الخميس، 23 مارس 2017

كويدرة والمتمردون .. قصة قصيرة .. الأديب الناقد المغربي/ صالح هشام

كويدرة و المتمرد ون 

صالح هشام 

المغرب


 

أتلمس جدار ذاكرتي ، أجد نتوءاته اضمحلت  ، امّحت تماما : جدار أملس ، رخو ، مترهل ، تتشظى عليه أحداث الماضي ، ثم تنزلق ، ولا تعلق به ولو ذرة من حكاية ، أنسى كل شيء ، نتو ءٌ واحد منحوت ، يستحيل أن يتلاشى :
 كويدرة : شبح ضبابي، يغازل شرنقة مخي ، يخترقني ، و يعبر متاهات نسياني ولكأني به مني قاب قوسين أو أدنى ، أكاد ألمسه .. هو بلحمه وشحمه ، أكاد أشم أنفاسه المفعمة بروائح الجانكا
 سحنة سمراء، بلون حبيبات قمح قديمة ، قامة قصيرة ، تلتصق بالأرض، بطن منتفخة مكورة ، ركبتان معقوفتان تصطكان ، تخاله يتدحرج ولا يمشي كباقي خلق الله !
 يعشق هذيان الهروب من واقع جريح ،أغبر .. دنيا عوجة ، تعانق السّراق بالأحضان ، وتركل الشرفاء على المؤخرات !
 أتذكره يوما ،يضع أصابعه العريضة في عيوننا ، يتف، و يقهقه ساخرا ، يكاد يستلقي على قفاه ، وبشيطنته المعهودة :
 - وجوهكم يا سلالة إبليس ، متشققة صفراء ، يا وجوه النحس ، تنبت عيونا ماكرة ، وقحة لا تخجل ، تشي بشيء من حقرة وتهميش استوطنكم من الرأس إلى الكاحل ، كلكم صفر ضعفاء جبناء !
كنا مرتعا خصبا لسخريته ودعاباته الشيطانية !
 كويدرة : مدمن كحول ، كحوله خالص ،لا ينقص عن تسعين درجة ولا يزيد عنها ، يكره الخمور الشقراء ، و يشمئز من السجائر الشقراء :
 الويسكي خمر لصوص ، فيه ملوحة من دم الحرافيش ، فيه رائحة من جيوب المغبونين ،تشربه بطون عفنة متخمة بعجين البسطاء ، يردد دائما بفخرقول أبي العلاء المعري :
-يجرون الديول على المخازي ٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠وقد ملئت من الغش الجيوب!
 أما هو فهذا الكحول الرخيص، ينبت له جناحين ، يوقظ في رأسه أعشاش شياطين الحكمة ، وعلى بساط رغوته البيضاء :
 يحزم الصاري بحبال مفتولة من الجنون ، يرفع الشراع ،يهدهد المجذاف ، و يبحر في مركبه ، إلى جزر بعيدة ، لا بشر، لا شجر ، لا حجر ، فيها ،قرمزية النوارس ، مخملية الشطآن، تتكسر على صخورها أمواج عاتية ، من خمر لذيذ ، فاقع الحمرة ،لاصفرة ولا رائحة [ ويسكي] فيه، خمر خال من كل شوائب اللصوصية، يستطيبه و ينتشي بفقره ويستلذذ ملوحة عوزه :
- يعزف أنغام الحرية في الهواء !
-ويرقص على هدوء صفحة الماء !
-شطحات مجنون تدغدغ الخواء !
 ضبط كويدرة يوما من أيام العربدة ،يشرب الكحول، ويدخن الحشيش في بحيرة باريس الصغيرة ، كان في حالة تلبس ، أحيل ملفه على قسم الأخلاق العامة ،فقدم للمحاكمة في حالة اعتقال ،تهمته رخيصة : تناول "كحول غير صالح للشرب" ، يسأله القاضي :
- إسمك ٠٠٠ سنك ٠٠٠مهنتك ؟
في خفر العروس ، يلصق عينيه بالأرض ، يتجاهل السؤال ، يصرخ القاضي في وجهه بغضب بيّن :
-يا رجل ألم تسمع سؤالي ؟ أم أنك تتعمد عرقلة مسار العدالة ؟
يقهقه كويدرة عاليا ،ساخرا منه :
- أتقصدني أنا يا سيدي ؟
-ومن غيرك ؟ أمامي أنت والجدار !
 أنا لست رجلا ياسيدي ، لو كنته ، لما وجدتني هنا أمامك ،يحاكم خمرك الأشقر القادم من وراء المحيطات ، ذي علامة العكازة والطربوش ،خمري الأحمر الذي لا يساوي حبة بصل !
 تعم الفوضى ، وتسري قهقهات الشماتة في كل أرجاء المحكمة ، و يهدد القاضي الحضور بإخلا ء القاعة :
- أجب عن سؤال القاضي يا رجل !
يبتلع كويدرة ريقه وتلمع عيناه الحمراوان :
 - إسمي كويدرة : نبتة برية ،ترعرعت في تربة فاسدة ،يتبول عليها الحمير ، ويدنس طهارتها زناة الليل والسراق ،و يمتص ماءها خفافيش الظلام !
 إسمي لم يحظ بالذبيحة ، ثقبت أرضة المفسدين في الأرض جيوب أبي ، لم يبق له فلس لشراء كبش عقيقتي .
 -سني : أمي لم تزغرد يوم مولدي ، ضيفا ثقيلا حللت ، كيف لها أن تزغرد ؟ لم تكن تملك جرعة حليب ، وثديها مترهل كفلفل مشوي ، عاث فيه الفقر فسادا، يا سيدي : كانت عندما أجوع ترضعني ماء ، ولا شيء غير ماء ساخن ! ،
 -مهنتي : لص، لكني لا أسرق الميزانيات ، أسرق دريهمات قليلة من جيوب الأطفال الصغار ، أكتري لهم الدراجة بنصف درهم لكل ساعة ،و دريهمات أخرى عندما أمتعهم بألعابي وخدعي السحرية، أليست هذه سرقة مشروعة يا سيدي ؟ أليست هذه سرقة ، أشرف من امتصاص دم الناس كالقراد ؟
يتأفف القاضي ويضغط على صدغيه بقوة ويعلن مكرها تأجيل الجلسة !
يسخر منه كويدرة قائلا :
 - حكم [الويسكي] على [الروج] أتوقعه قاسيا ، باطلا وما يصدر عن باطل فهو باطل لا محالة يا سيدي !
 كويدرة .. هذا الرجل أمره عجيب ، غريب أغرب من الغرابة ! فيلسوف يحب الدعابة ، نحترمه ونحبه، يقسو علينا حينا ، ونقسو عليه أحيانا .. هو منا ونحن منه ، نكتري منه دراجات هوائية صغيرة ، فيمتعنا و نمتعه بنصف درهم لكل ساعة ،سومة كرائية معقولة ، تراعي عوزنا ،لم يكن جشعا ، يكفيه من جيوبنا ما يقتني به [قبوشة/ قنينة ] من كحول لا لون له ، رائحته تشق القلب ،لكنه مفتاح لباب سعادته المجنونة ، ورؤيته الفلسفية :
 رؤية تقزم المظاهر الخداعة ، وتفضح النفاق الاجتماعي ،كحول فعال ، يعلق طويلا بجدار المعدة : تسعون درجة قادرة على تشغيل محركات طائرة نفاثة ، يحلق به إلى قمة القمم ،حمقه حكمة ، وهذيانه نظرة عميقة لعالم عم فيه الفساد البلاد والعباد، وساد فيه العبث ٠ يعشق التحليق خالصا ،بين الفينة والأخرى تعكرصفوه دوريات رجال الشرطة و (سين وجيم ) كروش الحرام !
 كلهم ينعثونه بالحمق والجنون ، و هم الحمقى - المجانين ، أما هو فطفل صغير يعري حقيقة حماقات البشر من زيف طلائها ٠٠ حماقات يعتقدونها حكمة ،فتجعل منهم موضوعا دسما لسخريته اللاذعة ، وما حكمهم في نظره إلا تفاهات و مسرح خيال و أحلام بقرة !
تلفظنا أبواب المدرسة ،نعرج عليه ، نجده منهمكا في إصلاح ما عاب من دراجاته الهوائية الصغيرة !
نستفزه بسؤال أو سؤالين ،نعشق أن يسلقنا بلسانه الناري ، لننتشي بحديثه :
-كويدرة ! كيف ترانا ؟ و من نحن ؟
يمسح بنظراته الحادة أجسادنا الصغيرة ،من الرأس إلى أخمص القدمين :
-أنتم زهور برية ، لم تتفتح بعد ، ستقتل نضارتها حرارة رمال صحراء قاحلة !
أراكم ضباعا تنام طويلا ،ثم تسرق صيد السباع !
أراكم مشروع قمل مصاص ، يقتات من دم الجياع !
نضحك حتى البكاء ، ويجامله أحدنا :
 - ما أروعك يا كويدرة ! تُدخل الجمل من الأذن اليمنى، وتستله من اليسرى كشعرة من عجين ، أنت عاصفة دون غبار ، فيلسوف دون سمعة ، حكيم دون صومعة !
يتظاهر بعدم الاهتمام بهذا الإطراء :
- و كيف تروني أنتم ؟ من أنا ؟
- نراك واعظا لبيبا دون جمهور!
نراك ملكا عظيما دون مملكة !
نراك قائدا كبيرا دون جيوش !
 يضع مفتاح البراغي ، يشعل لفافة محشوة بالحشيش، يمتص دخانها ، يتلمظ نكهته ، يلتصق جلد وجهه بأضراسه المسوسة ، ويعب جرعة كحول،يزود مركبه المبحر بقليل من الطاقة ويقول:
 -أخطأتم معرفتي يا أولاد ! أنا قطعة قماش شفاف من منامة تفضح عورة شهرزاد ، وتشعل نار حقد شهريار، أمسح غيوم الليل عن وجه القمر ،لأضيء العتمة ، أغزل من الألوان قوس قزح ،أخلق الجلال والجمال ، أنا [دو ن كيشوت] أحلم بتغيير العالم! أحارب طواحين اللصوص ، وأتصدى لرياح الفساد ،مطيتي عجفاء جوعى ، سيفي قديم ، يغلفه الصدأ ٠أتعرفون من هو [دون كيشوت ] يا سلالة الحرافيش ؟.
تتسع أحداقنا ونتبادل نظرات ، الاستغراب :
 - كيف لك أن تعرف [دون كيشوت] ، وأنت لم يسبق لك تفكيك حرف ، ولا تخرجت من مدارس ، والله هذيانك هذا رأس الحكمة وجوهر الحقيقة ؟
 -يا هؤلاء ، يا جهلة ! ما قيمة مدارس تفصل المعرفة على مقاسات خاصة ، تراعي مصالح شخصية ؟ أما زلتم تؤمنون بسعادة الإسكافي وتعاسة الغني ؟ إن هي إلا أفكار خاطئة ، المعرفة : رغبة ، قوة إرادة وهي فطرية في الإنسان ! أما زلتم تؤمنون بمعارف المدارس ؟ لعمري إ ن الحياة بحار معارف لا شطآن لها ، صحاري لا رمال لها ، متاهة متعدد ة المداخل والمخارج !
 نفغر أفواهنا ، نفكر طويلا ، هذا كلام يزرع بذرة الشك في أنفسنا ، بذرة قد نسقيها قطرة ، قطرة ، لتنمو وتكبر في أدمغتنا الصغيرة ، فتتفرع بذورا لاتعد، كخلايا سرطان وتجتاح مدى الرصاص، في سنوات الرصاص ، سنعيد ترتيب أوراقنا ، سنشك في معرفة تقررها الداخلية ، ويسهر على سلامة تطبيقها بصاصو وأبواق القمع المخزني ، سنشك في كل ما تلتقطه راداراتنا من أفواه مدرسين مجبرين لا مخيرين !
ومن يدري ؟ ربما نكون[ دون كيشوت ] المستقبل، نغير عالما يجب تغييره !
كويدرة مات ، كويدرة مات ! كويدرة مات !
 يسري الخبر في الدروب والأزقة .. نارا اشتعلت في قطعة قماش مزيتة، نتلقى الخبر بذهول كبير! بسرعة الخطاطيف ، نقصد كويدرة ، حشود كبيرة ، تتجمع أمام محل الدراجات ، الكبار يحوقلون ،والنساء زرافات زرافات، يلكن الفضيحة :
- كويدرة : مات مخمورا ، قتله الكحول الرخيص !
 مستلق على ظهره ، يعانق المسكين فراغ الفراغ ، رغوة ثلجية تغطي وجهه كله، عيناه جاحظتان ، قنينات الكحول مبعثرة في زوايا المكان ، لم نكن نعرف شيئآ مما وقع ،كل مانعرفه :
 -كويدرة أراد أن يبحر بعيدا ، أن -يداعب النوارس القرمزية في جزره البعيدة، هذه المرة ،تشظى مركبه ، و انكسر مجذافه ، رحلة إبحار انتهت بمأساة !
شيخ طاعن في السن يجس نبضه ، يحوقل والدمع يلمع في عينيه :
 -لا حول ولا قوة إلا بالله ،لقد احترق الرجل يا ناس ! التهبت أمعاؤه ، هذا الكحول فتيل لإشعال النار ، فما بالكم بجسد آدمي ، رحمه الله وغفر له !
 تنتهي رحلة كويدرة ،و تستأنف بذرة الشك رحلتنا : تنبت زهورا في أدمغة شاخت قبل الأوان ، تنبت فينا أشواك وعي شقي وتمرد على واقع آسن جريح، يستمد كينونته من عفونة الزنازن و الرصاص !

أعجبني

التسميات:

السبت، 11 مارس 2017

وتبقى الفزاعات .. قصة قصيرة.. محمد علي برباش .. مصر


كبست أمي زر النور طالبةً مني أن " أتخمد " لأصحو باكراً رداً منها على سؤالٍ لا أرى حماقته
- هيقبلنى يا امي .. بجد هيقبلني ؟
و أنا " أمط بوزى " إليها بفضولٍ عميق لمعرفة تنبؤاتها التي لا تخيب
فغداً سيصطحبني أصحابى فى دُغشة الفجر لأعمل معهم في فرقة كشافة " دودة القطن "
 كنتُ طفلاً مدللاً ينتمي الى أسرة من تلك الأُسر التي تحسبها أغنياء من التعفف لذلك الى جانب نباهتى فى المدرسة لم يطلب مني أحدٌ قط أن أعمل فى هذا السن المبكر
 و لكنها بدايةً رغبةً مني فى المشاركة و ثانياً و الأهم حكاوي أصحابي عن متعة العمل فى الحقول و لاسيما حينما أجد " لُطعة " و اموء بصوت متموج ممدود
- لووووطططعة .. لووووطططعة
 تمددتُ على سريري أستحضر النوم و انا أجاهد فى رسم صورة لي غداً بين شجيرات القطن و هي ما زالت "


نوار " مسدلة الجفون
و أحسب أنني ما أغمضت عيني حتى سمعت صوتهم يتهادر بالخارج
- يا عبد الله ... يا عبد الله
فززت واقفاً و أيقظت أمي لتودعني كما كانت تفعل مع أبى قبل خروجه على المعاش
 صنعت لى " صُرة " أكل آخذها معى لغدائي أرمق أبى بنظرة حانية و هو مغموس فى لحاف عملاق و أنطلق معهم يسيطر علي هاجس لجوج من ليلتي ضآلة حجمي أكاد أجزم بأنى لن أروق لهذا المشرف المسؤول عن تنقية الأولاد و فرزهم فأنا قصير القامة جداً نحيف بشكل مبالغ فيه و أبدو أصغر من سني سنوات ، إلى جانب حسن مظهري و نظافة هندامي
 تجمعنا معشر الأولاد منتظرين هذا المشرف أناجيه فى صمتي الا يُشّمت فيَّ أحد و ألا يعيدني إلى أمي كما ذهبت
 جاء أخيراً ، يفرز الأولاد واحداً تلو الآخر . أتصور أنه يختار الطويل فالأطول و السمين فالأسمن. لم يبق غيري
أيقنت أنه لن يخذلني و يجعلني أعود وحدي
 - أنت ابن عم جمال السويسى ؟ . هكذا سأل
أومأت له بالنفي
- لا انا عبدالله ابو الشيخ
- و اية الهدوم اللى انت لابسها دى انت جي تتفسح ؟
- ممكن اروح البس غيرها " نطقت مرعوباً "
- انت كام سنة ؟
- عشر سنين . ." قلت فى ثقة "
- معتقدش ...
رد و هو يضحك بصوته السمج و تركني و أنصرف عني و الأولاد حولهُ كالذباب
أبقى وحدي كنعجة شاردة هجرها القطيع ، يساورني سؤال لماذا لم يأخدني ؟
 هناك من هو أقصر مني قامة و انحف عوداً و ماذا لو أجبته بنعم أنا " فلان بن فلان " هل كان سيقبلنى ؟ ليتني كذبت
 أتأبط " صرتي " و أعود أدراجي و عيني كمنابع نهر يصب فى حلقي لقد صدق حدسي فإن جئت للحق كنت أنا أصغرهم حجما فالأقصر طولا كان أعرض جسما و الأنحف جسما كان أطول قامة.. كان علي ألا أحاول من الأول
 تنبهتُ الي شيءٍ فى طريق عودتي لم أره فى ذهابي أوقف نشيجي فزاعات متعددة الاشكال و الألوان كثيرة بشكل يفوق الوصف حتى خلتها أكثر من العصافير المراد أفزاعها فى خضرة المكان اللامتناهي أقارن على الرغم مني قامتها بقامتي فألفيتها تناطح السحاب
 أصل الى امي محتضراً تحتضنني و تُربت على كتفي و تطلب مني أن انتظر للسنة القادمة حتى يشتد عودي
 أدركت حينها ان الاحلام لا تفترش الأرصفة ليبتاعها الغائد و الرائح الفارس و المترجل و أن الفزاعات لا تُصنع هباءاً و ترفاً و لكن لا شك فى أنها فوق الحاجة
 تذكرت هذا كله و أنا في طريقي الى عملٍ جديد تملؤني نفس الشكوك القديمة . لم يثير مخاوفي البنايات الشائهة على الجانبين و قد إلتهمت العصافير و الحقول و لا أن يتربع مركب نقصي مقتعداً الأرض فى نهاية الطريق و لا حتي الترقب لرؤية الفزاعات الحديثة بعد مرور أعوام و وقع منظرها علي و قد أشتد عودي بقدر ما كان من غياب " صُرة " الأكل تحت إبطي و تلك اليد التي كانت تُربت على كتفي بعدما أُملّي عيني بسحن الفزاعات

محمد على برباش
2/ 3/ 2017

التسميات:

الجمعة، 10 مارس 2017

عودة البلشون : قصة قصيرة: عبد الكريم الساعدي .. العراق

عودة البلشون

الأديب العراقي / عبد الكريم الساعدي 

 إلى: الشهيد الطفل الفلسطيني (عبدالله عيسى)





في لحظة غفلة يقع في الشِباك، تحاصره عيون طافحة بالتوحش، متّشحة بالخراب، تبرز لهم ملامح البراءة طفلاً مذعوراً، منكسراً، يطلق فزعه، تبزغ على الشفاه ابتسامات صفراء، تتهامس، تُبشّر بصيدها الثمين؛ السكين تبرق في فضاء مضمّخ بالدماء، تداعب عنقه الجميل، تحاصره التكبيرات، عيناه تستحمّان بموجة رعب، يلملم حتفه، المدى يغلق بابه، المسافة الممتدّة بين شجرة الزيتون وبحيرة الأسد تتقلص، تتلاشى، يستبدّ به عشق النجاة، يهزّه صوت أبيه:
- يا ولدي، كلّما نهشتك المحن، اقطف من بستان الحلم زهرة قرنفل، علّقها على باب القلب، وابتسم.

 يغمض عينيه، يبتلع شيئاً من خوفه، يرهف السمع لعزف سماوي، يتأمل طيفاً من فسحة الغياب، يعتلي سرج العشق، يهبط هناك، تشاكسه شرفته المطلّة على بحيرة هادئة، تهدهده رتعاشة موجها، يسحره ألق فراشاتها الملوّنة، تستفزّه أشجارها المزدحمة بأصوات الطيور، يغمره ضياء فجرها العابق بنشوة الأحلام؛ السكين تتربص اللحظة، تشاكس عروجه، يسقي عروق كبريائه، يمدّ بساط الشوق لطائر جميل، ناصع البياض، زاهد، يتلو أنشودة الفجر في ظلّ لحن شجي، يطرب الأسماع. كانت عيناه في مواسم الفرح تنظران بشغف إليه، يصيخ السمع لتراتيله، تبهجه رقصته، لم يعد مذ تَعمّد فضاء المدينة بغبار البارود؛ بيد أن شرفته ظلّت مشرعة نوافذها، الأيدي تلتفّ حوله، رقبته تلهث على حافة السكين، تبعثر صراخه، يحلم بالفناء، بالرحيل إلى عشّه؛ يغمره فيض من الوله، يحبس دمه، يخلع موته، تتشكّل أنفاسه جسراً، ينكشف الستر، يعبر ناحية شرفته مزدحماً بالوجد، حاملاً زوادته على طرف غصن الزيتون، ينتزع ذكرياته من رحم الغربة، يطوف سبعاً حول المخيم، يعود إلى نسغه، يجوب أطلال الخراب، يفتح أبوابه المختنقة بالذهول، يلثم نهد الأرض؛ ليصبح بساط العشب سجادة للصلاة؛ يتدثّر بالذكر، يغطي الأجساد الهامدة بعباءة آذان الفجر، يصعد محتجباً بضباب كثيف؛ يحمل صرة أسفاره، يهبط على ضفة شرفته المهملة، يحاور اللحظة، تدهمه بتغريد الطائر المهاجر، ينتفض مجنوناً بالشوق، تلهث عيناه في حنان، تجوبان الآفاق، تشتعل اثنتا عشرة شمعة لرؤيته، يحطّ، يسمع نبض أُلفته، يمدّ جناحيه، يعانقه، يشمّه، يقبّله، يعاتبه:
- لماذا تأخرت؟  تدمع أعين الأشجار والفراشات والطيور، تتساقط الدموع فرحاً، تختلط بماء البحيرة الهادئة؛ وقبل أن يُشيَّع رأسه، وتُلطخ أيدي الظلام بدمه، يفتح عينيه، يحدّق في مرايا السماء، يلجم فزعه، يصفع التماعة السكين بابتسامة هازئة، يتهجّى لحن الفناء، يرتّل بخشوع آية اللقاء:- حمداً لله، أنّك عدتَ إلى البحيرة، أيُّها البلشون الجميل.....................................................................................................  *البلشون: طائر يعيش بالقرب من المياه، يمتاز بطول سيقانه ورقبته، ويطلق على البلشون الأبيض أيضاً ( مالك الحزين )

التسميات: