الأحد، 30 أبريل 2017

قراءة في القصة القصيرة 
الواقعة 
للأديب/ محمد رسلان

 نص جميل، ورشيق مكتوب ببراعة, منسوج بنكهة مستجابية . تتوهج القصة القصيرة بعناصر متعددة ، من أهمها المعالجة القصصية التي يعي فيها الكاتب أن الحكاية هي مجرد هيكل يقوم عليه البناء . إذا اكتفي القاص في المقام الأول بالحكاية، فقد اقترب من تخوم الخبر . لكن صديقي محمد رسلان نجح في استدراج المتلقي إلى الاندماج في الحكاية ومعايشتها, واستخلاص التجربة القصصية من خلال استنتاج المسكوت عنه .  كما برع صديقي القاص الجميل في توظيف عناصر البيئة الريفية , وعزف بمهارة على وتر التفاوت الطبقي حتى استنطق الفاجعة من تراكم التفاصيل الصغيرة والبسيطة في أداء يشبه الواقعية السحرية التي برع فيها الأديب العملاق محمد مستجاب انطلاقاً من حادثة صغيرة تبدأ في النمو والتصاعد كما يصنع الحجر إذ يلقي في بركة ماء , فالنص لا ينكفىء في اتجاه البؤرة ململماً خيوط الأحداث, بل ينفتح في اتجاه الخارج مصعداً التفاصيل الصغيرة مشكلاً مايشبه الظاهرة الكونية .  ويمكنني الإشارة إلى بعض ملاحظات السرد التي لم تقلل من استمتاعي بالقصة , وهي عبارات تخللت السياق إما أنها عرقلت تدفق الأحداث ، أو شكلت تدخلا وإملاء من الكاتب مايحد من تفاعل القارىء مع النص : - الجملة الاعتراضية .. " - إمعانا في المشاركة عن بعد -  " .. أعاقت السرد بلا ضرورة . تفرض رؤية الكاتب وتحد من انطلاق خيال القارىء ، فلو قلت : " ونساء يصرخن " ، لكفت . - كذلك العبارة الاعتراضية .. " - عندما ينموا - " .. زائدة ومعرقلة للسياق بلا ضرورة .  - لفظ " تصعب " دارج ، فيفضل تقويسه ، فالفعل تصعب يعني صار صعباً . أو وجد الشىء صعباً . أما المراد في السياق فهو الأسى .. " يأسون " .  - عبارة " مكونة قصة طريفة." . فيها أيضاً مصادرة على حرية القارىء في التلقي والتأويل , وإملاء لوجهة نظر الكاتب . ينبغي على الكاتب ألا يطل برأسه من بين سطور إبداعه .  - عبارة .. " لكن المحير في الأمر " .. تتنافي مع مانجح النص إضماراً في ترسيخه في وجدان المتلقي , فدون أن يصرح السياق كان بادياً أن تطلع الولد للزواج من بنت آل الوكيل محض جنون . فما تلى العبارة لم يكن محيراً ، بل كان متوقعاً . يمكن القول ببساطة .. " روى شهود العيان أن ... " .. تحياتي وتقديري لصديقي القاص المميز محمد رسلان .


