسف أنني جعلتكم تبيعون كل شيء ثمين في البيت أقسم أني سأعوضكم كل ماخسرتموه .
_أصدقني القول يا أبي، هل كانت عملية خطفك من قبل الارهابيين؟ 
_نعم لعبة، لعبة كي أُموّهُ على الحكومة، .في سجلات القضية أني متُ مقتولا، أنا في بحبوحة من العيش يتمناها كل عراقي،
_للأسف يا أبي، أنت الآن ميت فعلا، تيقنتُ الآن بالذات أنني يتيمة، ابقَ كما أنت، نحنُ لسنا بحاجة إليك بعد اليوم، سأبقى في وطني مع أمي، سأعتبر أنك لم تتصل بي، أرجوك امسح رقم تلفوني. 
_هذا ياوطن ؟ابنتي، الوطن هنا، السعادة والفرح هنا، الحياة الرغيدة هنا، لم أعد اسمع ماقال بعد تلك الكلمات فقد أغلقتُ الهاتف، وبكيتُ بحرقة ،بدموع غزيرة، حملتُ المعول المركون على سياج الحديقة، وطفقتُ أحطّمُ الأرجوحة، كنت أضربها بكل قوتي حتى تقطّعت سلاسلها، أخذني اللهاث والتعب وتصبب العرق من جبيني، انتابتني نوبة جنونية هزّت كياني المرتجف، حتى أتيتُ على آخرها،.ثم ارتميتُ على الأرض، أنظرُ بعينين محتقنتين نحو حلقات الأرجوحة الحديدية التي تبعثرت هنا وهناك،


التسميات:

براعة الحشد في نص : الفأس " مهدية أماني


براعة الحشد فى نص
الفأس
مهدية أماني

للأديبة المغربية / مهدية أمانى



الناقد/ محسن الطوخي
مصر 







النتح من معين الطفولة والصبا يشكل زاداً لا ينضب للأديب الواعى, خاصة إذا وهب ذلك الأديب بيئة خصبة تمتاز بطبيعة لها خصوصيتها وثرائها وتنوعها السكانى, بالإضافة الى خلفيتها التاريخية, وقد حظيت الأديبة مهدية بذلك الاستثناء الذى يغبطها عليه كل صاحب قلم, وهى بوعيها وثقافتها التى تشى بها أعمالها القصصية, وقدرتها الفائقة على امتلاك ناصية السرد نجحت فى أن تدخل القارىء عالمها السحرى الفاتن .
تملك مهدية عيناً لاقطة, وذاكرة حية, وقدرة على مزج عناصر البيئة فى كيان يشكل تجربة انسانية فريدة متكاملة تمنح المتلقى المتعة المرتجاة من القراءة,
التحام الكاتبة مع الأحداث, وسبكها الماهر لعناصر التوليفة التى تشكل الحبكة, واهتمامها بالتفاصيل, ودقتها فى وصف المشاعر وتصوير الحركة والتماهى مع شخصياتها, منح النص من الحيوية ما يدفع القارىء إلى معاودة القراءة سعياً وراء المزيد من المتعة, وثراء حكاياتها لا يخيب أبداً رجاء القارىء, ففى كل قراءة متعة إضافية .
تقص الراوية الصغيرة بضمير المتكلم أحداث أمسية واحدة منذ انتزعها نداء أمها فى الظهيرة من لهوها مع الأتراب, إلى عودتها الصاخبة مع أبيها بعد هبوط مساء نفس اليوم, والمتأمل فى كم الأحداث والتفاصيل التى استطاعت الكاتبة حشدها فى نص لا يزيد عن الألف كلمة إلا قليلا  يدرك مدى براعتها فى التكثيف والاختزال, اذ لا يمكن حذف أى جملة أو مقطع من النص دون أن يختل بنيانه, اللهم إلا المقاطع التى مالت فيها إلى التسجيل, كوصف اللعبة الصبيانية, أو فى معرض الكلام عن أهمية الفأس, أو فى شرح التاريخ المحلى لطائفة اليهود ( يؤثر النص الأدبى ويتأثر بالسياق الاجتماعى, وقد يتحول إلى وعاء يتضمن تفاصيل حياة البشر , أو وثيقة تسجيلية, عندما يتضمن أحداثاً وتفاصيل مأخوذة من الواقع بإشارات زمنية ومكانية بشرط أن يحتوى قيما انسانية تكشف متناقضات هذا الواقع ) .. الكلام بين القوسين للناقد عبد الرحمن أبو عوف, والمهارة التى مكنت الكاتبة من سبك تلك المقاطع وتضفيرها فى سياق السرد عكست تميز المكان بعبقه التاريخى وتنوعه السكانى وجعل من تلك المقاطع التسجيلية عناصر أساسية تجلو عمق التجربة فى وجدان الراوية .
كما برعت مهدية فى تهيئة حواس المتلقى مجتمعة لاستقبال النص, فهى تحشد السرد بالأصوات والروائح والصور, إذ تبدأ القصة بصرخة الأم الملهوفة منادية ابنتها, وتختمها بصوت الأب الرخيم يرتل آيات القرآن, وتنثر فى نصها روائح الخبز المطهى, والعجين المختمر, وروث البهائم المجفف المعد للحرق, ورائحة اللوسيفيرين الكريهة, وحتى بيوت اليهود النتنة, وتشارك حاسة البصر فى تخيل وميض اليراعات والحباحب المضيئة, وحاسة الذوق بطعم حبات اللوز تلتقطها الصبية من الطريق من بقايا جمع المحصول, وحتى لسعات النحل يستدعيها خيال القارىء إذ تكوم الصبية كومها بالقرب من قفير النحل. اشتراك الحواس فى استقبال العمل الأدبى يجعل التفاعل مع النص فى أعلى درجاته, ويضاعف من متعة التلقى, أما عن مظاهر نجاح الحبكة فى القصة فمتعددة , يأتى على رأسها تسلسل الأحداث ومنطقيتها, وتصاعدها فى اتجاه الحدث الرئيسى المتعلق بالفأس محور التجربة القصصية, والعمود الذى تستند اليه كل خيوط الحكى, فالفأس هى محرك الأحداث , فهى مبعث الصرخة التى أنهت متعة الصبية باللعبة التى كانت على وشك أن تتوج فيها بأكليل الزهور , وتستمتع بامتطاء ظهور