الخميس، 31 مايو 2018

فن لغة القص وبناء الفضاء القصصي. المصطفى بلعوام

أنموذج
 القصة : لوحات عارية
 القاص : عادل المعموري

/-
د / مصطفى بلعوام - المغرب 
لعلنا أمام ثلاتة لوحات تكمل بعضها البعض من أجل لوحة واحدة تظل هي ذاتها قاصرة على أن تعبر عن الكل، مادامت عارية تبحث عن التخلص منه بالتقاط مشهديات مباشرة للرغبة وآليات مراوغتها بعيدا عن كلشيهات القيم وأحكامها. إنها مشهديات لعلاقة امرأة برجل ولوحة خلفية تمسك بخيوط ما يحرك مسرحهما. في اللوحة الأولى تكتشف المرأة
خيانة رجلها مع امرأة أخرى فتخرج بعد أن تجمع حاجياتها لا تلوي على شيء؛ بينما في اللوحة الثانية يحل محلها ليعاين خيانتها له مع رجل آخر فيقتلهما ويحرقهما مع ضحكة هيستيرية. أما اللوحة الثالثة، فتأتي مقوضة لما سبق في اللوحتين وذلك بانتزاع معادل الواقعية عما حدث فيهما : " استفاقا فجأة على صوت طفلهما وهو يصرخ..".
لكن أين نستشف براعة تقنية القاص عادل المعموري في كتابة القصة؟ أولا: في اللغة،
وثانيا: باللغة. فلا شيء في القصة غير اللغة التي بها تخرج من الحكاية وتشيد متتاليات القص متجاوزة أفعاله وفواعله على اعتبارها "تخدمه ولا تستخدمه" لبناء فضاء قصصي
محايث دوما وأبدا. يعتمد على ديكور واحد ومشهدية تضم شخصيتان قارتان وشخصية متغيرة تبعا لدور كل منهما فيها:
غرفة نوم بسيناريو واحد وشخصيتان قارتان يتغير دورهما فيه حسبما إذا كان فاعل فعل لازم أو متعدِّ، لغويا ودلاليا.
اللوحة الأولى : الرجل وعشيقته —الزوجة
اللوحة الثانية: المرأة وعشيقها —— الزوج
اللوحة الثالتة: الرجل والمرأة —— طفلهما
اللوحات الثلاتة تعتمد على مشهدية تتفرع
إلى لقطتا وجهة نظر (une prise de vue) للزوجة في اللوحة الاولى والزوج في اللوحة الثانية ومنظورية عامة panoramique في اللوحة الأخيرة. ولقطة وجهة نظر في لوحة واحدة تظل ناقصة بُعْد النظر لو نظرنا إليها منفصلة عن اللوحتين الأخريتين، لأنها أصلا
هي لقطة لصورة من وجهة نظر لا تكتمل إلا بوجهات النظر الأخرى، بمعنى أنهم يشكلون عُقْدات بورميانية noeuds borroméens،
تقتضي مناولتها من نقط تقاطعاتها.
وعليه، يمكن البدء بما نسيمه تأشيرة النص التي تحددها مجموعه وليس بما يسمى هُنَا وهناك "عتبة النص" والنص الموازي" الذي لا معنى له بمعزل عن النص بما أنه هو ذاته وحدة لغوية يضمها النص وليس نصا موازيا له وكأننا أمام نصين بحيث يقوم الأول بدور المرشد للدخول إلى الثاني، أي شرط دليله في فهمه؛ ففهمه هو من صلب فهم النص، وإلا يظل يتيم الدلالة حتى ولو تجولنا طولا وعرضا في معجم توليداته الدلالية؛ وبعبارة دقيقة، العتبة لها وجهان في الدلالة تستمد منهما دلالتها: وجه للدخول ووجه للخروج،
أي وجهان لعملة واحدة التي هي، في آخر المطاف، النص.
لنا هنا في نص القاص ع. المعموري تأشيرة لكل لوحة :
- تأشيرة اللوحة الأولى: يضم السرير جسديهما ( الرجل وعشيقته)
- تأشيرة اللوحة الثانية : دفع الباب فجأة، لم يصدق ما رأته عيناه ( الرجل).
- تأشيرة اللوحة الثالثة : استفاقا فجأة على صوت طفلهما (الرجل والمرأة).
جلي أن من تقاطع التأشيرات يمكن تحصيل
ركائز أولى ترسيمات قصة " لوحات عارية":
الرجل وعشيقته/ الرجل/ الرجل والمرأة. من الأول، يحرك الرجلُ اتجاه تأشيرات اللوحات الثلاتة ويمحورها في اتجاهين :
الرجل __<عشيقة>/<امرأة >. يتكلم جسده بعريه مع جسدها في الأول، ثم يدفع الباب ليجد نفسه في نفس المشهدية لكن بتغيير موقعه من فاعل لازم إلى فاعل متعدِّ ، من جسد (هو ) في جسد ( هي ) تعطينا إياهما اللوحة مباشرة كمعطى ملزم إلى فاعل فعل متعدِّ، عليه دفع الباب لمعرفة ما يلزم؛ وفِي الأخير يستفيق وبجانبه امرأته.
لكن منهجيا، ما مدى وجاهة هذه الترسيمة الأولية؟ ألا يمكن اعتمادها على المرأة أيضا مادامت هي الأخرى متورطة بشكل أو بآخر في نفس المشهدية؟ ولماذا لا نبدأ بما يعتبر عمود القصة الذي هو المحكي،أي الحكاية؟
في كلا الحالتين، سواء اعتمدنا على ما يعتبر عمود القصة ( المحكي) أو على لقطة وجهة نظر للمرأة، فلا مناص من تقصي فرضياتهما
ونجاعتهما الأدبية في حقل القصة القصيرة.

الفرضية الأولى :

إذا استندنا على المحكي في القصة باعتباره عمود الحكاية فيها، سننتهي إلى ما يلي:
حالة خيانة للرجل في اللوحة الأولى وللمرأة في اللوحة الثانية ثم يليها انفراج في اللوحة الثالتة: لم يك ذاك إلا "حلما"...

الفرضية الثانية:

إذا اعتمدنا على ترسيمة تخص لقطة وجهة نظر للمرأة، سنحصل على:
المرأة —- الرجل وعشيقته —- المرأة
هما فرضيتان تطرحان على القصة القصيرة إشكالية مادتها الأدبية وهويتها الفنية.
هل لها مادة أدبية؟
في أدنى تعريفها، القصة القصيرة هي سرد لحدث، بمعنى الحادث في تسلل أحداث ما كان له أن يحدث؛ سرد لكل ما هو استثنائي في الحدث. إذََا، كل حادث هو مؤهل بالقوة أن يكون سردا. لكن هل كل سرد لحادث ما يحقق بالضرورة قصة قصيرة؟
في أدنى تعريفه، السرد هو ترتيب الأحداث باللغة؛ وبناء عليه، كل حدث هو فعليا قابل لأن يصبح سردا. لا توجد طبيعة خاصة به؛ إذ يعني كل ما يحدث، وحالما يتحول كلاما يصبح سردا له. أي أن كينونة السرد هي من كينونة الحدث، يوجد بوجوده ووجودُه هو من وجود الذات التي هي ذاتها حدث؛ وبما أنها حدث أو مجموعه، فهي لا توجد إلا به "سردا" (جوليا كريستيفا).

الاستنباط الأول :

١- القصة القصيرة سرد، يعني أن كل قصة هي بالضرورة سرد.
٢- السرد هو "كلام" ترتيبي لقول الحدث، يعني أن كل سرد ليس بالضرورة قصة.

حالة تطبيقية :

الفرضية الأولى ترى في اللوحتين خيانة ذي وجهين:
- خيانة الرجل لامرأته مع عشيقته تنتهي بمغادرة المرأة له.
- خيانة المرأة لرجلها مع عشيقها تنتهي بقتل الرجل لها.
هي فرضية لأنها تعكس وجهة مقاربة تعتمد على استقصاء الحدث فيها. تستقصيه على أنه المحكي في القصة وتتسيج هذه الأخيرة به وكأنه لا يمكن الولوج إليها إلا عبره. بدءا، نفرض فرضية هي من البدء متعلقة بطريقة في التعامل مع القصة فيصبح ما نستخرجه منها هو القصة كما الحال هنا:
اللوحة الأولى تقص لنا حالة خيانة رجل مع عشيقته لزوجته. الخيانة حدث والحدث هو المحكي أي الحكاية، وحكيها هو سرد لها في ذات الآن. ويبدو التمييز سهلا وفق ذلك بين الحكاية والسرد على اعتبار أن الحكاية تُكَوًّن مضمون الحكي والسرد فعل وكيفية حكيه؛
مما يعني أن الحكاية تؤخذ على أنها الحدث والحدث على أنه الخبر.
لنأخذ للمقارنة تغطية قانونية كان يقوم بها أحد الصحفيين في عمود أسبوعي يتابع فيها محاكمة جنحةً او جريمة ويدونها تحث اسم "قصة وقضية".
وسقط القناع.... كان ذاك عنوان قضية قصة
امرأة عنَّفها زوجها الفقيه الورع إثر فضيحة خيانة في غرفة نومها مع امرأتين محترفتين في "بيع الهوى". القضية: خيانة مع جنحة الضرب والجرح. الحدث هنا هو المحكي أي مضمون الحكاية، وحكيها سرد لها، لكن بين الحكاية والسرد حدث سابق لهما. مما يعني أننا لا نعرف الحدث إلا بواسطة السرد؛ وبما أن السرد هو كيفية تعامله معه وفق منطقه الذي لا يخضع للواقع الزمني للحدث، فهذا يعني ألا وجود للحكاية مادامت هي الحدث عندما يسرد:"الحكاية لا توجد في حد ذاتها"
(ت.تودوروف).

للتوضيح:

في لوحة القاص ع.المعموري الأولى، يتعلق
الأمر بخيانة رجل لزوجته مع امرأة في غرفة النوم يترتب عنها مغادرة الزوجة له.
في التقرير الصحفي " قصة وقضية"، يتعلق الأمر أيضا بخيانة فَقِيه لزوجته مع امرأتين ينتج عنها بعد اكتشاف زوجته له بتعنيفه لها ضربا وجرحا (جنحة).
هل هذا هو الحدث في كلا الحالتين؟ وأين الحكاية؟ وما تعني في علاقتها بالحدث؟
الحدث هنا عبارة عن "خبر" لحادث يحكى، وبما أنه يحكى فهو حكاية التي لا تعني سوى ترتيب حادث في الحدث أي تحصيل حاصل
للشيء ذاته، نسميه حكاية وحدثا. وما محل السرد في إعراب الحكاية والحدث؟ يهتم هو بدوره بكيفية سرد الحدث الذي لا يعنيه في كرونولوجيته الزمنية ولكن في كيفية عرضه له حسبما يريد أن يلعب عليه في العرض.
مالفرق إذا بين لوحة القاص ع. المعموري
والتقرير الصحفي؟ لا شيء من حيث منطق العرض لهما؛ معا يسردان حدثا يعتبر أيضا
جكاية.
ولماذا لا يوجد فرق بينهما مع أنهما من ذي
فصيلتين مختلفتين في الكتابة؟ لأننا اخترنا مقاربتهما بفرضية تلغي الفارق بينهما وترد كل شيء إلى سرد لحدث لا يعنى سوى خبر لحادث. فنتعامل مع القصة القصيرة حسب منظور عام يقزم خصوصيتها ويرى على أنها مجرد سرد لحدث، علما أن السرد هو سمة عامة لكل كتابة وليس خاصية فنية يستمد منها هويته الأدبية. ولعل هذا ما يفسر نزوع جل الإنتاجات الحالية نحو كتابة بما نسيمه "قصص حوادث" عِوَض كتابة قصة قصيرة.
لكن هل هذا يعني غياب سرد يأخذ خاصيته من أدواته الفنية التي تميز القصة القصيرة؟

.الاستنباط الثاني:

- القصة القصيرة تتميز بالقفلة الصادمة
أو الإدهاش، تعتمد على التدرج في الحدث وتسلسله إلى حين مباغتة القاريء بشيء لا يتوقعه.
- كيفية صياغة الحدث ومعالجته الفنية
هما قفل القصة القصيرة.

حالة تطبيقية :

لنفرض أن القاص ع. المعموري كسر توقع القاريء في اللوحة الثالثة بعد أن رتب في اللوحتين السابقتين تسلسل الحدث وحقق إدهاشا بنتيجة صادمة غير متوقعة : "لم يك ذاك إلا حلما"، فهل ذَا يعني أن لم يعد شيئا يرجى منها؟ طبعا، إذا ما أخذنا تكسير توقع القاريء معيارًا للدهشة الذي قد يحصل في القراءة الأولى لكنه سرعان ما يتحول بدوره إلى توقع نتوقعه في القراءة الثانية.
والشيء نفسه يخص مسألة صياغة الحدث ومعالجته الفنية إذ نظل دوما داخل فرضية
تذييل القصة القصيرة بالحدث وكل ما تأتي به ما هي إلا تطعيمات جانبية لا تغير فيه أو منه قيد أنملة.
وماذا عن الفرضية الأخرى المتعلقة بلقطة وجهة نظر للمرأة التي نرى أنها إسقاط من غير حصيلة بإمكانها استجلاء براعة القاص ع. المعموري في فن كتابة القصة القصيرة؟
هنا مربط مقاربة القصة القصيرة والذي له علاقة بالفرضية الأولى. إنها لا تأخذ ماهيتها من حكيها لحدث أو لحادثة ما كما لو كانت مجرد تقرير "صحفي" ينقل معلومةَ واقِعَةِِ.
والأمر نفسه ينطبق على الحكاية بتحصيل حاصل للحدث، إذ لا "تشكل مادتها الأدبية"
(ت.تودوروف)؛ بمعنى أن كتابة حدث وحتى تلخيص حادثة في كلمات قليلة تعتمد على
التكثيف، والإيجاز والتلميح واللغة البلاغية؛ لا تعني بالضرورة أنها قصة قصيرة بمعناها الأدبي التي لا تكتب حدثا أو حادثة بل قصةَ قطعةِِ من حياة لا تُختصر فيما يحدث فيها؛
تحاول إعادة تشكيل بعض أشياء الحياة من خلال تجربة إنسانية تتجاوز التصور المقلص للإنسان إلى "فكرة" تبحث عن حدث أو إلى حدوثة تنتظر حكواتي ( reconstitution ).
لهذا، لا مناص من قراءتها في كيفية إعادتها
لتشكيل أشياء الحياة بعالم الكلمات، أو كما قال الأديب سليمان جمعة بتعبيره الجميل: "لحيظة من حياة"، وليس بإخضاعها لحدث يتدرج تصاعديا أو تنازليا.
وإذن، كيف نتعامل مع نص "لوحات عارية" للقاص عادل المعموري؟
إنه نص يبدو شفافا في معماريته ومشهدية لوحاته؛ يوحي من القراءة الأولى بأنه مكون من ثلاتة لوحات مستقلة عن بعضها البعض في بنية متنها ومقصديتها، كما تشهد بعض التعاليق على ذلك، مثال:
١- ثلات احتمالات من العلاقة الزوجية
٢- لوحات ترسم نهايات تجسد الفارق بين كونها خائنة أو كونه خائن..
في كل لوحة احتمال، ولكل احتمال "حدث" واحد يرصد مظهرا من مظاهر علاقة ممكنة بين الزوج والزوجة في فعل الخيانة وبتبادل الأدوار بينهما؛ هو بالفعل في اللوحة الأولى والثانية وبالقوة في اللوحة الثالثة مع بعض الغموض، كما أشار الأديب سليمان جمعة.
وهذا ما يعطيه النص في القراءة الأولية له وينسينا أنه مكون من لوحات لها وظيفة في بناء قصة القاص ع. المعموري:
خيانة الزوج —- مغادرة الزوجة
خيانة الزوجة —- قتل الزوج لها (وعشيقها)
دراماتورجية على الواجهة وبلوحات يبني بها وعليها القاص فضائية القصة باعتماده عَلى تقنية اللوحة في مسرحة الدراما والتي تعني تثبيت إطار المشهديات بزمن متقطع لكل مشهدية لا يبدو فيها "الحدث -الأزمة" على الواجهة. فلكل لوحة لقطة وزمن مقتطع من زمن المشهدية العامة وكأن لا روابط بينهم؛
لقطة مكتملة ظاهريا لكن مقصديتها ترتبط بناظم خلفية لكل اللقطات arrière-fond.
وبناء عليه، قد نحصر كل لوحة من اللوحات في فعل الحدث/الحادث فيها، ونقتصر على القول بأنها قضية امرأة تغادر زوجها بسبب خيناته لها، وقضية قتل زوج لزوجته بسبب خيانتها له مع رجل آخر. لا شيء جديد هنا من حيث الحدث/الحادث، ولا يتعلق الأمر كذلك بتقرير صحفي له؛ إنها قصة قصيرة تقتضي مقاربة كيفية إعادة تشكيل "لحيظة من حياة"، وإن اعتمدت على ثلاتة لوحات.
كيف؟
في اللوحة الاولى : (فعل معلوم/خيانة)؛
في اللوحة الثانية : ( فعل معلوم/ خيانة)؛
في اللوحة الثالتة : ( فعل مجهول : X).
لوحات عارية إلا الأخيرة على شكل معادلة بمجهول واحد في علاقة الزوج بالزوجة فور أن "استفاقا" على صراخ طفلهما :
١-
- قالت الزوجة : لما كنت تنظر إليّ بريبة.. مابك؟
- أنت كنت تنظرين إليّ بريبة أيضا .. ماذا حدث؟
سكتنا عن الكلام ..

وتمتمت:
- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم!
- لم تعوذت من الشيطان الرجيم؟
رفعت رأسها ونظرت إليه..
بمتتاليتين تظهر ملكة القاص ع. المعموري
في قدرتها على قَص القص باللغة وفِي اللغة بعيدا عن هوس التفنن في إفراغها من ذاتها بواسطة إسقاطات فكرية عليها تحث ذريعة اقتصاديتها في التعبير.
في المتتالية الأولى، لغة قابضة وبسيطة في تكثيفها للفضاء القصصي من دون أن تُختق
بهوس المعنى ومعنى معناه إلى ما نهاية له غير عبثية معناه.
[ - لماذا كنت تنظر إليّ بريبة ...
- أنت كنت تنظرين إليّ بريبة أيضا .. ]
تبادل معطى وكأنه اتفاق ضمني بينهما على ملاحظته: نظرت إليه كما نظر إليها "بريبة". لماذا؟ لا جواب غير حقيقة أن الرجل لاحظ ولم يسأل إلا بعد أن سألت والزوجة لاحظت فسألت من دون أن تعرف أنه لاحظ فيها هو أيضا ما لاحظت هي فيه، فيأتي السؤال لكل منهما على مقاس موضوع الريبة، هو كرجل وهي كامرأة في كيفية معالجته:
[- تسأله: ما بك ؟ - يسألها: ماذا حدث؟ ]
سؤالها متعلق بمعرفة تحيل وتعود إليه، في حين سؤاله مرتبط بمعرفة مجردة وكأنه غير
معني بالأمر مباشرة بالكاد يعنيها ملتويا.
_____ ما بك؟ <—-> ماذا حدث؟ ______
سؤال بسؤال يفضيان إلى مخاثلة جواب لن يأتي أبدا.
لكنهما يؤشران على مجال تحرك كل منهما؛ الزوجة تعنيه هو ليتكلم عن ذاته والزوج يفكر فيما "حدث"، ما يكون قد وقع وغير معتاد، لكن لا علاقة له به. لها الوجود في فضاء المعرفة الذهنية - la pensée -: مابك؟؛ وله الوجود في فضاء معرفة الفعل-l’acte-: ماذاحدث؟ وسنرى كيف يصاحب هذا اللوحة الأولى والثانية؛ لكن ما يتوصلان إليه، هما معا، هو حقيقة واحدة ومشتركة :
[- وسكتنا عن الكلام]
يأتي بعد السؤال والسؤال بعد لحظة "ريبة" متبادلة التي تظل معلقة بلا جواب. هل هو انقطاع أم جواب؟
إنه كلام ممتلئ parole pleine"، ذاك الذي
يكَون الحقيقة ويعريها ويستقر بين المعرفة والرغبة (ج.لاكان)، وليس ذاك الذي يسميه ر.بارث بالخطاب الممتلئ discours plein الذي يوجد مغلقا على ذاته ونافيا فيه الآخر بشكل مطلق. كلام ممتلئ لا يسعى لإيصال معلومة أو يفيد كلاما فعليا، شفهيا أو كتابيا كان، بل هو أسلوب جديد للتفكير بالدال في حضوره الممتلئ بحقيقته؛ وسكتا عن الكلام لما أصبحا يتمتعان بحضور ممتلىء يُسقط الكلام عن الكلام لتبقى "الريبة" حقيقة دال يجمعهما ولا يحتاج إلى الكلام.
في المتتالية الثانية، تستمر ذات اللعبة في مخاثلة الجواب، وبتركيزها فقط على الزوجة التي تفوض أمره إلى فاعل آخر خفي ومنوط به فعل المحرم فتلجأ إلى التعوذ بالله: أعوذ
بالله من الشيطان الرجيم! لحظة إدراك بين بين، تؤكد وتنفي في نفس الوقت، تؤكد ما وقع لها كذات قادرة على رؤيته وتتنصل منه بنفيه وكأنه من وقعة الشيطان الرجيم. فقد يكون ما لاحظته حقيقة وقد يكون إيهاما لها أو شبه-حقيقة. لكن ما موقعة الزوج هنا؟
تنظر إليّ بريبة... مابك؟ تنظرين إلى بريبة أيضا..ماذا حدث؟
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم! لم تعوذت من الشيطان الرجيم؟
يظل الزوج في موقع بين بين، معني بالأمر وغير معني به في ذات الآن؛ هو أيضا لاحظ "ريبة" على وجهها، غير أنه يحيل لاحتمالية جواب بشيء لا يتعلق به، ولربما يتعلق بها بشكل غير مباشر: ماذا حدث؟ ويشدد على ذلك بمساءلتها عن سبب التعوذ بالله؛ مما يضعهما معا بين بين في منطقة محرمة لها دال لُغزِي يربو على ماديته وتعدد معانيه، "signifiant énigmatique"(ج. لابلانش)، كما في "وسكتنا عن الكلام" حيث الحقيقة تظل بين بين، تربو على مادية الجملة بين المعرفة والرغبة.
اللوحة الثالثة تقدم إذا "دالا لُغزيا" لا يوجد في مادية ملفوظ لغوي معين، وإنما بحركته داخل فضاء نصها، أي بتنقله في أجواء لعبة مخاثلة للجواب عنه بين زوج وزوجة ثالثهما
الشيطان الرجيم. فهي توهم بأنها تقول كل شيء، بيد أنها لا تدل على شيء، لأنها تخدم ويخدمها "دال لُغزي" ليس من طبيعته أن يقول كل شيء. وهنا لغز الرغبة: الرغبة في المعرفة: ما بك؟ ماذا حدث؟، وفِي ذات الآن
معرفة الرغبة: النظر بريبة-الشيطان الرجيم.
وبين المعرفة والرغبة حقيقة دال قد يكون لهما حقيقة لا تكشف أبدا.
تلك هي تقنية المبدع في الكتابة القصصية
من خلال كلمات جد عادية حتى في تركيبها الجملوي، تقص الحياة-"لحيظة حياة" كما تعيد تشكيلها بشكل تظل مشرعة على فهم ما لا نفهمه فيها مادامت الحقيقة مشدودة إلى طرفي حبل الرغبة والمعرفة، الرغبة في المعرفة ومعرفة الرغبة. فالتقنية فن؛ والفن لايخضع في عمقه لحسابات لغوية من أجل اللغة وتقزيمها إلى درجة تصبح فيها القصة مجرد لعبة كلمات متقاطعة؛ والقاص عادل المعموري فنان للغة القص في هذه القصة القصيرة. في اللوحة الأولى مشهدية مغلقة لحالة خيانة رجل لزوجته ينتج عنها مغادرة هذه الأخيرة للبيت، ومشهدية مغلقة أيضا في اللوحة الثانية لحالة خيانة زوجة لزوجها الذي يقتلها وعشيقها وهو في حالة جنونية، وفِي اللوحة الثالثة مشهدية تدور حول "دال لُغزي" بين زوج وزوجته. تبدو هذه اللوحات عارية ومستقلة عن بعضها البعض مادامت مشهدياتها مكتملة المحكي، ففي كل لوحة "حكاية حدث وحدث حكاية"؛ الشيء الذي يقود إلى أسئلة معلقة تتعلق بعلاقة بعضها
البعض: هل كل لوحة في "اللوحات العارية" هي في حد ذاتها قصة قصيرة؟
هنا تتجلى براعة القاص عادل المعموري في فن لغة القص في القصة القصيرة. المحكي في اللوحة الأولى والثانية ينهض على حدث ذي بداية ونهاية إذا جاز التعبير؛ وفِي اللوحة الثالتة يجعل من الدال اللغزي حدثا بالقوة يبحث عن"حكاية" بالفعل من اللوحة الأولى والثانية. كيف؟ دال الدال اللغزي في اللوحة
الثالتة يتحرك داخل مشهدية بأسئلة مركزة حول مجهول: مابك أيها الزوج؟ ماذا حدث أيتها الزوجة؟ هي تتوجس وتسأل، هو يسأل مراوغا توجسها، والمجهولX يبقى مسكوتا
عنه بينهما (وسكتنا عن الكلام). لنفترض أن اللوحة الثالتة مستقلة بذاتها وعن اللوحتين الأخريتين؛ من البين أنها لا تحمل في ذاتها مفتاح الدال اللغزي فيها، ولايمكن استجلاء
ما تدور حوله منها؛ لكن بما أن كل اللوحات تتعلق بحالة علاقة زوجية غير عادية، فهي تبدو وكأنها لوحة من لوحات هذه العلاقة؛
علاقة زوجية في ثلاث لوحات وكل واحدة في "علاقة بدون علاقة" بالأخريات: لوحات تشكل بمجموعها قصة قصيرة واحدة. فَلَو حذفنا اللوحة الثالثة لما كان للأولى والثانية أي بعد قصصي؛ ولو عالجناهم، كل واحدة بمعزل عن الأخرى لوجدنا خلوهن من كل حمولة قصصية. لذا، نجد مهارة القاص ع. المعموري في ترك كل شيء ممكن حيث كل مشهدية تبدو مغلقة ولا معنى لها في نفس الوقت إلا بعلاقاتها بالمشهديات الأخريات.
وهو لاعب خدع في القص illusionniste :
المشهدية الأولى : أزمة
المشهدية الثانية: دراما
المشهدية الثالثة: استفاقا على دال لُغزي.
إنها حلقات بعُقَد بوروميانة تبدأ وتنتهي في نفس النقطة noeuds borroméens، مما يدل على أن تأشيرة الدخول إليها وبالتالي إلى القصة لا يتبع حدثا تصاعديا أو تنازليا وإنما إعادة تشكِيلية لها. ثمة حوار بين زوج وزوجته في المشهدية الأولى إثر فعل خيانة وغيابه في المشهدية الثّانية؛ حوار في حلقة له علاقة ب "مابك؟" وغيابه في حلقة أيضا له علاقة ب"ماذا حدث؟".
للمرأة فضاء للكلام وللرجل فضاء للفعل في كيفية تدبير شأن الرغبة بينهما عندما تبتعد "وتنحرف"عن موضوعها في العلاقة. وتشكل هنا عُقد الحلقات؛
من وجهة نظر للمرأة :
- كل هذا الحب كان خداعا؟
- جسدي لن تلمسه بعد الان؟
- [ لم تتكلم المرأة العارية بشيء. حملت حقيبة يدها بارتباك وأغلقت الباب خلفها بقوة ]
أغلقت الباب بقوة لأن لها بعضا من رغبة رغبة الزوج التي تنتقل من جسد إلى آخر:
- صدقيني أنا أحبك وأنني لم ..
- اسمعيني أرجوك...؟؟
الحوار كان ممكنا بسبب طبيعة موضوع الرغبة المتنقل والذي تفصح عنه الزوجة:
- لن تلمس جسدي بعد الآن..
من وجهة نظر للرجل :
- كم أنت عاهرة إذن؟ . [ثم القتل والجنون]
وعليه، يتم الدخول إلى اللوحات من وجهة نظر للرجل مع مفارقة:
بنية أبوية على السطح تنخرها رغبةُ رغبةِ الآخر بسلطة لم تعد تملكها فتنتهي حتما بالجنون وبنية أموية structure matriarcale تعرف حقيقة موضوع رغبتها في رغبة الآخر فتنشد سلطة الحياة لها.. وذاك هو الذي يمكن من فتح قفل الدال اللغزي في مخيلة المرأة والرجل حيث الرغبة معلقة بين المعرفة والحقيقة.
أكتفي بهذه الإشارات العامة، علما بأنها تخفي بين طياتها موضوع دراسة أخرى في علاقة الراوي بالكاتب من خلال " البعد السادومازرخي" في اللوحات العارية: "
/-
تحية إبداع للقاص الفنان عادل المعموري  

_____________________________________  
الأديب / عادل المعموري - العراق

نص القصة :

لوحـــــات عــــــارية 

اللوحة الأولى

يضم السرير جسديهما معاً ، الأيدي متشابكة خلف نافذة المطر ، أغصان الرغبة تستعر بينهما فيتلاصقان ،جسد الغرفة يصحو ، شجرة الليل تذوي خلف الجدار ، ينهضا من مكانهما مرعوبين ،غطّت هيّ جسدها العاري بملاءة السرير ، ارتدى ملابسه على عجل وعيناه زائغتان تنظران إلى الرأس الواقف خلف النافذة اعتصرها الألم وهي تنظر إليهما ، والصمت يطوق ظل الغرفة بضوئها الكابي،أطلقت سراح عينيها وهي تمسح دموعها بكمها ، تبعثرت أبجديات الكلام وساد صمت ثقيل.. على حين غفلة رأت كل ماحولها يتساقط.. الريح تنسل خلسة فيرتجف السرير وتسقط الرغبة على جدران بابها المشرع ..استطاعت أخيرا أن تقول له وهي تشير بكفها المرتجف نحوهما :
__أبلغت بك الوقاحة أن تخونني على سريري ؟!
لم يحر جوابا ظل ينظر إليها مشدوهاً ، فيما تحررت المرأة الأخرى من ملاءة السرير وشرعت ترتدي ملابسها مستسلمة لكل ردة فعل عدوانية ، الطوفان حدث والموج غمر أعالي صواري السفن تكسرت مو يجات الغضب والخوف يتمدد فوق حيطان الفضيحة ..لم تتكلم المرأة العارية بشيء ..خرجت من الغرفة دون أن تنظر إليهما ..حملت حقيبة يدها بارتباك وأغلقت الباب خلفها بقوة وانسحبت ..هكذا كان ..الدموع المحتبسة في المقلتين انهمرت في ثوان ، تشدها الر غبة إلى الصراخ .حاولت أن تصرخ ..ماتت الصرخة في أعماقها ، قالت وهي تقترب منه وعيناها راكزتان في عينيه :
__أتخونني على فراشي بكل هذه الوقاحة ..كل هذا الحب كان خداعا ؟!
أي إحساس رهيب ..سقط القناع وأنكشفت ألاعيبك القذرة .
__صدقيني أنا أحبك وأنني لم .....
.صاحت به وهي تفتح باب غرفتها له :
__أخرج ودعني استبدل ملابسي كي أرحل من هنا نهائياً ؟
__.اسمعيني أرجوكِ.........؟!
__لاأستطيع العيش مع خائن مثلك ..جسدي لن تلمسه بعد الآن ..
جمعت حاجياتها ووضعتها في حقيبة كبيرة و خرجت لاتلوي على شيء .فيما انفجر هو باكياً .

.اللوحة الثانية 

. دفع الباب فجاة ، لم يصدق ما رأته عيناه ..تفرَّس بهما وهما يلوذان ببعضهما. 
غشته نوبة غثيان وهو يراهما عاريين ، مادت الأرض تحت قدميه وأصحرت روحه ،جعله المشهد يترنح كالمخمور .. .خطا نحو هما مقتربا من الرجل اللائذ خلف إمرأته ..أمسكَ بخناقه وراح يضغطهما بكفيه..استسلم له الرجل الغريب بلا مقاومة ، لحظات وانسلَّ الجسد العاري تحت أقدام السرير بلا أيمّا حركة .رفع رأسه نحوها قائلا :
__أتخونينني على فراش الزوجية ..كم أنتِ عاهرة إذن ؟
تقدم نحوها ، حاولت الهرب، أمسكها من جديلتها وأخذ يضرب برأسها وجه الجدار القريب ، صراخها لم يتعد المكان ،أسرع واضعاً كفيه فوق ودجيها وبدأ يشد عليهما ..بعد قليل ..استسلمت لقبضتيه وتكوَّمت تحت قدميه ..سحبَ جثة غريمه ووضعه بقرب جثة زوجته ..خرج من الغرفة وعاد بعد قليل حاملاً بكفه وعاءً من البنزين وسكبه فوق جثتيهما ثم أشعلهما بنار قداحته.. أوقد سيجارته وظل يضحك منهما بهستريا مجنونة. !

اللوحة الثالثة 

.
استفاقا فجأة على صوت طفلهما وهو يصرخ بصوت عال ..فتحت الزوجة عينيها نظرت حواليها .ألفت زوجها راقداً بقربها فوق السرير ..فرك الرجل عينيه ونظر إلى زوجته ..نظرت هيّ في عينيه .أطالا النظر مع بعضهما تاركين الصغير يرتقي السرير مندسّاً بينهما وهو ينشج ..قالت الزوجة :
_لمَ كنت تنظر إليّ بريبة ..مابك ؟
_انتِ كنتِ تنظرين إلي بريبة أيضاً.. ماذا حدث ؟
سكتا عن الكلام.. عادت لتضع رأسها على الوسادة وتمتمت :
_أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم ...أعوذ بالله من الشيطان الرجيم !
_لمَ تعوذتِ من الشيطان الرجيم ؟
رفعت رأسها ونظرت إليه.. لم تلبث أن انفجرت ضاحكة .
..مكث ينظر إليها ثم انفجر يضحك .. ضحكا معاً وارتفع صوتيهما عالياً 
أجفلَت طفلهما الصغيرقهقهاتهما العالية ...وضاع صوت بكائه، وسط الصخب الذي مزَّق سكون الليل

التسميات: