كويدرة والمتمردون .. قصة قصيرة .. الأديب الناقد المغربي/ صالح هشام
كويدرة و المتمرد ون
صالح هشام
المغرب
أتلمس جدار ذاكرتي ، أجد نتوءاته اضمحلت ، امّحت تماما : جدار أملس ، رخو ، مترهل ، تتشظى عليه أحداث الماضي ، ثم تنزلق ، ولا تعلق به ولو ذرة من حكاية ، أنسى كل شيء ، نتو ءٌ واحد منحوت ، يستحيل أن يتلاشى :
كويدرة : شبح ضبابي، يغازل شرنقة مخي ، يخترقني ، و يعبر متاهات نسياني ولكأني به مني قاب قوسين أو أدنى ، أكاد ألمسه .. هو بلحمه وشحمه ، أكاد أشم أنفاسه المفعمة بروائح الجانكا
سحنة سمراء، بلون حبيبات قمح قديمة ، قامة قصيرة ، تلتصق بالأرض، بطن منتفخة مكورة ، ركبتان معقوفتان تصطكان ، تخاله يتدحرج ولا يمشي كباقي خلق الله !
يعشق هذيان الهروب من واقع جريح ،أغبر .. دنيا عوجة ، تعانق السّراق بالأحضان ، وتركل الشرفاء على المؤخرات !
أتذكره يوما ،يضع أصابعه العريضة في عيوننا ، يتف، و يقهقه ساخرا ، يكاد يستلقي على قفاه ، وبشيطنته المعهودة :
- وجوهكم يا سلالة إبليس ، متشققة صفراء ، يا وجوه النحس ، تنبت عيونا ماكرة ، وقحة لا تخجل ، تشي بشيء من حقرة وتهميش استوطنكم من الرأس إلى الكاحل ، كلكم صفر ضعفاء جبناء !
كنا مرتعا خصبا لسخريته ودعاباته الشيطانية !
كويدرة : مدمن كحول ، كحوله خالص ،لا ينقص عن تسعين درجة ولا يزيد عنها ، يكره الخمور الشقراء ، و يشمئز من السجائر الشقراء :
الويسكي خمر لصوص ، فيه ملوحة من دم الحرافيش ، فيه رائحة من جيوب المغبونين ،تشربه بطون عفنة متخمة بعجين البسطاء ، يردد دائما بفخرقول أبي العلاء المعري :
-يجرون الديول على المخازي ٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠وقد ملئت من الغش الجيوب!
أما هو فهذا الكحول الرخيص، ينبت له جناحين ، يوقظ في رأسه أعشاش شياطين الحكمة ، وعلى بساط رغوته البيضاء :
يحزم الصاري بحبال مفتولة من الجنون ، يرفع الشراع ،يهدهد المجذاف ، و يبحر في مركبه ، إلى جزر بعيدة ، لا بشر، لا شجر ، لا حجر ، فيها ،قرمزية النوارس ، مخملية الشطآن، تتكسر على صخورها أمواج عاتية ، من خمر لذيذ ، فاقع الحمرة ،لاصفرة ولا رائحة [ ويسكي] فيه، خمر خال من كل شوائب اللصوصية، يستطيبه و ينتشي بفقره ويستلذذ ملوحة عوزه :
- يعزف أنغام الحرية في الهواء !
-ويرقص على هدوء صفحة الماء !
-شطحات مجنون تدغدغ الخواء !
ضبط كويدرة يوما من أيام العربدة ،يشرب الكحول، ويدخن الحشيش في بحيرة باريس الصغيرة ، كان في حالة تلبس ، أحيل ملفه على قسم الأخلاق العامة ،فقدم للمحاكمة في حالة اعتقال ،تهمته رخيصة : تناول "كحول غير صالح للشرب" ، يسأله القاضي :
- إسمك ٠٠٠ سنك ٠٠٠مهنتك ؟
في خفر العروس ، يلصق عينيه بالأرض ، يتجاهل السؤال ، يصرخ القاضي في وجهه بغضب بيّن :
-يا رجل ألم تسمع سؤالي ؟ أم أنك تتعمد عرقلة مسار العدالة ؟
يقهقه كويدرة عاليا ،ساخرا منه :
- أتقصدني أنا يا سيدي ؟
-ومن غيرك ؟ أمامي أنت والجدار !
أنا لست رجلا ياسيدي ، لو كنته ، لما وجدتني هنا أمامك ،يحاكم خمرك الأشقر القادم من وراء المحيطات ، ذي علامة العكازة والطربوش ،خمري الأحمر الذي لا يساوي حبة بصل !