أترابها . وافتقاد الفأس هو ماأزعج الزوجة, وكشف عن سريرتها وارتيابها فى زوجها الفقيه والجندى السابق فى الجيش الفرنسى الذى لم تكفه فى ظنها مغامراته مع الصينيات والألمانيات, ويواصل الآن العبث مع اليهوديات, كما أن استعادة الفأس قبل أن يبيعها الأب هو ما دفع الصبية إلى أن تهرول مصطحبة القارىء فى تلك الرحلة الداخلية فى الذات والمكان, فعلى مستوى المكان صورت تفاصيل حياة السكان, وأساليب تعاملهم وعلاقاتهم التى يسودها الكثير من الشكوك المتبادلة, وعلى مستوى الذات عكست لنا ما وقر فى نفوس السكان المحليين من هواجس وريب بشأن جيرانهم اليهود, والفأس أيضا تقدم الخاتمة الدرامية عندما يغرسها الأب فى قدم "موشى" اليهودى الذى حاول مباغتته فى طريق عودته إلى داره, ولربما كانت الفأس ذاتها هى الدافع لموشى لمهاجمة جاره بهدف الاستيلاء عليها, يرجح ذلك ما أوضحه السياق من أهمية وقيمة الفأس فى المجتمع الريفى الذى تدور فيه الأحداث .
والبناء النفسى للشخصيات باعتباره أحد أهم أركان الحبكة, يشى أيضا ببراعة الكاتبة وإحكام قبضتها على عناصر نصها, وحرفيتها فى تقمص الشخصيات, فالصبية وهى تبادر إلى القيام بالواجب الذى كلفتها به الأم, لا تكف عن اللعب واللهو فى أثناء الطريق, فهى تعدو وتتقافز كمعزة, وتقذف أشجار اللوز بالحصى, وتلتقط سمكة مقلية من طبق امرأة اسحق, وفى طريق العودة ليلاً لا تكف عن التقافز حول الأب, ومطاردة والتقاط الحباحب واليراعات المضيئة, وهى كالصبايا فى ذلك العمر الغض شغوفة بتحرى الحقائق و طرح الأسئلة, ثم هى تنبرى للدفاع عن الأب وحسن الظن به فى مواجهة غضبة الأم فتقول لامها : " لكن أمي، أبي فقيه ولا يقامر..", حتى وهى تراه وسط حلقة القمار فى قبو اسحق وسط حلقة القمار بكل تفاصيلها تتمادى فى حسن الظن به, فهو من ناحية بطلها الفقيه الذى حارب مع الفرنسيس, ومن ناحية أخرى تتفق مشاعرها نحو أبيها بنظريات التحليل النفسى التى تعزى تعلق الفتيات بآبائهن الى عوامل نفسية قد نتفق أو نختلف مع بعض عناصرها .
نلاحظ أيضا اتساق البناء النفسى لكل من شخصيتى الأم والأب, فالأم المهتاجة لاحتمال فقد الفأس, لا تملك السيطرة على لسانها أمام الصبية, فتكيل الاتهامات للأب الذى يقضى أغلب يومه بين اليهوديات اللائى تنعتهن بأحط الصفات  حد اعتقادها بأنهن يستولدن بناتهن من العرب بغية تحسين النسل, ثم هى فى سبيل استعادة الفأس لا تتردد فى إرسال الصبية إلى تلك المهمة المحفوفة بالمخاطر, حيث تقطع طريقا غير مأهولة .
أما الأب فالصورة غير المباشرة التى ينقلها النص الى القارىء من خلال عينى وذهن الصبية تشى بأن ارتياب الزوجة فى محله, فرغم أن القارىء لا يراه بشكل مباشر وهو يمارس نشاطاً من الأنشطة المريبة, إلا أن الصورة التى نقلتها الصبية تضعه فى موضع الشبهات, وهو بحكم تسلطه العنصرى كعربى فى محيط من الأقلية اليهودية الذليلة ( أنظر مشهد الصبية وهى تلتقط السمكة المقلية واثقة أنهم من خوفهم لا يجرؤون على الرفض أو الاحتجاج ) , هذا الأب القوى ذو المكانة يتصرف مع الإبنة برباطة جأش وهى تراه فى موضع ريبة, ويواجه الخطر فى طريق العودة بصلابة واحتراف, ثم هو بصلف الواثق من نفسه حد الغطرسة لا يسترد الفأس, بل يترك موشى مثبتاً بها فى الأرض ويمضى بعد أن يلقى بوعيده : غداً ..أريد أن أجد هذه الفأس مشحوذة كسكينة وإلا....
وبعد , تجدر الإشارة إلى طلاقة السرد, ومهارة الانتقالات بين مقاطع القصة, واللغة الفصيحة التى تكاد لبراعتها تقترب من لغة التعامل اليومية, والقدرة العالية على تصوير الحركة

محسن الطوخي



نص القصة

الفأس


مهديايايايايا ... أعرف هذا النداء، أعلم ما وراءه، وماذا يعني لما يصير صوت أمي بهذه الحدة، جاءني وأنا في خضم معركة لعبة الجُودي جُودي عَايْ عَايْ , لم أع أبداً فحواها، ولا من أين جاءت، ولا من اخترعها، لكنها بسيطة ومغرية ومسلية وتستغرق وقتا طويلا، نأخذ التراب الرقيق الذي سبق ومررناه في غربال ونكوم أكواما صغاراً في أمكنة نتحرّى ألا يكتشفها المشاركون في اللعبة، وفي الأخير لما يدق ناقوس النهاية، نقوم كل بِعدّ كُويماته التي لم تُهَد أو تمسح أو تُعرّى، ومن تَوفر لديه منها عدد مرتفع يتوج فائزا بإكليل من زهر اللوز ربيعا، أو غيره في باقي الفصول ويتمنى أمنية تنفذ فورا ..كنت وشيكَة الفوز على أبناء عمومتي وأحظى بركبة جميلة على ظهورهم واللف بهم كيفما وأينما شئت وأتباهى.
مهديايايايايا ..........
النداء يتكرر ويشق الفضاء، يفسد متعتي ويقوض ما عملت جاهدة للحصول عليه، حتى قفير النحل الذي لا يقربه أحد دون أن يتحول وجهه إلى بالون وضعت فيه كويماتي، تركت على مضض أقراني يكملون وجريت حيث أمي عند الفرن، تدور حول نفسها وتدمدم:
-
أين الفأس .. أين الفأس .. لقد أخذها وتركنا نستعير ..
-
أمي ماذا جرى أفزعتني ؟
-
أبوك يا فالحة أخذ الفأس .
في ذلك الوقت من يحتكم على فأس من حديد صلب فكأنما ملك كل شيء، أمي رَامتْ قصْل الحطب لطهي الخبز فلم تجده، وبقي العجين يختمر حتى فاض، أردت أن أنبهها لروث البهائم الذي جف وصار جاهزا للحرق، لكني خفت أن أتلقى أحد أقراصه على سحنتي، فغيظها بدا لي حينها كاف لطهي الخبز حتى النضج, فما باله إن صب علي، استمرت في اهتياجها.
-
ألم تكفيه الهند -الصينية التي ترك لها إبناً, والألمانية التي تخلى عنها باثنين، لم يتبق له إلا اليهوديات ؟
لم أستوعب شيئاً مما تقوله، فأبي كتوم ولا يحب أن يتكلم عن مآسيه كما يدعو الفترة التى قضاها جنديا مع الفرنسيس, تنتابه نوبات من الهلع كلما تطرق أحد ما إليها, سكتت وانتظرت المصيبة التي لا تسقط إلا على دماغي أنا دون إخوتي
- "
شوفي" ..بنفس واحد، قالت : ستذهبين إلى "الملاح" وتعودي بالفاس قبل أن يقامر به ويصرف ثمنه على إحدى النتنات هناك.
-
لكن أمي، أبي فقيه ولا يقامر..
-
لا لكن ولا لعل .. إنصرفــي من أمامي قبل أن, ومدت يدها إلى جديلتي الكستنائية التي تصل ركبتي تجذبها, اتجهت صوب المكان وأنا أغنغن وعلى حافة البكاء، لكن بعد برهة قصيرة نسيت، وصرت أعدو وأقفز كمعزة، أقطف الأزهار وأصنع منها إكليلا حرمتني منه وأنقّب في الأرض عن حبات اللوز المتبقية من جني الصيف أو أرميها بحجارة لأسقط ما يزال منها عالقا بالأغصان،أكسرها واستمتع بمذاقها اللذيذ.
وصلت، التقيت شلومــو صُحْبَـــةَ كلبــه لــودو, سألته عن أبي، أشار إلى منزل من منازلهم العفنة أعرف أن بها قبوا تعصر به خمرتهم المسماة ماء الحياة من ثمرة التين المعسل, وكانوا لا سامحهم الله ممن ساهموا في إدمان الكثيرين على الخمر في بلادنا، يقدمونها كهدايا مجاناً، ثم بعد التعود والإدمان يبيعونها لهم بما شاؤوا، دخلت إلى المنزل، ألفيتُ طامو امراة إسحاق تقلي سمكا أخذت واحدة من الطبق دون استئذان، فمن خوفهم لا يجرؤون على الرفض أو الاحتجاح، هبطت إلى القبو إياه وجدت هناك يهودا ومسلمين ومعهم أبي ، متحلقين حول أحدهم يرمي عصيات صغيرة لا أدري ما هي ولا ما قواعد اللعبة، وأيضا ورق باسطوس، كما استرعى انتباهي بعض القروش متراكمة أمام إسحاق وداوود، رآني أبي فنهض وقد احمر وجهه الأبيض الناصع ، مرر أصابعه في كثافة شعره مرتبكا وسألني ما الذي جاء بي، أجبت أن أمي تريد الفأس، أخرجها من جراب وقال:
-
ها هي، و إن أعطيتكيها فبماذا سنحفر مصرف الحمام ؟
نادى أبي على من كانوا معه وتوجهوا وأنا أتبعهم إلى حيث العمل، لم أعرف أبداً
إن كان سيقامر، لكنني متأكدة من استقامته وظلم الوالدة له وغيرتها وخوفها عليه، فالكثيرون أدمنوا الخمرة والقمار وتهدمت حياتهم وتشثتت عائلاتهم.
وأنا أنتظر أن يكملوا العمل وأعود بالفأس قبل أن تُجنّ أمي، جاء شلومو وآخرون استفسرته عن خوفو، كنا ندعوه هكذا من كثرة خوفه وفزعه من كل شيء حتى من خيط إن أريناه إياه، غمغم:
-
 لقد ذهب عند عمي إلى الدار البيضاء و سكت ولم يجب عن أي سؤال آخر حول هذا الاختفاء المريب، ولو كان معي الصبيان الآخرون، لأخرجوا له الدود من مناخيره كما يقولون عندما يضغطون على أحدهم ليبوح بشيء يريدون معرفة مكانه أو فضحه.
في القرى عندنا يمتهن اليهود أعمالاً كالعطارة والنجارة والحدادة، وأقلهم شأناً يشتغلون في حفر المراحيض وتنظيفها، وقلة منهم صاغة، يبيعون الذهب المستعمل ويشترونه أو يستودعونه كرهينة حتى يسدّد الدين، أحقر شيء يمكن أن يقع هو الاستدانة من يهودي، ولا أحد يبوح بهذا السر المقيت, وفي المدن الكبرى كلهم صاغة كبار وأشياء أخرى، على مستوى آخر أكبر ومخطط مضبوط، فهم من يستقطبون شبان البوادي ويبعثونهم إلى فلسطين ليعملوا في المزارع الجماعية والعمل العبري الكيبوتز، إن كانوا كخوفو قليلي النباهة، عظيمي الجثث، والنبهاء منهم إلى بريطانيا وأمريكا لتلقي تعليم عال يؤهلهم لتولي المهام بإسرائيل والمصارف والبورصات، فتستدين منهم الحكومات والبلدان الفقيرة رغما وبدون خجل فيحكمون الرّبقة بذلك حول أعناقهم، فما إن يشب أحدهم أو إحداهن ويشتد العود حتى يختفون عن أعيننا ،ولا تفضل إلا السحنات الكهلة أو الهرمة التي ألفناها وبعض الشابات البدينات القبيحات، أتت ابنة طامو تحمل رضيعاً على ذراعها، جميل، أشقر بعيون خضر، دعينا لختانه فرفضت أمي، من جُبلتهم إعذار أولادهم في اليوم السابع من حياتهم، حزنت لذلك ورجوتها بحرارة أن تتركنى أحضر حفلتهم وآكل الرقاق والسخينة، وأتعرف على عوائدهم في الأعراس والأفراح، تمسكت برفضها قائلة أنها لن تذهب لختان إبن حرام، وإنهم يستولدون بناتهم منهم كي لا ينقطع نسلهم، يهجن عرقهم، أويندثر أصلهم، وأن التيمود -هكذا لفظتها - يحثهم على فعل ذلك، عرفت من أبي بعدها أن التيمود هو التلمود - لم أفهم كما العادة ما تُبهمه أمي ،لكن أحسست من تأففها وبصقها على الأرض أن الأمر جلل.
استمر العمل على مصرف الحمام أكثر من الوقت المحدد،الصخر اعترض المعاول والفؤوس وتأخرنا في العودة، جن الليل وادْلهمّ وانعدمت الرؤية إلا من وميض بعض اليراعات والحباحب المضيئة، أتتبعها والتقطها في كفي فرحة ،لكن رائحة اللّوسفيرين الكريهة التي تنبعث منها صرفتني عنها ، انطلق صوت أبي الشجي يرتل القرآن ترتيلا ويبدد وحشة طوقتنا، وأنا أتقافز حوله وأردد وراءه السور ، وفجأة سكت،ضمني إليه وهمس :
-
أحد ما يتعقبنا, إصعدي على الشجرة ولا تحدثي حركة، أحسست أنني في أمان ولم يرتجف لي رمش عين، أبي استعاد قدرة قتالية تعلمها في أدغال الهند-الصينية، عض على طرف جلابته بأسنانه وانتظر، انقض عليه الشخص من حيث لا أدري ، فورق الشجرة غطى رؤيتي وسمعت صرخة ليست له، ثم.. الله أكبر فتح ونصر وخذل من كفر، تدحرجت من الشجرة أكثر مما نزلت، لأجد الفأس وقد سمرت موشي من قدمه في الأرض، في حين ابتلع الليل أشباحا أخرى، وقبل أن يغمى عليه عالجه أبي بصفعتين رددتهما التلال وقال:
-
غدا ..أريد أن أجد هذه الفأس مشحوذة كسكينة وإلا....
بعدها ، لاحظت أننا نعيش في بُحبوحة من العيش وهناءةٍ لم نعْتدْهُما .
مهدية أماني



التسميات:

رحلة في عقل سليمان جمعة.. محمد البنا


رحلة في عقل سليمان جمعه

عبر بعض نصوص مجموعته القصصية

قرى الملــــول

الأديب/ محمد البنا


سليمان جمعة

محمد البنا




المتتبع لنصوص وأشعار وخواطر وتهويمات كاتبنا الرائع سليمان جمعه ، لا يجد صعوبة في وضع يده على مفكر يبوح بمعاناته الشخصية من خلال بوحه المستفيض وإنشغاله الدائم بهموم وطنه ، مفكر يطرح الأسئلة ويشقى في البحث عن إجاباتٍ شافية ، فتطرح الأسئلة له ولنا أسئلة أخرى ، ويستمر مسلسل المعاناة ويتوالد مع كل إشراقة شمس .
كاتبنا لا يفتأ أن يداهمنا بتفاصيل التفاصيل في دقة وبراعة متناهية ، واصفًا ما يحوطه في بيئته الغناء من أشجار ومروج وطيور وظلال ، ويتداخل بقوة مع ما يموج بداخله من غضبٍ على الحال الآني والممتد لقرونٍ خلت ، تخلف وردة وتقوقع ، صارخًا بكل ما أوتى من قوة ، وراجيًا ومبتهلًا ... " أنقذني يا الله " .
يتوق بشدة وشغف إلى ما بعد ، دائم النظر إلى الضفة الأخرى ، آملًا منها الخلاص لنفسه المكلومة ولوطنه المنبطح على جراحه ، تكاد لا تلمح في كتاباته مظهرًا من مظاهر الفرح ، أو طريقًا للخلاص ، هو باحث عن ماذا بعد ، باحث فقط ، يطرح الأسئلة ، ويسوق الأمثلة الدالة على حاله الحبيسة داخل جدران جسده ، وعلى أحوال عالمه العربي المحيط به كسجن كبير ، وقلما تجد إبتسامة سعيدة تتجاوز نياط قلبه لتظهر آثارها على أحرفه وكلماته ، مهموم بنفسه ومهموم بقريته ، يتطلع بشوق إلى ...ماذا بعد ؟ .
في أقصوصته هديل 
" قطعت عشتار كم ورد ، مسحت عن خده دمعة فراقه ، تركت أوراقه تسبح على صفحة سفره الجديد " .
شوق الكاتب إلى الترحال إلى المجهول ، مستطلعًا ومتطلعًا إلى سبر أغواره ، آملًا في إشراقة صبحٍ أفضل .
وفي أقصوصته يقرأ الفاتحة 
يرتحل أيضًا مع جثمان الشهيد جنوبًا ، حيث القبر والظلام والسواد والسقوط ، ولا يلبث أن يتعلق بالأمل روحًا تتجه شمالًا حيث النور والإشراق والبياض الناصع ، تزفه الطيور بأجنحتها ، وتبادله الزهور عبيرها .
وفي أقصوصة حذر نائم 
إغراق شديد في التفاصيل ، تفاصيل التفاصيل ، فأحيا المشهد كأنك ترى أحرفه وكلماته كائنات تتحرك وتنبض بالحياة 
" وضعت على رأسها منديلها الأسود ، وعصبتها المطرزة بالحرير ، وعصبت خصرها بمملوكها الأحمر ، خرجت ، تحمل على مرفقها الأيسر سلة من القصب ، تضع فيها زوادتها ، بضع حبات من البطاطا والبندورة ، وفحلان من البصل الحريف "
لوحة تشكيلية رائعة وشائعة لقرويةٍ بسيطة ، مزج فيها العديد من الألوان المرئي منه الأسود والأحمر ، وما سكت عنه لتبوح لنا اللوحة به ، الأصفر متمثلًا في تراب الأرض ، والأبيض متمثلًا في زخرفة الدور ، والأخضر فيما يبدو على البعد من أشجار وكروم هى وجهتها .
امرأة ستينية ، كل من يراها يدعو لها بالعافية وطول العمر ....إنذار خفي أوحى به المشهد ونبأت به الأحرف ، طرحه الكاتب عرضًا ، ويعقبه دوي إنفجار !! ، يدرك القارئ من اللحظة أن شخصًا ما قد توقفت أنفاسه وإلى الأبد ، فتعالوا معي نعيد قراءة المشهد بتأنٍ وروية ...
وصف تفصيلي ناعم بكلمات بسيطة ، يعقبه حركة بطيئة لعجوز ، ثم نزعة ملائكية تمثلت في دعاء بطول العمر ، فجأة يدوي إنفجار ..كأن الكاتب يصف حال أمته ..نيام نيام ، فيصرخ فيهم ..أفيقوا استيقظوا ، ليست الحال كما تراها أعينكم ، أنظروا بقلوبكم فإن عيونكم أصابها العمى ، العدو هناك ..العدو هناك ، ويختتم المشهد برحيله مع الشهيدة إلى الضفة الأخرى ، شغوفًا لمعرفة ...ماذا بعد ؟ .
وفي أقصوصته طواحين الهواء
ينحى الكاتب منحًا سساخرًا هازئًا من نفسه ومن بني جلدته ، كهل يتفيأ في ظل شجرة معمرة ، كأنه يلوذ بها مستحضرًا أمجاد أجداده ، ومن خلفه قلعة دالة إيما دلالة على الماضي السعيد ، ولكنها الآن أثرًا بعد عين سجينة أسوار التخلف ، تنصحه " ساخرة " عجوز أجنبية [ أوروبا ] وهى ما يراها واهمًا مثله مثل غيره من المتحذلقين والمتشدقين بمصطلحات يرددوها بلا دراية ، يراها التقدم والنور ، تنصحه أن ينهض وينتصر ، ويالها من سخرية في استحضارها لشخصية دون كيشوت ، وهو ما ينظر إليه الغرب كرمز للفشل والغباء ، الرجل الذي حارب طواحين الهواء ، تذكره مثلًا يحتذي به !! ، ويبلغ الأمر قمته بترديده لكلماتها دون فهم أو دراية ....." ومن يومها لا يزال يعلك بالكلام " .
وفي أقصوصته ..وأخيرًا
" ظل شجرة يبيت نهارًا مختبئًا من عين شمس " ...يا الله على جمال الصورة والتشبيه وبلاغته ، يحرك الأشياء ، تغار الريح من الظل الذي يستظل ، فتهز الأغصان بقوة ، لنتفاجأ بأن المشهد الحقيقي ..هو الفكرة تراوح بين إقتراب وإبتعاد ووميضٍ وخفوت من ذهن المبدع ، يراودها فتستعصي ، تقاوم ، تستسلم في النهاية وتخضع لسلطان القلم وسطوته .

محمد البنا

التسميات: