الأربعاء، 27 يوليو 2016



قراءة في القصة القصيرة

جروح في ثوب الأسئلة


للأديب/ صبري حسن 


يطرح النص الأسئلة , دون أن يقدم إجابات . نص يدور في نفس المنطقة التى خضناها مع صديقي صبري في نصه السابق " السر وأشياء أخري " , مع اختلاف الحبكة والشخصيات والجو العام , فإن كان النص السابق قد دار في بيئة افتراضية , وجو غرائبي , فإن أحداث هذا النص تدر في بيئة واقعية , قرية عادية لا تتميز عن كافة القري المصرية , وتبدو شخصية الراوي كما لو كانت وافدة من خارج القرية , أو يكون قد تزود بثقافة وافدة من مدينة متحضرة , فهو يذكر ألقرية في العبارة " فالقرية بكاملها ستخلصا نه من يدي." بأسلوب يوحي بعدم انتمائه للمكان , كما أن ثقافة اللجوء إلى الطبيب النفسي لا تعد من السلوكيات التى تميز البيئة الحاضرة في النص . ولعله واحد من الموظفين العموميين الذين يفدون إلى القري من خارجها , وأغلب الظن أن يكون متمتعاً ببعض النفوذ , يوحي بذلك الأسلوب الذي اتبعه في مطاردة خصمه, ومحاولة القبض عليه . أما شخصيات النص الأخري فهي الشخصيات التقليدية في القرية , الشيخ علي إمام الزاوية في القرية , والشيخ في القرية المجاورة , إضافة إلى الشخصية التى تقاسمت بؤرة الحدث في النص وسنتوقف عندها قليلا : فهو شخصية نمطية تواجدت في أغلب الأعمال الأدبية الواقعية التى تناولت عالم الريف المصري . وقد استخدمت تلك الشخصية بأوجه متعددة , أبرزها كناقل للأسرار والأخبار بحكم قدرته على التجول في الدور بحرية , والاطلاع على أسرارها من باب عطف الجميع عليه, وأيضاً من باب اليقين بعدم قدرته على الفهم والتمييز فلا يتحرج الناس من كشف عوراتهم عليه . أما الأمر الآخر الذي يميز الشخصية النمطية فهو قدرته على النطق بالحكمة وكشف المستور في حجب الغيب , أولها للعرف الشائع " خذوا الحكمة من أفواه المجانين " , وثانيها للثقافة الريفية التى تعتقد أن تلك الفئة هى من المجاذيب المكشوف عنهم الحجاب . هذا فيما يتعلق بالشخصية كنمط . أما عن استخدام الكاتب لتلك الشخصية في النص فأرى أنه نقل الشخصية إلى مستوى أكثر تقدماً .
فالنص يصور الشخصية في هيئتها الخارجية قريبة إلى حد كبير من النمط " يسيل الرضاب على شدقيه، وتعانق الريح شعيرات طوال من لحيته المتناثرة كجزر منفصلة فوق وجهه المتسخ. " . لكننا نراها لا تنطق بترهات , بل بالآيتين 13 , 14 من سورة الواقعة " ثلة من الأولين, وقليل من الآخرين " وكلاهما في سياق السورة مبشران بالنعيم , وسنغض الطرف عن أن المنطق كان يستوجب من الراوي أن يشعر بالطمأنينة ويعد ذلك من ضروب الفأل الحسن , لكننا سنتبع الخط الدرامي الذي اختاره الكاتب فنتفاعل مع القلق والحيرة اللذان استوليا عليه , لأن ذلك القلق هو الذي دعاه إلى الانشغال بالأمر إلى حد تقصي الاستشارات الطبية والفقهية لدى الطبيب النفسى والمشايخ الذين توفروا له في القرية , ومن خارجها , وهو مايضعنا أمام صورة غير نمطية لعبيط القرية طبقاً للتنظير العلمي للحالة الذي ورد في تشخيص الطبيب , ولكني سأتناول قول الطبيب مع بعض التعديل الذي أقترحه . فالمجنون بالضرورة فاقد للتمييز , ولذلك رجح الطبيب أن يكون الشخص مريضاً نفسياً مادام قادراً على التمييز , والمريض النفسي في تلك الحالة أشد خطورة على صديقه الراوي , إذ المجنون ينسحب خطره على الجميع بشكل عام , وعجزه عن التخطيط والتدبير يجعل من تحاشي خطره أمراً ممكناً , بينما المريض النفسي يكون فريسة لهواجس وريب , ولا يكون فاقداً للقدرة على التمييز واستهداف شخص أو فئة بعينها , وهو لذلك أشد خطورة . وكون تلك الشخصية قد وردت في النص معروضة ربما للمرة الأولي على طاولة التشريح بما يعد تناولا جديداً لها , وتشريحاً نفسيا يجعل منها شخصية رئيسية وموضوعية , خلافاً لورودها على الدوام كشخصية ثانوية عابرة , فإني أعد ذلك من إيجابيات النص . 
أما خاتمة النص والتى تتداخل فيها رؤية الشيخ الصوفي " البشارة، والفوز المبين، وأن التلميح يغني عن التصريح،" . مع المطاردة العقيمة التي انتهت بتمازج شخصية الراوي مع الشخص الغامض في نظر أهل القرية , إذ لاحا كلاهما كغريبى الأطوار . فأراها تتمة درامية تمنح النص الحيوية والتوهج , وتمنح القارىء متعة اكتمال التجربة , كما توحي في ذات الوقت باستمرار الأسئلة الأساسية غائبة لا تجد إجابة شافية قاطعة , فأنت ترى في أقوال شيخ الزاوية, والطبيب, والشيخ الصالح مايدل على أن كل منهما يري الأمر ويقيسه من منظوره الخاص الذي لا سبيل إلى تلاقيه مع سواه , مايوحي بدلالة العنوان " ثقوب في ثوب الأسئلة " . وقد كتبتها ثقوب بدلا من جروح متعمداً . 
تحياتي لك صديقي المبدع صبري حسن , ولإبداعك الناضج الجميل .
محسن الطوخي