تعم الفوضى ، وتسري قهقهات الشماتة في كل أرجاء المحكمة ، و يهدد القاضي الحضور بإخلا ء القاعة :
- أجب عن سؤال القاضي يا رجل !
يبتلع كويدرة ريقه وتلمع عيناه الحمراوان :
- إسمي كويدرة : نبتة برية ،ترعرعت في تربة فاسدة ،يتبول عليها الحمير ، ويدنس طهارتها زناة الليل والسراق ،و يمتص ماءها خفافيش الظلام !
إسمي لم يحظ بالذبيحة ، ثقبت أرضة المفسدين في الأرض جيوب أبي ، لم يبق له فلس لشراء كبش عقيقتي .
-سني : أمي لم تزغرد يوم مولدي ، ضيفا ثقيلا حللت ، كيف لها أن تزغرد ؟ لم تكن تملك جرعة حليب ، وثديها مترهل كفلفل مشوي ، عاث فيه الفقر فسادا، يا سيدي : كانت عندما أجوع ترضعني ماء ، ولا شيء غير ماء ساخن ! ،
-مهنتي : لص، لكني لا أسرق الميزانيات ، أسرق دريهمات قليلة من جيوب الأطفال الصغار ، أكتري لهم الدراجة بنصف درهم لكل ساعة ،و دريهمات أخرى عندما أمتعهم بألعابي وخدعي السحرية، أليست هذه سرقة مشروعة يا سيدي ؟ أليست هذه سرقة ، أشرف من امتصاص دم الناس كالقراد ؟
يتأفف القاضي ويضغط على صدغيه بقوة ويعلن مكرها تأجيل الجلسة !
يسخر منه كويدرة قائلا :
- حكم [الويسكي] على [الروج] أتوقعه قاسيا ، باطلا وما يصدر عن باطل فهو باطل لا محالة يا سيدي !
كويدرة .. هذا الرجل أمره عجيب ، غريب أغرب من الغرابة ! فيلسوف يحب الدعابة ، نحترمه ونحبه، يقسو علينا حينا ، ونقسو عليه أحيانا .. هو منا ونحن منه ، نكتري منه دراجات هوائية صغيرة ، فيمتعنا و نمتعه بنصف درهم لكل ساعة ،سومة كرائية معقولة ، تراعي عوزنا ،لم يكن جشعا ، يكفيه من جيوبنا ما يقتني به [قبوشة/ قنينة ] من كحول لا لون له ، رائحته تشق القلب ،لكنه مفتاح لباب سعادته المجنونة ، ورؤيته الفلسفية :
رؤية تقزم المظاهر الخداعة ، وتفضح النفاق الاجتماعي ،كحول فعال ، يعلق طويلا بجدار المعدة : تسعون درجة قادرة على تشغيل محركات طائرة نفاثة ، يحلق به إلى قمة القمم ،حمقه حكمة ، وهذيانه نظرة عميقة لعالم عم فيه الفساد البلاد والعباد، وساد فيه العبث ٠ يعشق التحليق خالصا ،بين الفينة والأخرى تعكرصفوه دوريات رجال الشرطة و (سين وجيم ) كروش الحرام !
كلهم ينعثونه بالحمق والجنون ، و هم الحمقى - المجانين ، أما هو فطفل صغير يعري حقيقة حماقات البشر من زيف طلائها ٠٠ حماقات يعتقدونها حكمة ،فتجعل منهم موضوعا دسما لسخريته اللاذعة ، وما حكمهم في نظره إلا تفاهات و مسرح خيال و أحلام بقرة !
تلفظنا أبواب المدرسة ،نعرج عليه ، نجده منهمكا في إصلاح ما عاب من دراجاته الهوائية الصغيرة !
نستفزه بسؤال أو سؤالين ،نعشق أن يسلقنا بلسانه الناري ، لننتشي بحديثه :
-كويدرة ! كيف ترانا ؟ و من نحن ؟
يمسح بنظراته الحادة أجسادنا الصغيرة ،من الرأس إلى أخمص القدمين :
-أنتم زهور برية ، لم تتفتح بعد ، ستقتل نضارتها حرارة رمال صحراء قاحلة !
أراكم ضباعا تنام طويلا ،ثم تسرق صيد السباع !
أراكم مشروع قمل مصاص ، يقتات من دم الجياع !
نضحك حتى البكاء ، ويجامله أحدنا :
- ما أروعك يا كويدرة ! تُدخل الجمل من الأذن اليمنى، وتستله من اليسرى كشعرة من عجين ، أنت عاصفة دون غبار ، فيلسوف دون سمعة ، حكيم دون صومعة !
يتظاهر بعدم الاهتمام بهذا الإطراء :
- و كيف تروني أنتم ؟ من أنا ؟
- نراك واعظا لبيبا دون جمهور!
نراك ملكا عظيما دون مملكة !
نراك قائدا كبيرا دون جيوش !
يضع مفتاح البراغي ، يشعل لفافة محشوة بالحشيش، يمتص دخانها ، يتلمظ نكهته ، يلتصق جلد وجهه بأضراسه المسوسة ، ويعب جرعة كحول،يزود مركبه المبحر بقليل من الطاقة ويقول:
-أخطأتم معرفتي يا أولاد ! أنا قطعة قماش شفاف من منامة تفضح عورة شهرزاد ، وتشعل نار حقد شهريار، أمسح غيوم الليل عن وجه القمر ،لأضيء العتمة ، أغزل من الألوان قوس قزح ،أخلق الجلال والجمال ، أنا [دو ن كيشوت] أحلم بتغيير العالم! أحارب طواحين اللصوص ، وأتصدى لرياح الفساد ،مطيتي عجفاء جوعى ، سيفي قديم ، يغلفه الصدأ ٠أتعرفون من هو [دون كيشوت ] يا سلالة الحرافيش ؟.
تتسع أحداقنا ونتبادل نظرات ، الاستغراب :
- كيف لك أن تعرف [دون كيشوت] ، وأنت لم يسبق لك تفكيك حرف ، ولا تخرجت من مدارس ، والله هذيانك هذا رأس الحكمة وجوهر الحقيقة ؟
-يا هؤلاء ، يا جهلة ! ما قيمة مدارس تفصل المعرفة على مقاسات خاصة ، تراعي مصالح شخصية ؟ أما زلتم تؤمنون بسعادة الإسكافي وتعاسة الغني ؟ إن هي إلا أفكار خاطئة ، المعرفة : رغبة ، قوة إرادة وهي فطرية في الإنسان ! أما زلتم تؤمنون بمعارف المدارس ؟ لعمري إ ن الحياة بحار معارف لا شطآن لها ، صحاري لا رمال لها ، متاهة متعدد ة المداخل والمخارج !
نفغر أفواهنا ، نفكر طويلا ، هذا كلام يزرع بذرة الشك في أنفسنا ، بذرة قد نسقيها قطرة ، قطرة ، لتنمو وتكبر في أدمغتنا الصغيرة ، فتتفرع بذورا لاتعد، كخلايا سرطان وتجتاح مدى الرصاص، في سنوات الرصاص ، سنعيد ترتيب أوراقنا ، سنشك في معرفة تقررها الداخلية ، ويسهر على سلامة تطبيقها بصاصو وأبواق القمع المخزني ، سنشك في كل ما تلتقطه راداراتنا من أفواه مدرسين مجبرين لا مخيرين !
ومن يدري ؟ ربما نكون[ دون كيشوت ] المستقبل، نغير عالما يجب تغييره !
كويدرة مات ، كويدرة مات ! كويدرة مات !
يسري الخبر في الدروب والأزقة .. نارا اشتعلت في قطعة قماش مزيتة، نتلقى الخبر بذهول كبير! بسرعة الخطاطيف ، نقصد كويدرة ، حشود كبيرة ، تتجمع أمام محل الدراجات ، الكبار يحوقلون ،والنساء زرافات زرافات، يلكن الفضيحة :
- كويدرة : مات مخمورا ، قتله الكحول الرخيص !
مستلق على ظهره ، يعانق المسكين فراغ الفراغ ، رغوة ثلجية تغطي وجهه كله، عيناه جاحظتان ، قنينات الكحول مبعثرة في زوايا المكان ، لم نكن نعرف شيئآ مما وقع ،كل مانعرفه :
-كويدرة أراد أن يبحر بعيدا ، أن -يداعب النوارس القرمزية في جزره البعيدة، هذه المرة ،تشظى مركبه ، و انكسر مجذافه ، رحلة إبحار انتهت بمأساة !
شيخ طاعن في السن يجس نبضه ، يحوقل والدمع يلمع في عينيه :
-لا حول ولا قوة إلا بالله ،لقد احترق الرجل يا ناس ! التهبت أمعاؤه ، هذا الكحول فتيل لإشعال النار ، فما بالكم بجسد آدمي ، رحمه الله وغفر له !
تنتهي رحلة كويدرة ،و تستأنف بذرة الشك رحلتنا : تنبت زهورا في أدمغة شاخت قبل الأوان ، تنبت فينا أشواك وعي شقي وتمرد على واقع آسن جريح، يستمد كينونته من عفونة الزنازن و الرصاص !
التسميات: قصة قصيرة