نص القصة

*عندمــــــــــــــا وقعت .........
صراخ المرأة - أم نصر - شق أجواز الفضاء .... انجذب الناس ناحية الصوت ... رجال يهرولون ...و نساء - إمعانا في المشاركة عن بعد - يصرخن ... و أطفال صغار ... حفاة ... وبط ...و إوز وبهائم... تراكموا جميعا في الطريق المؤدي للدار المنكوبة....
ولم يخل الطريق من بعض العائدين الذين ارتوي فضولهم مبكرا من الواقعة ، فقفلوا عائدين ، يتصعبون علي المرأة التي هجرها ولدها الوحيد فارا بسبب الأنثى التي استحوذت علي عقله. يلوكون كلمة واحدة . تتلقفها ألسنتهم بالتبادل. وإن لم يجرؤ أحد على التصريح بها. يقذفونها كبصقــــــــــــــــة : -" فاااااااااااااجرة .
** 
إرهــــــــــــــــــاصة .........
حول كوانين النار ، والناس يسمرون ، علي رؤوس الغيطان ، وفي ظلال الأشجار الوارفة ..... في الحواصل وغرف النوم الدافئة ... أمام الأفران الحامية وفي حظائر الطيور .... حول مواجير العجين و فوق الدواب في طريق السوق ، في فصول محو الأمية و حول عربات الجاز . ........في المآتم وليالي الحناء و موالد الطهور وحلقات الذكر. .....أمام غرف العرسان الجدد في ليالي الزفاف. تفتقت الحكاية ، ثم تجمعت الواقعة ، و تشابكت خيوطها مكونة قصة طريفة.
***
 البنــــــــــــــــــــت ........
ضحكتها كانت دسمة. مفعمة بالمرح و البشاشة. و غمازتيها تلعبان علي جانبي ثغرها ، فيشرق وجهها في جاذبية خلبت لب كل من رآها. وخلبت لب ( نصر ) .... وعينيه .. وقلبه .
****
 الولـــــــــــــــــــــــــد .......
في قلب الليل. تمدد الشوق بداخله. أمضه الحنين، فماء القلب واستماء. شدت نياطه ، فعزفت لحن الوصال ، ففزع إليها من ليلته.
*****
 معـــــــــــــا منذ البدايــــــــــــــــة .......
والولد في قلبه مرض ، والمرض اسمه الحب ، والحب يفعل - عندما ينموا - معجزات ومعجزات . ومنذ افتتاحه معرض الأحذية علي امتداد شارعها اشتد عليه المرض . وعندما دست قدمها الدقيقة في " فردة الشبشب " وثب قلبه بين جنبيه . وعندما مدت يدها بالجنيهات الثلاثة أبي - متصنعا - أن يأخذها ....... ناولته بسمة صافية ، فكشر عن نواجذه في بسمة مماثلة .
" - لماذا تركت كل دكاكين البلدة وجاءت تبتاع منه ؟"
لو استطاع قنص القمر ،لفصله شبشبا فضيا علي قدها ووشاه بالنجوم........
" نبوية بنت عبد الرحمن الوكيل !!!!!!!!!!!!""
لما أزاح الباب - هيمانا بخمر الهوى - ألفي أمه نائمة ..... أيقظها ..... بعد البسملة و الحوقلة واستجلاء حقيقة الأمر استحلفته أمه - رغبة منها في امتصاص جنونه الطارئ ، وأملا في تخفيف حدة اللوثة العارضة التي ولا شك قد أصابته - استحلفته أن ينتظر حتى الصباح ، فانضوي علي نفسه حالما. ترن في أذنيه " طرقعة " نبوية بالشبشب الجديد .رائحة غادية منذ أن أسلم جانبه للأرض . وحتى أذان الفجر التالي .
******
 اليــــــــــــــــــــــد ..........
في الصباح ذهب ( نصر ) للحلاق ، قص شعره ، وشذب شاربه . اتجه صوب ( قناوي) الخياط . أحضر جلبابه الجديد - والثاني - له في عمره كله . عاد للدار . ورغم حملقة الجيران خلف الأبواب المواربة ، بعد أن أفضت لهم أمه بما ينتوي - أملا في ردعه – اصطحب ( نصر ) والدته ، تحمل - مرغمة - "زيارتها " فوق رأسها حتى دوار آل الوكيل .
إلي هنا و الأمور تسير برتابة معتادة ،لكن المحير في الأمر و ما يرويه شهود العيان أن بقاء نصر و أمه في الدوار لم يستغرق سوي بضع دقائق . شاهد الجميع بعدها " صرة " كبيرة تطير في الهواء ساقطة في عرض الطريق . وقف بعدها عبد الرحمن الوكيل ، فاردا ذراعه اليمني ... بينما سبابتها تشير ناحية الأفق خارج الدوار . عيناه تدوران في محجريهما . الزبد يتناثر علي شدقيه . وصوته يتردد هادرا:
- " برررررررررررره !!!!!!!!
وفي اليوم التالي ، وخيوط الفجر يتشابك فيها الأبيض بالأسود ،وقعت الواقعــــــــــــــــــة .
فيما بعد ، قيل أنهم قد عثروا علي الولد نصر يهيم علي وجهه في شوارع البندر، ممزق الثياب .... حافي القدمين ، ينفلت فمه تاركا خيوطا لامعة ... لزجة ... تنسال علي ذقنه و صدره ، حافرة فيه مجري طويلا . وذلك بعد استضافة قصيرة في مركز العسس . بناءا علي وشاية حاقدة - وقيل رغبة في تأديبه ، من آل الوكيل . وقيل أيضا أن عثورهم عليهما قد تم في يسر و سهولة . إذ أنه " تصادف "مرور احد الضباط من معارف آل الوكيل علي أحد باعة الذهب. في ذات الوقت الذي كانت فيه " نبوية عبد الرحمن " تعرض قرطها للبيع ، كي تستكمل حياتها مع الولد ( نصر ) ، والذي كان رابضا أمام دكان البائع بانتظار خروجها .

التسميات:

السبت، 29 أبريل 2017

قراءة في القصة القصيرة: رصاصة في الهواء .. للقاص المبدع/ حدريوي مصطفى العبدي


 الحياة مسرح كبير . 

ثمة مهندس مهيمن يسيطر على الأحداث بطريقة قد تدق على الأفهام، ما يؤكد أن مايظنه الرائي عبثاً إنما هو خطوة في سبيل المعادلة الكونية لضبط الأمور واستكمال منظومة التوازن التلقائي التي جبل عليها الكون والخلائق .  استمتع دوماً بنصوص صديقي حدريوي، وأعتذر إليه أن شغلتني أمور في الفترة السابقة عن متابعة نصوصه بما تستوجبه من اهتمام .  ويمكن اعتبار القصة المتميزة نموذجاً رفيعاً للكتابة الواقعية ، فالشخصيات واضحة الملامح والهوية، وهي متوافقة مع ظروف الزمان والمكان الحاضنان للحدث، كما أن المقدمات والتفصيلات التي احتشد بها النص حافظت ببراعة وبساطة على مبدأ السببية في تتابع الأحداث . أما أهم ملمح من ملامح الواقعية في القصة فيبدو في براعة الكاتب في الانفصال تماماً عن شخصياته فلا تكاد تلمح ظلاً لانفعال ذاتي أو انطباع شخصي , وأنما تتمتع الشخصيات بحرية وإرادة مستقلة , وتنبع تصرفاتها من صميم ذاتها متفقة مع السياق النفسي والطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها . والاشتباك المعرفي الطبقي هو مامنح النص قدرته على العصف الذهني المنتج لمستويات التأويل , فلدينا كاتب مثقف ينتمي بالضرورة الى الانتلجنتسيا يرصد بمهارة شريحة يتم فيها التفاعل بين مجموعتين من الأشخاص تشتركان في سكنى زقاق ( ام خدوج ) فيما تتوزعان ما بين الطبقة المتوسطة ( أحمد وأسرته / الدكتور مصطفى ) . والطبقة الدنيا ( عبد القادر الهواري / بائعو النعناع والسردين ) .  كما يمكنني الإشارة إلى مهارة الحبكة القصصية التي برعت في توزيع التفاصيل , والأحداث الفرعية في المكان والزمان المناسبين لكي تشكل في مجموعها تياراً يقود إلى بؤرة الحدث الرئيسية . إضافة إلى سلامة اللغة ، واتساع المخيلة التى نجحت في حشد الصور وتوليف الأحداث. سأشير فقط إلى بعض الملاحظات : - لأستاذنا يحي حقي رأي دائما ماملت إليه بشأن التفاصيل البيولوجية في السرد القصصي. صحيح أن القبح قد ينطوي على ملمح جمالي استيطيقي. لكن التفاصيل المتعلقة بالقىء وماشابهه من الأمور المتعلقة بسوائل الجسد غالباً تثير من التقزز مايفسد متعة الاستقبال . ولا يمكن إهمالها إهمالا تاماً ، لكن يمكن تحاشي التفاصيل بالمرور العابر، والإشارة، والإضمار . . 



نص القصة


ذرعه القيء ، فاستجمع ما بقي من قوته الخائرة، وقصد الحمام. مشى على رؤوس أصابع رجليه وهو يضع جماع يده على فمه حتى لا يُسمع،
 ولا ينسكب شيء من عصارة أمعاءه على الارض ، كم استطال المسافة بين غرفة نومه والحمام ! رغم ، أن بيته في غاية الصغر: صالة وغرفتين و ...
لا ريب أن مرضه استغول و بلغ مرحلة متقدمة عما كان عليه ؛ فالتعب تضاعف والألم ازداد . انكفأ على المغسل ، و أفرغ ما جاد به جوفه ذاك الصباح ، ثم غسل فمه بماء دافق غسلا حتى لا يعود شيء مما أفرغ إلى بطنه ، فيظل يتمطق مرورته، وصب على وجهه قدرا وافرا منه ، عل برودته تنعشه ، وإن لم تفعل قد تلطف شيئا من الحرارة التي تتأجج بين حناياه .
استوى ، نظر في المرآة فعكست له عينين متعبتين بالسهر والمرض، ووجها تلفه صفرة فاقعة ، تلمسه بيد مرتعشة فهاله نتوء عظمتي وجنتيه وغور محجريه.
 أحس بسخونة تدب في جسمه، تتسلقه صعودا ثم تستحيل عرقا باردا ينزل سقوطا وسط ظهره وعلى أطراف فخذيه آن تردد همس الطبيب بين دهاليز اذنيه : " أصدق القول يا سيدي إن وضعك جد حرج ، فالكبد تشمع كليا ، ووظيفته توقفت تماما، ولا علاج، ! ولا أمل ! إلا عناية الرحمن ... "
كاد أن يصيح لكنه تمالك نفسه وغمغم : " حمدا لك يارب على كل حال " .
عاد إلى غرفة النوم، و استلقى بهدوء مفرط  على فراشه خوفا أن تستيقظ زوجته، فيدخل في متاهات الأسئلة ، فيضعف ثم، يخبرها الحقيقة التي جاهد أن لا يعرفها أحد...
كان البيت يعوم في ضوء خافت تكرمت به مصابيح الزقاق ، وساكنا يمزق سكينته  نبض دقات الساعة الرتيبة ، حدجها صدفة ؛ فتفاجأ بحلول الخامسة فجرا ، لقد ظن أن الليل لازال في أوله، تأفف حسرة ،و قام من فراش بالكاد لامسه ، ثم خلع ملابس نومه، ولبس كسوته الرسمية : السروال الأزرق البحري وقميصه الموشى بنيشان الشرطة ، ولما انتعل حذاءه أدخل يده بهدوء تحت المخدة، فتحركت زوجته ودارت إلى الجهة الأخرى، وقالت له : ـ دون أن تفتح عينيها ـ " ؟ أو أصبحَ يا احمد ؟ ما بال هذا الوقت اضحى متعجلا يا اخي ...أف ؟ "
لم ينبس بكلمة و كأنه ما سمع ، بل مضى في استعداده وأخرج من تحت المخدة مفتاحا، فتح به درجا جنب السرير، وأخرج حزاما جلديا تمنطقه، وسده وهو يعد الثقب: " واحد ،اثنان ، ثلاثة ، إني لا اهزل ..بل اتحلل يا الله " غمغم .
فك عروة الغمد ،وسحب منه المسدس ، تفحصه بعناية قلبه، رفعه حتى لامس نحره ، وشرد هنيهه  ، لكن سرعان ما أعاده إلى غمده وهو يحرك رأسه يمنة ويسرة من غير أن يعيد زر الآمان ولا العقدة إلى العروة .
 شم رائحة القهوة آتية من المطبخ معلنة إنهاء أمه لصلاتها ومباشرتها إعداد الفطور، كعادتها . إنها امرأة مشغال، لا تكف عن الحركة ،ولا تنام إلا لماما رغم إتمامها الثمانين !. لحظات وكان قربهافي المطبخ ؛ لم تشعر به، فحاسة سمعها أضحت خائنة لها منذ شهور خلت، قبّل رأسها ثم هوى ومرغ وجهه في راحتها، فامتزجت دموعه ببقايا بقايا بلل وضوئها.
مررت يدها على رأسه وقالت له : " الله يرضى عليك يا بني وينقي طريقك من الشوك"  ثم استطردت :
 " عليك بزيارة طبيب، فحالك لم يبق يروق لي ،حتما أنت مريض وتكابر، زر طبيبا يا حبيبي ... في أقرب وقت ، إن كنت في حاجة إلى مال ... خذ من معاشي...بل خذه كله"
لم يرد عليها سوى أنه مد يده وأخذ كأس القهوة الممدودة إليه بيمناه ، وشريط كيك باليسرى، دلق الكأس في فمه مفرغا إياه في دفعتين ـ لا غير ـ وخرج يقضم الحلوى.
فتح الباب... فاستقبلته نسائم صيف باردة قادمة من رؤوس الجبال المكللة ببقايا ثلوج ، واحتضته نواصي الصباح بنورها البهي .
-----------------------------------------------------
طلت شمس الصباح ، وجللت بنورها زقاق ( أم خدوج ) الطويل كاشفة عن عالم رث يعوم في العفن والأزبال : أوراق وأتربة وأكياس مطاطية هنا وهناك ، وحاويات قمامة ملأى حتى التخمة فاتحة افواهها كأفراس نهر ، والكلاب والقطط تحوم حولها في وئام و سلام تلتقط ما فضل من طعام .
 نائم الزقاق ، مازال يعانق كسله ، ربما بائعو السمك الوافدون من الجهتين سيسرعون من فياقه بصياحهم المنغم والرتيب : "سردين سردين ، تن تن ... باجوووو " أو أصحاب النعناع : حين يرددون : " زياني ، زياني ... العبدي ي ي".
 فجأة، جلبة وصراخ يمزقان رتابة الزقاق، فتُشرّع النوافذ، وتشرئب الرؤوس بقدر، وتفتح الأبواب إلا بما يسمح بالتلصص، ويضحى الأثير بساط همهمات و وشوشات . مصطفى الدكتور في الرياضيات التطبيقية لم يكترث ، ولم يحفل بم يجري أسفله إنه منشغل في إطعام حمامه على السطح ، فمنذ أن سدت في وجهه سبل العمل اضحى يمارس تربية الحمام عله يقتل في طقوسها حسرته ، وينسى حظه العثر ، كلب فاطمة لم يعبأ بالهرج والمرج ، ظل متكورا على نفسه يتابع بعينيه نصف المغمضتين أجواء مسرحية طالما تكررت أمامه...
 إنه مرة أخرى عبد القادر الهواري قد أفرط في شرب الخمر وخرج ليعبر كالعادة عن حيوانيته السافلة صراخا وسبابا .. عمد إلى حاويات القمامة ودلقها على الأرض دفعا ، وانهال على كل مار قربه ضربا ، ومن كان بعيدا عنه سبه بكل بذيء وفاحش .. حتى فقيه المسجد لم يسلم منه، تجاسر عليه وسبه غير أن أمه صرخت وهرعت نحو الفقيه لتجنبه المزيد من الأذى و قبلت يده وقالت له ادع له بالهداية يا سيدي ، لعله يتوب ، استجاب لها قائلا :" ليهده الله ويأخذ بيده " . و لما صد تمتم والحنق يأكل من روحه " ليجرفه الطوفان ، وأمثاله" .
 مر بائع نعناع بجانب ع القادر وهو يجاهد أن لا يثير غضبه أكثر، بعدم الالتفات إليه، لكنه لمحه، وهجم عليه فأسقط دراجته ,وأمسك بخناقه يحاول إذلاله، لم يقاوم الرجل ، بل طفق يتوسل إليه ، تعالى صراخ النسوة واستنكار المارة والجيران لما أمعن.. . فأطل المعلم إدريس من الشرفة ومسح بعينية الشبه مفتوحتين الزقاق وتأفف تأففا عميقا ودمدم :
" أيها الشعب ليتني كنت حطابا فأهوي عل الجذوع بفأسي
ليتني كنت كالسيول إذا سالت تهد القبور رمسا برمس " ...(1)
-------------------------------------------------
داهمت أحمد آلام مبرحة ، ازدادت حدة مع الوقت ، وانتابته دوخة وتقيؤ جاف يعصر أمعاءه ، وذرعت جسمه المهدود رجفة هزت جسده، فبات عاجزا عن متابعة عمله و لم يبق عارفا حتى لمن يعطي أسبقية المرور، مما جعل من المدارة حشدا من السيارات والشاحنات و الخيول والحمير ومسرحا يضج بالزعيق والنهيق والنفير، وفطن ـ المسكين ـ أنه إذا لم يعد إلى البيت سيسقط لا محالة في الشارع، ف
فك إذ هم بالرجوع لبيته دراجته النارية المربوطة إلى عمود نور قربه ،  و شغلها بعد جهد وامتطاها ميمما وجهه قبل المنزل .
دخل الزقاق فوجده عائما في فوضى ، ولمح عبد القادر الهواري عاريا نصفه، يرغد ويزبد، والناس من متفرج ومستنكر، لم يأبه له ، فما به أكبر من أن يهتم لأحد ولا سيما لرعديد يكرهه أيما كره ! ويزدريه ازدراء ما كنه لأحد من قبله قط ! .
 وصل باب البيت ، ترجل ، ثم دفع الدراجة النارية إلى المدخل وأرخاها لتصطدم مع الحائط وهم بصعود الأدراج ، لكن رجله خانته فانثنت ، وخر ساقطا . أحس كأن جسما باردا يطوقه يضمه إليه، قاومه حاول الانفلات منه لكنه، كان أعتى وأقوى، استسلم له، مستندا الدرْجة للمدخل بلا حراك ... بلا نفس .
 في الأعلى كان قد سمع ابنه ، دراجة الأب النارية تقتحم ناصية الزقاق القريب من المنزل ، وسمعها وهي ترتطم مع الحائط ، فنزل ليستقبله كالعادة ويحظى بما يجود عليه الجيب من سكا كير ومكسرات .لكنْ وجد أباه ممددا ، اقترب منه، قبله ومرر يده على رأسه، ومسح بأطراف قميصه قطرات عرق على جبهته، و مد يده صوب الجيب ليستخرج الحلاوة. غير أن اليد الصغيرة توقفت عند المنتصف فوق الغمد .
ضحك الصغير ، سحب المسدس الذي، طالما ود أن يكون بين يده، قلبه و قلبه ، سابرا أغواره و مكوناته الغريبة على عالمه الصغير ؛ فجأة، دويٌ عظيم يهز المكان !
 ارتعب له الصغير، وطار بعده حمام مصطفى سربا متفرقا في السماء ، وطفق يحوم على السطح جفلا ، وخرج المعلم إلى شرفته وانحنى يمسح ما تحته ـ بعدما مسح السماء والأفق ـ بعينيه المتورمتين، وهل الفقيه من باب المسجد حافي القدمين ملتفتا ذات اليمين والشمال، لعله يستجلي الخطب ،و استيقظ كلب فاطمة وأ خذ ينبح ويجري على غير هدى..
تلاشى الدوي في المدى وحط صمت مميت طوق المكان جرحته ، وولولة مبحوحة لأم عبد القادر الهواري ثم صرخة : " ياولدي... قم ياولدي... مابك. ؟ "
 على الأرض المتربة، العفنة كان عبد القادر الهواري ممدا بلا حراك وثقب نازف يلمع وسط رأسه الحليق . وناس زقاق أم خدوج حيارى يتسآلون ، يتهامسون.

__________  


1ـ مطلع من قصيدة أ بو القاسم الشاب( النبي المجهول )