نص القصة


جروح في ثوب الأسئلة

ثلة من الأولين، وقليل من الآخرين.
يطلقها دائما-كلما رآني- ويهرول، يسيل الرضاب على شدقيه، وتعانق الريح شعيرات طوال من لحيته المتناثرة كجزر منفصلة فوق وجهه المتسخ.
وسبابته تشير نحوي.
سألت الشيخ (على) إمام الزاوية عن ذلك. حيث لا ينطق بهذه الآية إلا لي وحدي.
ابتسم عليٌّ وردد: ليس على المريض حرج.
لا تشغلن بالك رجل يهذي وانقطعت به أسباب العقل، فليس من الحكمة إعمال الفكر مع مسلوب العقل.
لم تشف تلك الإجابة غليلي. تركتني معلقا في سموات الشك. وهل الرجل مسلوب العقل فعلا؟.
وإذا كان كذلك فلمَ يمايز بين الجمل والآيات التي يرددها باختلاف الوجوه والأشخاص؟.
سألت صديقي الطبيب النفسي..
اعتدل قائلا: الجنون درجات، وليس كل مجنون فاقداً للتمييز، وربما ليس مجنونا بل مريض نفسي، فهو يدرك ويحس ويميز ومن ثم فلربما لقوله هذا هدف.
ايتيني به، فأخبرك بالأمر اليقين.
زادني الطبيب حيرة فوق حيرتي، وإن كان أكد الظن فصار يقينا مهيمنا على رأسي. لكنَّ المعضلة الحقة تكمن في إقناع الهاذي بالمثول بين يدي الطبيب، أو القبض عليه بالقوة-وأحسبها لن تفيد- فالقرية بكاملها ستخلصه من يدي.
لم تخفت حدة الأسئلة، وتأجج الشك داخلي مع تكرار الجملة، ورؤية الرجل صباح كل يومٍ.
فمررت بأحد مشائخ القرى المجاورة-وكان مشهورا بالصلاح والتقوى- وسألته، فأخبرني بأنها البشارة، والفوز المبين، وأن التلميح يغني عن التصريح، وكفَّ عن الحديث.
تركته بعدما لاذ بمسبحته، وسجن لسانه خلف قضبان شفتيه، عازما على فض السر بنفسي، وهتك ستائر الحيرة.
خرجت في الصباح-في موعدي المعتاد- متربصا بالرجل-لا ذاهبا إلى العمل- وعلى بعدٍ وجدته يرفع سبابته ويشير إلي: ثلة من الأولين وقليل من الآخرين.
توجهت إليه لأقطع عليه درب الفرار، كي أسأله ماذا يعني.
مرق يمينا، ثم انحرف يساراً فمر مني وأطلق ساقيه للريح...
شمرت عن ساقي- اتقاء الطين- وطرت خلفه...
من حقلٍ إلى حقلٍ، ومن درب لآخر...
أصابني التعب بشلل في ساقي، فهويتُ إلى جذع نخلة، وجلسَ..
تتصاعد الأفكار والكمائن في عقلي..
أخطط للنيل منه وحصاره...
مزيد من المعلومات »

التسميات:

الخميس، 21 يوليو 2016

قراءة نقدية الناقد مصطفى بلعوام
بين جنون الجسد ولغة الجنون
قصة : نصفي في بيات شتوي
مصطفي بلعوام
القاصة : مهدية أ ماني / المغرب


الكلمة جسد، حروفها أطرافه مجازا. والمجاز هنا صمت لغة قلقة ومقلقة معا. فلا جسد بدون لغة ولا لغة بدون جسد. يكتبها ليختفي وراءها أو بين حروفها أو في بياضها وتكتبه فيصبح لوحة سريالية تحتاج من يستكنه لغتها في لغته ليقبض علَى المسكوت عنه والمكبوث فيهما.
للجسد في قصة القاصة مهدية أماني حالات تستعصي على لغة القول. إنها إحالات لحالات أكثر منها قول للغة. الإحالات تكون مجموع عذابات جسد يبحث عن هويته الضائعة عبر التاريخ وعن لغة مختلفة قادرة على مصاحبته من حيث هو جسد يفكر، يحس، ويحب.
وللغة في قصصها سيميائية - إكلينيكية ، بمعناها الالتوسيري، أكثر منها إشارات سوسيو-ثقافية. تشاكس وتستفز المفاهيم ، تفرض عليها سلطتها إذ لا سلطة عليها هي، سوى الإبداع ولاشيء غيره إلا الإبداع.
لكنه إبداع يقلق لغة القص كما يقلق مادتها. فلا مادة لها في العمق سوي قول الشيء ونقيضه في وحدة لغوية متناقضة ، على أساس أن منطقها يختلف عن منطق العقل . قصة الأستاذة مهدية أماني تحمل تناقضا وجوديا يتعلق بعلاقة الجسد والعقل باللغة : كيف لامرأة ذي نصف عقل ونصف جسد أن تفكر كما لو أن لها عقلا كاملا وجسدا كاملا ؟ وكيف للغة أن تكون قادرة على كتابة التناقض الذي ببنين جسدها وعقلها في وجوديتها؟ والمسألة ليست ترفا ذهنيا أو فكريا، إنها تتعلق بالقلق الذي تكتبه اللغة بقدر ما يكتبها بما أنه نابع من قضية وجودية تحرك وجودها المفارقة في اللغة والجسد وما بينهما.
ماذا يمكننا البحث عنه في قصة " نصفي..بيات شتوي" ؟ وكيف يمكننا الدخول إليها ؟ لا شيء وكل شيء، كما هي اللغة التي تقول ما لا تقوله فيما تقوله، فتقول كل شيء ولا شيء ، في اللحظة التي تحاول كلماتها الإمساك بما يحفزها من قلق. تقترب من الجسد فتجده أطرافا لا جغرافية له ولا نسق. تتحايل على العقل فيهرب منها تاركا بصمات ملغزة. ويصبح الدخول إليها " انفصاما" كما تقول القصة بين ما يستطيع العقل أن يقرأه فيها والعقل الذي تفككه هي إلى درجة النسف فتختلط عقارب اللغة فيه وفيما لا تستطيع "البوح "به.
ليس مهما أن نبحث عن طبيعة الحالة التي تعتمد عليها القصة في أشكلة علاقة المرأة بالعقل والجسد واللغة . ومرد ذلك سبب بسيط :القصة لا تعتمد على حالة واحدة بل على حالات متعددة ( الجاثوم/ السرنمة / انفصام الشخصية/ ذهان هيستيري / موت إكلينيكي ) : حالة الجاثوم ( شلل النوم) وهي يقظة في النوم مع أحلام غرائبية وهلوسات، الجسم فيها نائم والعقل يقظ؛ حالة سرنمة ( المشي في النوم)؛ حالة انفصام الشخصية تحيل على تفكك عقلي مع هلوسات وأوهام ذهانية؛ حالة ذهان هيستيرية تتمركز في ذهانيتها حول الجسد؛ حالة موت إكلينيكية حيت الشخص يرى نفسه في نفق ضوئي مع كائنات ضوئية حسبب الشهادات.
إنها حالات متعددة تتربع في القصة على علامات استفهام وتعجب، وأحيانا تتقمص نقط الحذف أو الكتابة بالفراغ ، لكنها لا تنسى أن تعود بِنَا إلى الحقيقة الأولية ألا وهي أن "لا فرق بين المرأة والمرآة سوى ألف ممدودة" ، تلك الألف التي تقف حاجزا بينها وبين الصورة لامتلاك جسدها، وتقول عن معرفة في جهلها: " لا أجهل كوني نصفا حتى في تمام كمالي ولا حق لي في غير ربعين.. اثنتان للشهادة ونصف حظين".
تقول القصة : " أنا نائمة ومستيقظة في آن". نعتقد في البداية أنها حالة جاثوم مع تجلّيات أعراضها في السرد أو أنها حالة سرنمة، بيد أنها ما تلبث أن تكسر توقعاتنا وتعرج بِنَا من حالة إلى حالة أخرى ، ومن حلم إلى كابوس لتكشف لنا عن ذات تعيش حالة على حالة من شأنهما ألا يلتقيان في حالة واحدة. وهي حالة تعيشها بعيدة عن كل إحالة إكلينيكية في معناها الاصطلاحي وبمنأى عن كل مجاز لغوي صرف. إنها حالة كينونة حسية تتاخم عقلا آخر غير ذاك الذي يرمي كل ما يناقضه خارج مدار عقلانيته. عقلا عاريا من قشور اللغة وزيف الفكر يدخل إليهما بشروطه وإن كان مضطرا الالتجاء إلى أساليبهما الفنية لتجلياته؛ إنه عقل اللاوعي أو منطقة اللاوعي التي تستعصي أحيانا بل غالبا على اللغة والفكر، إذ ليس كل مفعولاتها قابلة للغة ولا أية لغة قادرة على قول كل ما فيها.
وهنا تكمن خاصية لغة القاصة مهدية أماني، لغة تنمو قلقة في القصة على حدين وبوجهين بما أن كل شيء فيها على أنصاف ومنفصم : للعقل نصفان، للجسد نصفان، للمعرفة نصفان، للتاريخ نصفان وللذات نصفان. ولكل نصف نصف لغة ودلالة في القول يجعلان من قصة الأستاذة مهدية أماني حالة قصصية غير عادية إبداعيا، سواء من حيث تفجيرها للغة القص المتشظية في وحدات جائزة لغويا وغير مستساغة عقليا أو من حيث الحدث ذاته الذي لا حدث فيه سوى حدث ذات غير عادية تحمل تاريخا بأكمله على نصف جسد وعقل.
لكن من هنا يخرج السؤال محرجا : من يتكلم ومن يستطيع أن يفكر بنصف عقل، ويحس بنصف جسد ويكتب تاريخه من نصف تاريخه ويسكن هويته في نصفها ويحمل نصف لغة تقوله ولا تقوله في ذات الآن ؟
إنها قصة غير عادية، لا تجري وراء الحدث لتحكيه فنتتبع أطواره ونصاحب الشخوص حتى باب نهاية العقدة. فلا أحد يتكلم فيها بمعنى الشخصانية ؛ التي تتكلم لا وجود لها إلا داخل كتابة النفي ، مستعملة تقنية " كما لو" (أ. مانوني) التي تسمح بالتناقض في وحدة لغوية واحدة ( مجنونة وغير مجنونة، متشظية ومتكاملة، أنثوية وغير أنثوية ، عالمة وغير عالمة .. ) . وهي تقنية تسمح لشروط لغة القص بالخروج من الجسد للانصات إلى بواطنه ورؤية ما يعتمل فيه وما تركته اللغة الآثمة والتاربخ الجريح من أثر ( ج. دريدا) مستعصي على القول. تسمح بذلك وفي نفس الوقت تحمي من الانهيار الكامل إن لم نقل من العدمية بِمَا أنها " تقنية نفسانية" يستحيل من خلالها القبض على القلق بالكتابة وتذييله فيها كشيء قابل للكتابة.
التي تتكلم إذن لاوجود لها إلا داخل كتابة النفي، نفي الذات واللغة. اللغة آثمة في تاريخ احتفالها الأحادي بالرمزية السلطوية المحددة لذات المرأة والمغتالة لها في الرمز وبالرمز ، بمعنى أنها لا شيء وكل شيء ، لا شيء من حيث هي أنثى وكل شيء من حيث هي امرأة ولادة . والنتيجة واحدة : لا وجود لها ما دامت هي لا شيء كأنثى ولا وجود لها من حيث هو وجود مستقل بذاته ولذاته مادام وجودها كامرأة يظل رهينا بقدرتها على الإنجاب .
اللغة آثمة تاريخيا تخشى الفضح والتعري أمام الأنثوي المكبوت فيها. لهذا فإنها تأتي " كما لو"، مقلقة في قلقها ومتصدعة تتكيء على النفي لكي لا تقول إثمها التاريخي وفي نفس الوقت تقول النفي وتنفيه لنفي ذات المرأة التي لا لغة لها إلا كتابة النفي عبر تقطيع أطراف جسد لا إسم له في التاريخ. وعن أي تاريخ يتعلق الأمر ؟ تاريخ أنثى تبحث عن تاريخها في جسد منفصم يجتر معه غرابة مقلقة : كيف يمكن للذي أملكه ويتملكني أن يكون غريبا عني ومقلقا لي ؟ إنه الجنون، جنون العقل المُدجّن : " أرى بعين واحدة وأحس بنصف جسدي ، وأفكر بنصف دماغ ". النصف يعوض الكل في عالم لا يعترف بكلية ذات الأنثى لأن الأنثى مخلوق غريب يعشق الغرائبي ومخلوق فاتن يفتن الفتنة، والفتنة أشد من القتل، لهذا فلا إسم لها سوى ما يشير إليها ولا عقل لها سوى ما يعقل فتنتها :" لا أجهل كوني نصفا حتى في تمام كمالي ولا حق لي في غير ربعين .. اثنان للشهادة ونصف حظين ، بل نصف رأس تظهر كل التفاصيل الشرحة. عضلات ، عروق ، عظام ، شق مخ ونصف جذع برئة واحدة ونصف قلب.. كل شيء نصف.. نصف.. نصف". هنا الانفصام المبنين ثقافيا لذات الأنثى والمبنين لعقلها، أن تفكر بنصف، وتحلل وتربط بنصف وتحب بجنون : " هل أنا مجنونة؟ لقد جننت حتما" ، وفي ذات الآن: "أغفلت أنني مجرد نصف." المفارقة المحرقة تكمن في معرفة لا معرفة لها غير تلك التي لا تأتي من العقل : كيف أكون مجنونة وأكتب جنوني بنصف عقل؟ كيف أحيا في مواتي وأعزف على أطراف جسدي سمفونية لغة آثمة وتاريخ زئبقي لا يكتبني إلا في نفيي؟
أمام مأزق ضارب في التاريخ الذاتي ، يأتي الجواب على شكل تساؤل لا جواب له : " أأنا نائمة أم مستيقظة؟ / حلم أم جاثوم ؟/ نوم أم قيلولة؟/ هل هذا ليل أم نهار ؟ أو ما قبيل الليل أو ما بعيد الشروق ؟ ". ليس للزمن حالة واضحة ولا للحالة زمنا عاديا. استعمال أداة الاستفهام " أم" العاطفة لا يطلب منها التعيين هنا أو بالأحرى يطلب منها التثبيت لحالة تعيين مستحيلة. فهي استفهام لا للمعرفة ولكن لإعطاء المعرفة بحالة تخرج عن المعرفة اللغوية. والنص لا يحيد في مجمله عن عناق الاستفهام كمطية لمداراة الأجوبة المحرقة والمجرحة : " نصف على قيد الحياة والنصف الآخر ماذا عنه ؟ هل يفكر ويتدبر أيضا أو يستهزيء بنذالة من مسخرتي هاته ، أو لا يهتم أصلا ؟ / من أجبرني على نصف حجى؟/كيف يمكن التفكير بنصف عقل؟ / من أنا؟ ". المتكلم منفصم بالضروة وانفصامه تحايل تقني في القصة لكتابة " أنا" لا موقع لها من محل التاريخ ولا من محل وجودها فيه بما أنها مجبرة على أن تعيش " بنصف حجى". إنها " أنا" لا جسد لها ولا لغة لها غير التساؤل والقفز من حالة إلى أخرى ، من عضو إلى عضو آخر داخل بواطن الجسد. تسافر في أحشائه بمجهر عين واحدة كي ترى فتنقسم إلى " أنا" ترى "أناها" : " يمكنني أن أرى، أنني أرى". لكنها تصطدم دوما بما هو محكوم عليها، ألا ترى كما يجب أن تكون عليه الرؤية، رؤية شاقة :" أصور نفسي دوما بالجانب أو من زاوية الثلاثة أبعاد(..) ولا أرى الأشياء إلا بأبعاد ناقصة". فالألف الممدودة مازالت قائمة ببن المرأة والمرآة ترد " الرؤية متعبة بعين واحدة؟" ، وتحول الضحك بكاء والبكاء ضحكا من أنثى ترتقي بغيابها وتسكن مواتها في جسد ميت/حي، ودافيء/ بارد: " لم الضحك الآن ، ما المضحك فيما أنا عليه ؟ لم لا أبكي ؟ سأبكي ، وبكيت بدون دمع، جف الدمع وان البكاء يستوجب عينين اثنتين".
لا شيء قابل للكلمة إذا كانا هما معا منقسمين يحملان الرؤية بأبعاد ناقصة : " لا أحبذ أن أبدو غير ما لست عليه" أو " موشوهة". كيف للجسد نصفان : نصف أنثى ونصف أم؟ كيف للفكر نصفان : نصف ميت ونصف حي ؟ وكيف السؤال يصبح " وجوديا ونصف وجودي". حتى العذاب له نصفان : نصف في الأرض ونصف في السماء. في الأرض عذاب وجودي لا خلاص منه سوى بالانتحار الذي هو في حقيقة الأمر بوابة لعذاب آخر في السماء : "سأنط من النافذة وأضع حدا لهذا الاختبال، أتهشم على الأسفلت وينتهي كل شيء، أي شيء سينتهي ؟ سأبعث على ما مت عليه. ولم لا ؟ ربما أحاسب بنصف خطاياي. وكيف سأمر على الصراط بقدم واحدة؟ سأسقط وأذهب إلى النار". يبدو السقوط حتمية متوقعة لنصف يبحث عن نصفه الآخر الذي يخذله بمواته، وما الخلاص إلا في نوم لا نصف له بعيدا عن حالة اليقظة المنغصة له. فتتحول الحالة من منطق أداة العطف الجمعية بين شيئين "و" ( أنا نائمة ومستيقظة في آن ) إلى منطق أداة العطف التحديدية لأمرين " أم" ( أستيقظ أم أنام):"سأعود إلى فراشي والتحم مع نصفي". غرابة على غرابة إذ لا نعرف من هاته التي ستعود لتلتحم مع نصفها وهي في أصل البداية نصفية الذات والجسد. هناك نصفان لا يحققان وحدة في ارتباطهما إلا بمعيّة "أنا" تتوحد عبرهما لتؤسس ماهيتها التأليفية المتعالية على ما يجمعهما.
إنها " أنا" تسمع النصفان : " رضيع يمصمص أصبعه. أي أصبع.. شيء غريب هذا الصوت ؟ أدركت بعد لأي أنه صوت نصفي يمتزجان". عود على بدء، النصفان يمتزجان في مصمصة تعود بهما الى أولى اكتشاف اللذة والانتشاء كالرضيع واكتشافه لأصبعه السحري الذي يغنيه عن العالم الخارجي وفي نفس الوقت لا بد له من التخلص منه تدريجيا وتعويضه بأشياء أخرى فيه. كذلك النصفان لا بد لهما من " أنا" سحرية تساعدهما على الالتحام، فتصرح بأنها " لن تترك العملية تفشل " وتنتهي بالعودة إلى عتبة النص " نصفي .. في بيات شتوي" في نهاية القصة : "سأهجع ، وغدا، بعيدا كان أم قريبا، سأعرف يقينا أن ريح النصف الدافيء رهان إعادة الحياة إلى الموات.. أو يكتسحنا الجليد.." إنه بيات شتوي من حبث المجاز وليس من حيث الفصل الزمني. بيات السكون والصمت لجسد متعب من انفصامه وللغة مقلقة وقلقلة في محاولتها للقبض على قلق أنثى محكوم عليها أن تكتب وجودها بالسبات أو بالنفي.
" سأهجع ، وغدا، بعيدا كان أم قريبا":
- سأهجع : تعود إلى "هاجع" المرتبطة بالأحياء( نباتات أو حيوانات) وهو نوم أو سبات أثناء البيات الشتوي تتوقف فيه العمليات البيولوجية أو تنمو.
- الغد منفتح على الزمن وغير خاضع لتمفصلات زمنية محددة ( شتوي)، قد يكون قريبا أو بعيدا ، بمعنى أن بيات النصف الشتوي في عتبة القصة هو زمن مجازي، إنه بيات قهري لا زمن له لذات تبحث عن نصفها المفلوج بالتاريخ واللغة.
- " سأعرف يقينا أن ريح النصف الدافيء رهان إعادة الحياة إلى الموات.. أو يكتسحنا الجليد". إنها عبارة متفاقمة الدلالة. تبدأ بيقينية مطلقة حول الرهان ثم تنقلنا إلى ما يقوضه كما لو أن النصفان لا رهان عليهما .
وهنا نرى أن لغة القاصة مهدية أماني لا تتشدق بالخطابة أو الخطاب حول موضوع الأنثى/ المرأة وتحررها، فقط !! تكتب من جعلها في اللغة وفي التاريخ مجرد نصف عقل وجسد يسكنها ويسكن كل أنثى في عالم يقدس صمتها وبياتها القهري.
نهاية اللوحة النقدية: قصة غير عادية لقاصة، مهدية أماني ، غير عادية في مهارة الكتابة القصصية .
----------------------------------------------------------------
القصة
مهدية أماني
نصفي..في بيات شتوي

أأنا نائمة أم مستيقظة ...؟ أظنني نائمة، لكنني أشعر أنني مستيقظة..أنا نائمة ومستيقظة في آن، كيف يتأتى ذلك لبشر ..نوم ويقظة ..ما هذا إذن...حلم أم جاثوم ؟ ..عيني مفتوحة وترى ، حتى في الظلام يمكنني أن أرى، أنني أرى..حاولت فتح الأخرى، شرعتها، لم يطأها ضوء ، ليس بها عمى ولا تبصر وبها قذى..أنا في وضعية استلقاء..نوم أم قيلولة؟ أحد نصفي دافيء ، أمرر يدي على الوجنة التي أنتمي إليها، أجدها رطبة ساخنة، لكن النصف الثاني جامد لا حركة به ولا دفء ولا حماوة.
أرى بعين واحدة وأحس بنصف جسدي، وأفكر بنصف دماغ، من أجبرني على نصف حجى..؟ كيف يمكن التفكير بنصف عقل ..؟ لكنني أفكر وأحلل أيضا ، أربط الأمور ببعضها وأحاول اكتشاف ما يحدث لي. أغمضت العين التي ترى ، ركزت الرؤية على دواخل بواطني ، نصف رئتي فقط يتنفس، وبطين وأذين من قلبي ينبضان. أرتعد ، أفتح جفني ، أجفل وأقفز من على حشيتي لأزيح الكابوس الجاثم علي أنا..من أنا ؟ لم أعد أعرف ولا تعرفت علي..وقفت..وقفت؟؟ نصف جسدي وحده وقف، كأن قصابا متمكنا من عمله جزه باحترافية، ليست هناك دماء حول نصفي، لا زرقاء ولا قانية، كل شيء نظيف ، كأنه غير مستباح هدرها. ستائر غرفتي الخاصة السميكة مسدلة، تذكرت أنني أتحسس من النور الساطع، وأحب الأبواب المغلقة والعتمة ، يريحوني فأنسلخ عن الفضاء الخارجي..ابتسم نصف فمي.. أنا إشكالية للنفسيين..اشتريت ستائري تلك، داكنة وتحتها أخرا شفافة.. أضيء النور بيدي الوحيدة ، أنط على قدمي الواحدة .. أتوجه إلى المرآة، لم أنس أنني أنثى وافتكرت أني أكتب. المرأة والمرآة تتشابهان في الحروف لا فرق بينهما سوى ألف ممدودة والممدود معنى ما هو أملس وناعم.. يااه..قاموس ذهني يعمل لن يتهمني أحد استنتجت بالخال غوغو، وكم هو جميل نصف وجهي أملد وخدي أسيل من الجانب المتبقي ..لم تنصفني سليلة " السيليكا" هاته، جبت تجاعيدي الحبيبة وطمستها..لا أحبذ أن أبدو غير ما لست عليه لكن راقني التغيير ودغدغ إحساسي، ربما بقيت هناك مع المضطجع ..ما فتأ ينطر إليها كما لو أن الزمان يجب أن يتخطاني دون أن يترك أثرا علي ، أصور نفسي دوما بالجانب أو من زاوية الثلاتة أرباع .. يقولون أني ..."فوتوجينيك" .. أغفلت أنني مجرد نصف، أدبر جزئي لأرى الوجنة الأخرى ولم أتفاجأ ..لا أجهل كوني نصفا حتى في تمام كمالي ولا حق لي في غير ربعين..اثنتان مني للشهادة ونصف حظين.،ليست هناك، بل نصف رأس تظهر كل التفاصيل الشرحة. عضلات ، عروق ، عظام، شق مخ ونصف جذع برئة واحدة ونصف قلب ، كل شيء نصف.،نصف..نصف، أستدير حيث نصفي الآخر على اللحيفة نائم أو ميت أو متفسخ.. لا أعرف .. المسافة التي تفرقنا بدت طويلة وممتدة، انفصمت عنه وأنا في تطواف مع أنصافي..أشتم بنصف أنف رائحة تراب مبلل يتسلل من النافذة، ربما تمطر أو رائحة تربة قبر جديد رش ، أو أحدهم يسقي حديقته بالليل.. أو النهار..هل هذا ليل أم نهار ؟ أو ما قبيل الليل أو ما بعيد الشروق ؟ .. كم هي الرؤية بعين واحدة متعبة؟ لا تتشكل لي الأشياء بأبعاد ثلاثية..من قال إننا لا يمكن أن نضع أصبعا في العين لما نغمض العين الأخرى ؟ لا أذكر.. وما فعلت ، بدت لي الفكرة غبية حينها .. لم لا أجرب ..؟أبعدت يدي أفرجت أصابعي ضممتها وتركت السبابة تتحرر ، وببطء شديد أقربها من عيني ..تجاوزتها واستقرت على صدغي أدرت السبابة مرات عليه ، الحركة المعلومة صدمتني .. هل أنا مجنونة ؟ لقد جننت حتما .. وإلا ، فما كل هذا الرسم السريالي المنبعج الذي أكونه في هذه الغرفة الفارغة ، أشبه مسخا مشوها ل " دالي" ..هل كان أيضا مجنونا كرسوماته ؟ اجتاحني خوف من أن تكون أطرافي وأعضائي غيرت مكانها وذهبت تستقر حيث لا يجب أن تكون.. انتويت إعادة النص لألصقه بأخيه ، فوجفت، كيف أضمن ألا يلزب بي معكوسا؟ نصف رأسي مكان القدم والقدم حنكي..ونكاية بي ، يداس خد بقدم ويصفع الثاني بأخرى..أنا مازلت أفكر وأحلل إذن ليست ميتة ولا نائمة..أنا في عداد الأحياء ومستيقظة..نصف على قيد الحياة، والنصف الآخر ماذا عنه ؟ هل يفكر ويتدبر أيضا أو يستهزيء بنذالة من مسخرتي هاته، أو لا يهتم أصلا ؟..يخترق ضوء باهر الستائر وبؤبؤ عيني.. قلت أني لا أرى الأشياء إلا بأبعاد ناقصة. أفكر في كل أعور على وجه البسيطة وأشفق عليه من هذا الارتباك، يتسع الضوء في شكل قمع..سأرتقي إلى السماء ..في فيلم ما رأيت الأموات المعذبين في الأرض، يصفون حساباتهم بها فيدخلون ذالك الضوء المخروطي ويسمقون، لقد سامحوا أنفسهم وسامحتهم الدنيا، وترحب بهم السماء بالضوء ، وينتهي بقاؤهم في فانيتنا بهدوء ..انتظرت أن يغشاني.. أختفي وأصعد كفراشة يحيطني قوس قزح ، خفيفة فرحة مستبشرة..إن كان هذا هو الارتقاء فهو شيء لا يخيف والموت لطيف رؤوم.. أذني الوحيدة تلتقط صوت هدير سيارة مرت ، وأخذت معها ذلك الضوء، يسقط توهمي مني كسن حليب ، أو كفارغ رصاصة ومضت ومضت.. خذلتني الحياة وظننت الردى سيحييني ويحتويني سناه، لا ضوء لي سوى ما أنرته سابقا وأبصره ..مازلت حية، وإن فارقت فلا شيء سيبقى من ورائي يستدعي تصفية. دائماً أتسامح مع نفسي وأسامح الناس وأجد لهم بدل العذر خمسا. لست من المعذبين على الأرض وأصلي.. أصلي وأدعو ألا ألقى عذابا في السماء . أو لربما أنا معذبة. عمل لم يقنعني وأتعبني سنينا في طول ديمومة . تنبأوا لي بمستقبل زاهر فتعفنت في مكتب مغبر. لم أصبح طبيبة ولا محامية ولا شققت طريقا في صخر الحياة. وحمت ومخضت و..ولادات شاقة وقلة نوم وعدم رضا عن الحياة في بعض الأحايين أو جلها، وغضب ورغبة في الهروب إلى الثلت أو الربع الخالي.. أهو ربع أم ثلت ؟ لا يهم حتى خمس بضع أكبر مسافة بيني وبين كل شيء سيفي بالغرض. لكن الأرض التي عشت بها تغلغلت عروقها في جسدي فربطتني بها ، تأملت بطني.. نصف بطني به بعض انشرامات تمدد الحمل كشعارات ، لماذا هي مازالت هنا ؟أم أنها ظهرت مع تقدمي في السن؟ إن استعدت شخصي سأقصد طبيب تجميل.. لكن كيف سأفعل بنصف بطن؟ وما الجدوى من قَص وشد؟ لم أعرض سلامتي للخطر هل سأتشمس وأسبح مرتدية قطعة قماش؟ ضحكت فأتت ضحكتي كحشرجة جرو..اششششوو..حاولت بنص لساني أن أحصرها بين نصف صفي أسناني وحنكي لأسمع ضحكتي، وددت لو أسمع ضحكة تبدد هذه الوحشة. لكن لم الضحك الان ؟ ما المضحك فيما أنا عليه ؟ لم لا ابكي ؟ سأبكي . وبكيت بدون دمع، جف النبع وأن البكاء يستوجب عينين اثنتين..
سأنط من النافذة وأضع حدا لهذا الاختبال، أتهشم على الأسفلت وينتهي كل شيء، أي شيء سينتهي؟ سأبعث على ما مت عليه. نصف إنسان مهصور..ولم لا ؟ ربما أحاسب بنصف خطاياي. وكيف سأمر على الصراط بقدم واحدة؟ سأسقط وأذهب الى النار ؟ لا أحب الصهيد! أعشق فصل الشتاء والبرد والمطر..
أمسيت أو أضحيت . أهذي ، أظن أن بي حمى ..ومن يجزم انه انتحار؟ سأجر البلاء على كل من يشاركني العيش في هذا البيت، نصف الجسد لا يقفز من النوافذ، من قطعة نصفين؟ سين وجيم..و..لا..لا..لا.. لست من يستسلم بسهولة؟ لن أضحك ولن أبكي ولن أثب، سأتجول في البيت بنصف روح وخلد...أحس بالجوع وأريد أن أغتدي...قفزت على رجلي الواحدة حتى كدت أصل المطبخ، لعل أحدا هناك ليشرب أو ما شابه، يسقط من طوله إذا رآني على ما أنا عليه. أكره أن أظهر ناقصة مشوهة مخيفة لمن يحبوبني، عدت أدراجي ، ساعة ما في مكان ما، تدق اثني عشرة دقة منتصف النهار أو منتصف الليل؟ لا أدري ولا أريد أن أعرف. كل الأوقات أصبحت متشابهة، نسخا مستنسخة من بعضها .. بل أريد أن أعرف.
تعدى الأمر احتمالي وأصبح سؤالا وجوديا، أو نصف وجودي، يعتمد عليه وجودي من عدمه، طنين أعاني منه من فرط السمع كما شخص الطبيب عاد، لكن في أذن واحدة، كيف أتخلص منه بتحريك عين وتر ؟ التدريب كلفني الكثير من الجهد والوقت ويطبق بتحريك العينين اثنتيهما..ثلاثين ثانية يسارا ومثلها يميناً ، وصعودا عند التقاء حاجبي ونزولا على أرنبة أنفي الوضعية هاته تجعلني أصبح حولاء وأرى الأشياء مزدوجة ، وإدارتهما مع عقارب الساعة أو عكسها يلأليء النجوم في رأسي.. وإن لم أفلح في تخفيف الطنطنة البغيضة ، أبقي التلفزيون مفتوحا على محطة " شوبين" تكرار ما يقال لتسويق المنتج ينسينيها قليلا..أو قناة مجد للقرآن أناء الليل وأطراف النهار، أستمع وأنصت وأحيانا أبكي، أتخلص من وخامة اليوم كلها وأنام .
الثنائي أتعبني وهذا التجوال النصفي أضجرني..سأعود إلى فراشي وألتحم مع نصفي الثاني..كفى انجذاما، ما الذي أسمعه ؟.. رضيع يمصمص أصبعه. أي أصبع؟ لا رضع بقوا ولا أطفال، لم يعد هناك أحد يتوسط السرير، شيء غريب هذا الصوت!..أدركت بعد لأي أنه صوت نصفي يمتزجان، كل الأنصاف تتمزز بعضها، ساعدتها، تململت قليلا ليستقيم كتفي وتتوارى رجلاي؛ لن أترك العملية تفشل، لا احديداب ولا عرج..سماتي ومناقبي غدت معايب في العين المغشى عليها، ولن أسمح بتشوه ظاهر أن يثلب خلقة جبلت عليها..الثأد مازال يتسلل إلي من النصف الميت فيقشعر جلدي، تقف شعيراته وتصطك عظامي ، مددت يدي المتحركة الحية، ضممت بها الذراع المفلوجة التي لم تعد تدرك أين تجدني وربعتهما الاثنتين على صدري لتقرا على المعلق بنياط فيه..تك دوم..تك دوم.. أقلب ذاك لا يزال ينبض؟أم.. نصفه؟ أم هي غرغرة مصارين تتجادل..سأهجع، وغدا، بعيدا كان أم قريبا، سأعرف يقينا أن ريح النصف الدافيء رهان إعادة الحياة إلى الموات. أو يكتسحنا الجليد.

التسميات:



قراءة في القصة القصيرة
بائع الأكفان يضحك أحياناً
للأديب/ محمد عبد الحكم
_____________
يدلف الكاتب إلى عالمه متسلحاً بوعيه اليقظ . لينجز معمار النص من حبكة وسرد وشخصيات, ... الخ . ويظن أنه المسيطر على نصه إذ يملى أفكاره على الكاتب الضمني ( الراوي) ويوجهه . لكن الواقع أن الكاتب نفسه يخضع لعملية توجيه وإملاء خفيين من لا وعيه . فيمكن للقارىء الذكي الذي يرصد الدلالات أن يستقبل - إلى جانب الحكاية التي تمثل العمود الفقري للنص – مستوى آخر يسري في روح الحكاية طارحاً الدوافع المحركة للإبداع . فالكتابة تستهدف إلى جانب المتعة الفنية , رسالة . ويمكن استشفاف رسالة النص من رصد موقف الشخصية الرئيسية التي يمثلها الفتى المقبل على الموت . وهي رسالة تطرح موقف الإنسان الفرد الأعزل في عالم الحضارة المعاصرة التي تعطيك من الطرف اللسان حلاوة , بينما تشاركك رقصة الموت.
من مساكن الإيواء إلى أرض سلطان , والعودة خالي الوفاض . هذا هو طريق الفتي يومياً حيث يدور يبحث عن عمل . فلا يجد إلا الإهمال , والنصيحة " ابتعد عن محافظات شمال الصعيد " فلا مصانع بها , ولا موانىء , ولا سياحة .. ولا عمل .
قد يكنس محلا , أو يمسح سيارة , لكنه محروم من العمل المنتظم الذي يوفر له دخلاً . ومن الصحبة بعد موت والديه , ومن الأمن والطمأنينة تحت تهديد الجار صاحب التاكسي . ثم هو فريسة للمرض الذي ورثه عن أبويه ,
ينحاز الفتى إلى الموت , يبدو الموت هو الخيار الأفضل في ظل مناخ طارد محبط . وهو يأنس إلى بائع الأكفان , فيحكي له عن إحباطاته , وعن خيط الدم الذي يتسرب على جانب فمه أثناء النوم , ويجد من البائع صدراً رحباً , وأذناً مصغية , وعطفاً . لكن القارىء الذكي يدرك أن تعاطف البائع موجه إلى الذات أكثر مما هو موجه نحو الفتى , فالبائع الذي اعتاد زبائن جهمين , يتأبطون البؤس والحزن يأنس ويبش للفتى الذي بدا له في أول الأمر غريب الأطوار ممنياً النفس بفاصل من الترويح والبهجة المفتقدة . لكنه لا يبلبث أن تجرفه تعاسة الفتى, ليس إلى الدرجة التى يتورط فيها بحمل همومه بجدية, فهو بدلا من أن يمنحه الكفن , يشير عليه بالتوجه إلى المسجد القريب حيث تمنح الأكفان مجاناً , لكن الفتى الخائر الضعيف الذي لا يجد سلطة تحميه من بلطجة سائق التاكسي , ولا مؤسسة ترعاه ومن قبله أبويه من المرض الذي فتك بهم, ويوشك أن يورده موارد الهلاك , هذا الفتى يملك من عزة النفس والإباء ما يجعله يرفض الصدقة, يرغب في شراء الكفن الذي لا يملك ثمنه , فيوافق بائع الأكفان على أن يتقاضى بقية الثمن عملا ينجزه الفتى فيبادر إلى ملىء القلال , وكنس المحل . ويصبح موعد لقائه بالموت مع أذان المغرب بمثابة أحضان مفتوحة في مقابل الواقع المغلق الذي يحياه . يشارك بائع الأكفان الفتى في رقصته الأخيرة , وينكفىء فوقه عندما يسقط , يهدهده , وينخسه في مواضع تفجر الضحك . وهي رقصة تلخص النظرة الناقدة للمؤلف نحو مجتمع لا يعامل أفرادة بإنصاف .
__________________
العبارات الدالة
"يسرح ظله النحيل في مستطيل الضوء. " .. فهو واقع في بقعة الضوء دلالة على أهميته كزبون , ولكنها أهمية لا تتجاوز حدود المستطيل الذي هو مساحة محصورة .
" فكل الذين يأتون هنا حزانى ، يلفحون الأكفان تحت آباطهم ويسبحون في بحار من الدمع" .. توحي العبارة بالتقسيم الطبقي للمجتمع , ( هنا ) حيث السلعة , تجد الطبقة الرأسمالية المستريحة , و( هناك ) من حيث يأتي الآخرون , المهمشون حزانى ، يلفحون الأكفان تحت آباطهم ويسبحون في بحار من الدمع .
" وأحياناً يحس بانتفاخ في بطنه يحسبه سمنة ، ولكنه سرعان ما يزول تاركاً غثياناً وقيئاً مدمما ."
" يلتقطها من هناك من أرض سلطان ، حيث تتطاير كحمائم من شرفات المباني ، علب فارغة ملونة ، عليها صور لبنات وشباب تنضح وجوههم حمرة ، يعلنون عن زيوت ومساحيق ومأكولات طازجة ، رائحة اللحوم والمشويات ما زالت عالقة بها ، يتشممها حتى ينام ،" .. والتسمية الموحية تشي بتمتع تلك الطبقة ساكنة أرض سلطان بالقوة والنفوذ . وهي هنا قوة ونفوذ المال المتمثل في الترف الاستهلاكي المعبر عنه بالعلب الملونة . بصور البنات والشباب تنضح وجوههم بحمرة الدم دلالة الصحة . ورائحة اللحوم والمشويات , التى يكتفي الفتى بتمثلها في أحلامه , بينما يتسرب خيط الدم من رئتيه .
" ينصحونه بالأبتعاد عن محافظات شمال الصعيد ، والذهاب إلي محافظات بها مصانع وموانئ وسياحة " .. فالتقسيم الطبقي لم يشمل فقط البشر , وإنما تتمتع المدن المركزية بالخير الوفير , ومصادر الرزق , بينما الأطراف غارقة في الجهل والفقر والتخلف .
" أمضي في شوارع المدينة كفأر في متاهة "
"يهدهده وينخسه في مواضع تفجر فيه الضحك " .. تعبير عن المجتمع غير العادل الذي يمنحك من طرف اللسان حلاوة . بينما يشيعك إلى الموت مشفوعاً برقصة احتفالية , وبسعادة وهمية لا تتجاوز النخس في مواضع تثير الضحك .
__________________
ملاحظات :
إنهم يشترطون رؤية الموتى بأعينهم ، كما انهم سيعلمون انني سأموت قبل أن أدلي بصوتي في الإستفتاء ولن أنتخب مرشحهم ، ( مقحمة )
أنا لا أحب أن آخذ صدقة من أحد... ( زائدة )
تحياتي لإبداعك صديقي محمد عبد الحكم . استمتعت بقصة قصيرة جيدة .
__________
نص القصة :
بائعُ الأكفان يضحك أحيانا
لم يكن بائع الأكفان قد انتهى من رشرشة الدكان وتسوية الأكفان حتى وجده أمامه ، يسرح ظله النحيل في مستطيل الضوء ،كان مبتسماً وهو يسأله " بكم الكفن ؟ ".
قال له إجلس هنا أيها الفتى ، وراح يعرض أمامه الأكفان ( هذا كفن شرعي ، وهذا فيه زيادة يحبها بعض الناس ) .
حين وجد وجه الشاب غير راضٍ عن الثمن ، قال له انه لا يفاصل مع أحد ، ولكن سيترك من أجله عشرة جنيهات ، ثم سأله إن كان يريده " حريمي أم رجالي " ضحك الشاب وقال " أريده شبابا " ، عاد البائع إلى دهشته المصحوبة بابتسامة قلما يفعلها في دكانه ، فكل الذين يأتون هنا حزانى ، يلفحون الأكفان تحت آباطهم ويسبحون في بحار من الدمع ، كانت الشمس الداخلة من فتحة الباب قد بدأت تنسحب عن ماكينة الخياطة والأرضية المرشوشة ، فرفع الشاب قلة بجواره وراح يستعذب الماء المندلق في فمه ، قال للبائع إنه يريد كفناً له ، يريده موفورا ، فإن جسده ما زال في طورالنمو، وأحياناً يحس بانتفاخ في بطنه يحسبه سمنة ، ولكنه سرعان ما يزول تاركاً غثياناً وقيئاً مدمما .
كان البائع قد نفض يديه من كل شئ وراح يدنو منه ، يلاحظ عن قرب تهدج أنفاسه وتطوحات ذراعيه وهو يحكي عن رؤيا الليلة السابقة ، كانت مختلفة تماما ، أحس بخدر يحتويه وهو يرى أبويه قادمين من فضاء البنفسج ، هكذا كطائرين حطا فجأة وفتحا ذراعين مدّ البصر ، وقالا( تعال) ، وكان سيقترب ويلمس ويذوب في ربيع الحضن ، لولا صوت جاره وهو يدير التاكسي في عملية إحماء قبل طلوع الفجر، يضرب فوطته الصفراء بعنف على واجهة الشباك ، فتتطاير العلب الفارغة ، تلك التي يسد بها ثقوباً تزداد اتساعاً كل يوم ، فتدخل هيصة العيال وعيون المتطفلين ، يلتقطها من هناك من أرض سلطان ، حيث تتطاير كحمائم من شرفات المباني ، علب فارغة ملونة ، عليها صور لبنات وشباب تنضح وجوههم حمرة ، يعلنون عن زيوت ومساحيق ومأكولات طازجة ، رائحة اللحوم والمشويات ما زالت عالقة بها ، يتشممها حتى ينام ، وسادته بجوار النافذة ، والبنات اليقظات على العلب عيونهن لا تنغلق أبدا ، يراقبنه حتى ينام ، يتسللن إلى أحلامه ، يطاردنه بين الأزقة والدروب حتى يسقط منهكا ، تعلو أنفاسه وينتفخ بطنه ، وتزداد خبطات جاره على الشباك ككرباج يلهب الصمت ، عندها يصحو ، يجد خطي الدم المنسابين على حافتي فمه يتسربان إلى شقوق الحجرة .
صباح آخر ومشواره اليومي من مساكن الأيواء جنوباً حتى أرض سلطان شمالا ، يجوب أرجاء المدينة بحثاً عن عمل ، يسأل أصحاب المحلات ، ينصحونه بالأبتعاد عن محافظات شمال الصعيد ، والذهاب إلي محافظات بها مصانع وموانئ وسياحة ، يريد أن يقول لهم وهو واقف يهتز بلا ريح : إن لديه حجرة ورثها عن أبيه ، جاره صاحب التاكسي يريد الإستيلاء عليها ، قالها له صراحة : سأجعلك تتركها أو أميتك كمدا، أية أحبة تتحدث عنهم، لقد رأيتهم منذ كنا جيراناً هناك في(الصباحية) ، كانوا عرقى وماتوا بالمرض ، وأنت مثلهم تكاد تختفي من الهزال ، يذكره بأنه سوف يلقى مصير أبويه .. حيث تجمع المارة على أنين أب متقوس يطرش الدم من فمه ، يتلوى على الأرض الرطبة ويشخر حتى يموت ، أمه كذلك .
كان بائع الأكفان يبكي بحرقة ويلملم الشاب في وسع حضنه ، قال له إذهب إلى المسجد المجاور، فيه أكفان صدقة، ضحك الشاب بصوت مسموع، قال يا سيدي هذه الأكفان ليست للأحياء ، إنهم يشترطون رؤية الموتى بأعينهم ، كما انهم سيعلمون انني سأموت قبل أن أدلي بصوتي في الإستفتاء ولن أنتخب مرشحهم ، أنا لا أحب أن آخذ صدقة من أحد ، أبي قبل موته بأيام باع ساعته واشترى كفنا ، وأمي باعت فردة حلقها من أجل دراستي ، الأخرى اشترت بها كفناً لها ، وأنا أستند على الوجع وأبحث عن عمل ، أمضي في شوارع المدينة كفأر في متاهة ، أحياناً أجد عملاً يسيرا يناسب ضعفي ، أكنس دكاناً أو أمسح سيارة ، أداري لهاثي وتعبي ومؤهلي الدراسي وأبصق الدم من فمي ، معي جنيهات قليلة وأريد كفناً قبل مجئ الغروب ، أعرف أني سألقى والديَّ هذه الليلة ، سأنام مبكرا ، أتناسى مضايقات جاري وألماً يسرح عبر مفاصلي ودماً ينساب على حافتي فمي ، ألتقط أنفاسي الصعبة وأتكئ على شرفات الكون ، أعانق رائحة المسك ولمع النور وفضاء البنفسج وحضناً مفتوحاً بوسع المدى ، خذ يا سيدي هذه الجنيهات ، سأعمل لديك حتى تستوفي الثمن .
راح على عجل يكنس الدكان ويملأ القلال ، يتأمل عن قرب ذلك الكفن الذي وضعه الرجل في زاوية قريبة ، يرنو إليه ككأس بطولة ، يود لو يرتديه كبدلة عرس قبل مجئ الز فاف ، يتحسس ملمسه ويقبله ويعاود العمل بنشاط ، وعينه على شمس توشك أن تسقط خلف المباني البعيدة . حين سمع آذان المغرب توقف ، راح يردد خلف المؤذن بصوت إندهش له المارة ، كان صوته يعلو بالتكبير في فضاءات المدينة ، يتخطى حدود محافظات الصعيد ويجلجل بين جنبات الوطن ، لحظة
توقفت فيها كل المطارات والموانئ والمدن الصناعية والسياحية ، وتعلقت يد جاره بالفوطة قبل أن ينزلها بعنف على الشباك ، وشكلت أجساد المتعبين علامات استفهام على امتداد الطريق الصحراوي والزراعي ، من مخرج الجيزة شمالاً حتي مدينة أبو تيج جنوبا ، أدى الصلاة وراح يحتضن كفنه ويدور به ، في البداية كان بطيئا ، ثم انطلق كراقص تنورة ، وقام بائع الأكفان يحتضنه ويدور معه بين فرح ولهفة وضحك ولهاث وهالات نورانية ووقع دفوف آتية من عمق المجهول ، كان الفتى بين يديه خفيفاً كيمامة ، يوشك ان ينفلت في قبة الفضاء ، جسدان يعاندان الجاذبية ويمرحان في براح الضوء ، والمارة يتوقفون ، والفتي يسقط مترنحاً وضاحكا ، لقد انكفأ فوقه بائع الأكفان يهدهده وينخسه في مواضع تفجر فيه الضحك ، يتفرس في وجهه المبتسم ، كان ميتاً يحتضن كفنه وينطلق إلى الأحضان المفتوحة .

التسميات: